نبهان رمضان - المعداوي

قرية صغيرة علي شاطئ النيل لا يربطها بالعالم سوي ذلك النهر النجاشي و طريق طويل ليصل بكوبري حديد بالي يبعد عنها عدة كيلومترات . اضطر أهل هذه القرية إلي ركوب ذلك المركب البالي ليعبر بهم النيل و يطلقون علية لفظ المعدية.
اصبحت تلك المعدية هي الشيء الوحيد الذي يربط بين هؤلاء المنسيين بعالم الأحياء . تأتي أهمية ذلك الشخص الذي يقود تلك المعدية لهؤلاء البشر فهو مانح الحياة لهم . المعداوي الأخرس، الأبكم الذي يعمل دون كلل و لا ملل ليل نهار .لا تظهر علي وجهه أي علامات توحي بالرضي أو توحي بالحزن أوالفرح أوالشقاء أوالتعب أوالكلل أوالتململ، لا شيء يؤثر فيه يعمل بلا مساعد منذ توفي والده العجوز الذي ورث تلك المهنة منه . هناك من يقول أن ذلك المعداوي العجوز ليس والد ذلك الأخرس.تكثر الحكايات عن ذلك المعداوي الصغير الذي لم يترك المعدية قط حتي الكوخ المنصوب بجوارها لينام فيه نادرا ماتجده داخله. ليس له أقرباء ولا أصحاب في القرية. لكنه أدخل تطورا علي تلك المعدية بعد أن كانت تسير بالمجداف الذي يصفع صفحة النهر حتي تسير، أصبحت تسير بمحرك ديزل .أما يوم مولود ذلك المعداوي تكثر فيه الأقاويل لكن الثابت انه يوم غيرعادي.
والده كان متزوج من الخرساء التي كانت تجوب شوارع القرية بلا هدف سوي تسول لقمة تسد به جوعها حتي من كان يعطيها نقودا سواء قروشا قليلة أو جنيها صحيحا كانت تلقيه في وجهه حتي تزوجها ذلك العجوز الذي لا يترك المعدية أبدا قبل غروب الشمس وفي يوم حانت ساعة ولادتها في الكوخ الذي يقطنه ذلك العجوز ولم تستطع أن تصرخ أو تنادي عليه. عندما دخل عليها في المساء وجدها جثة هامدة وبجوارها ذلك الرضيع الأخرس الأبكم الذي لم يبك لحظة مجيئه للدنيا جاء إلي الدنيا و لم يشعر به أحد ,ورث الخرس من أمه والمعدية من أبيه ظل ذلك المعداوي الأخرس يحتفظ بعلبة الصفيح في المعدية يلقي فيها البشر بقروشهم البسيطة نظير ركوبهم المعدية ولم يتشاجر مع أحد قط بسبب قلة المقابل أو عدم الدفع.
شيخ المسجد في القرية كان دوما يصفه أنه ابن أحد الجان غضب عليه ملكهم فطرده إلي عالم الإنس عقابا له، لأن تصرفاته ليست تصرفات بشر لم يره أحد قط يأكل مثل البشر، لم يره أحد يشرب، لم يره أحد يتبول مثل البشر أو يسيل لعابه لامرأة حسناء أو لعوب، لاشيء يفعله سوي قيادة المعدية.
أطراف الليل، عندما تقل أعداد البشر الذين يعودون إلي القرية، كان يجلس في الكوخ عينه معلقة علي الشط الآخر ربما عاد شخص متأخر يشير له فيهرع في تلبية إشارته فأضاف شيخ المسجد إلي تصرفات المعداوي الغريبة أنه لا ينام مطلقا، لم تكن تلك من صفات البشر.
في الصباح الباكر لأحد الأيام تجمع أهل القرية عند المعدية و لم يجدوا أثرا للمعداوي والمعدية كانت تقف في منتصف النهر بين الشطين، بحثوا عنه في الكوخ لم يجدوه ولاأثر لشيء غريب علي الإطلاق سوي اختفائه المفاجئ الذي كان كالفاجعة التي علي أثرها تعطلت أعمال أهل القرية من موظفين سيتأخرون عن عملهم أو طلاب سيحرمون من العلم في هذا اليوم علي الأقل والمصالح الأخري لهؤلاء البشر انقطعت صلتهم بالحياة.
منهم من اضطر لركوب تلك السيارات البغيضة التي تسير بيهم عدة كيلومترات لتعبر ذلك الكوبري الصفيح البالي و بالطبع زيادة الأعباء المالية اليومية.
أمر عمدة القرية أحد خفرائه أن يعوم في النيل ليحضر المعدية للشط و يشغلها نظير نصف العائد منها كل يوم ولم يعير اختفاء المعداوي الأخرس أي اهتمام، لم يكلف نفسه إبلاغ السلطات بالبحث عن جثته في قاع النيل، ليس له أهل يبحثون عنه.
عادت الحياة للقرية بعودة المعدية لكنها بدون الأخرس. تندر أهل القرية بحكاية اختفائه عدة أيام وكثرة حواديت النداهة وعروس النيل التي أعجبت به لا سيما أنه مفتول العضلات وعيونه الزرقاء التي لا تتناسب مع بشرته السمراء.
ومازال شيخ المسجد يصر علي رأيه أنه أحد نفر الجان المغضوب عليه و قضي فترة العقوبة و عاد إلي عالمه السفلي مرة أخري، كما جاء الدنيا بلا صخب رحل أيضا بلا ولولة نساء أو لطم خدود حتي لو مجاملة كما يفعلن عندما يرحل أحد أقربائهن .مع الأيام تلاشي الاهتمام باختفائه و نسيه الناس وسط خضم الحياة. بعد فترة زمنية قصيرة، لاحظ أهل القرية أن هناك فتاة تقف علي شط النيل من جانب القرية منذ الصباح حتي غروب الشمس كل يوم و لا تتحدث مع أحد بعد اختفاء الأخرس. لم يستطع أحد ينسج حكاية حولها من حكايات النميمة والخوض في الأعراض لأن والدها شيخ المسجد كما أن المعداوي الأخرس لم يهتم في يوم بأي بشر في الحياة فهم لا يمثلون له سوي نفر يركبون المعدية ذهابا و مجيئا . ظلت هذه الفتاة علي حالتها عدة أيام حتي أصبحت الوليمة الأساسية لمجالس النميمة السرية في القرية لكن لم يخطر ببالهم شيئا سوي أنها ربما مسها جان أو عمل سفلي.
كان شيخ المسجد يقوم بعمل مقرأة في بيته كل مساء يوم إثنين و تجلس ابنته في منتصفها، منعها بالقوة من الخروج من البيت حتي لا تقف علي الشط دون جدوي كانت تهرب و تقف علي الشط، كأنها تنتظر شخصا لا يأتي أبدا.
مرت الأيام ربما مرت سنة بالتمام والكمال، اضطر والدها أن يصطحبها لزيارة طبيب نفسي كما نصحه عقلاء القرية و كان يرفض خشية أن يشاع في القرية أنها جنت.
كلما وضعت الفتاة قدمها في المعدية تركتها عائدة إلي الشط يهرول خلفها والدها الشيخ و يعيدها . هكذا عدة مرات اضطر أن يكتفها ويجلسها في المعدية وجسدها ينتفض. عندما وصلت المعدية إلي نقطة المنتصف ارتعد جسد الفتاة بقوة لم يستطع الشيخ السيطرة عليها ولا حتي بمساعدة عدة أشخاص كانوا يركبون المعدية معهما. انقلبت المعدية وغرق كل من فيها. كان يوما حزينا علي تلك القرية المنعزلة. أخرج غطاسي الإنقاذ كل جثث الذين غرقوا ما عدا جثة الفتاة بحثوا عنها عدة أيام دون جدوي، ربما جرفها التيار.مشهد جنازة الغرقي كان مهيبا، أكبر عدد يموت في تاريخ القرية في يوم واحد .اقترح العمدة جمع تبرعات من أهل القرية و تقديم طلب إلي المحافظ لبناء كوبري أمام القرية حتي يستطيعوا الاستغناء عن المعدية تماما بعد هذا الحادث الأليم. بالفعل وافق المحافظ علي بناء الكوبري وشرع في تنفيذه علي الفور. في كل عام يحدث حادث أليم في منتصف الكوبري في نفس يوم اختفاء المعداوي.


* منقول عن أخبارالادب المصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى