كارل ماركس - نقد فلسفة الحق عند هيجل..

في ما يتعلق بألمانيا ، لقد انتهى ، من حيث الأساس نقد الدين ، ونقد الدين هو الشرط الممهد لكل نقد .
ان الوجود الدنيوي للخطأ غدا مشكوكا فيه ، منذ ان أصبح دفاعه السماوي عن ذاته مفندا . فالإنسان الذي لم يجد في واقع السماء الوهمي ، حيث كان يبحث عن الإنسان الأعلى ( السوبر مان ) ، الا انعكاسا او صورة لذاته , لن يكتفي بعد ذلك بأن لا يجد سوى مظهر ذاته وحسب ، سوى اللانسان ، وإنما يبحث هنا ، وعليه ان يبحث بالضرورة ،عن حقيقته الواقعة .
ان أساس النقد غير الديني هو : ان الإنسان يصنع الدين ، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان . يقينا ان الدين هو وعي الذات والشعور بالذات لدى الإنسان الذي لم يجد بعد ذاته , او الذي فقدها . لكن الإنسان ليس كائنا مجردا جاثما في مكان ما خارج العالم . الإنسان هو عالم الإنسان , الدولة , المجتمع . وهذه الدولة وهذا المجتمع ينتجان الدين ، الوعي المقلوب للعالم ، لأنهما بالذات عالم مقلوب . الدين هو النظرية العامة لهذا العالم ، خلاصته الموسوعية , منطقه في صيغته الشعبية ، موضع اعتزازه الروحي ، حماسته ، تكريسه الأخلاقي ، تكملته الاحتفالية ، عزاؤه وتبريره الشاملان . انه التحقيق الوهمي للكائن الإنساني , لان الكائن الإنساني لا يملك واقعا حقيقيا . إذن فالصراع ضد الدين هو بصورة غير مباشرة صراع ضد العالم الذي يؤلف الدين نكهته الروحية .
ان التعاسة الدينية هي ، في شطر منها ، تعبير عن التعاسة الواقعية , وهي من جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية . الدين زفرة الإنسان المسحوق ، روح عالم لا قلب له ، كما انه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح . انه أفيون الشعب .
ان إلغاء الدين ، من حيث هو سعادة وهمية للشعب , هو ما يتطلبه صنع سعادته الفعلية . ان تطلب تخلي الشعب عن الوهم حول وضعه هو تطلب التخلي عن وضع بحاجة الى وهم . فنقد الدين هو بداية نقد وادي الدموع الذي يؤلف الدين هالته العليا .
لقد نزع النقدُ عن السلاسل الزهور الوهمية التي كانت تغطيها ، لا لكي يحمّل الإنسان قيودا غير مزخرفة , موئسة ، بل ليقذف بالسلاسل بعيدا ويقطف الزهور الحية . ان نقد الدين يدمر أوهام الإنسان ،لكي يفكر ، يفعل , يكيف واقعه بصفته إنسانا تخلص من الأوهام وبلغ سن الرشد ، لكي يدور حول نفسه ، أي حول شمسه الواقعية . فالدين شمس وهمية تدور حول الإنسان مادام الإنسان لا يدور حول نفسه .
ان مهمة التاريخ إذن ، بعد زوال عالم ما وراء الحقيقة ، هي ان يقيم حقيقة هذا العالم . تلك هي بالدرجة الأولى مهمة الفلسفة ، التي تخدم التاريخ وذلك بعد ان يجري نضح الشكل المقدس للاستلاب الذاتي للإنسان وينزع القناع عن الاستلاب الذاتي في إشكاله غير المقدسة . وبذلك يتحول نقد السماء الى نقد الأرض ، نقد الدين الى نقد الحقوق ونقد اللاهوت الى نقد السياسة .
ان ما نبسطه الآن ، وهو إسهام في هذا العمل ، يستهدف بادئ بدء بالنقد لا الأصلي بل نسخة ما ، هي الفلسفة الألمانية في الدولة والحقوق , وذلك بسبب وحيد , وهو انه يتعلق بألمانيا .
لو أردنا الانطلاق من واقع الأمر القائم ، الراهن الألماني ذاته ، بل لو فعلنا ذلك بالطريقة الوحيدة الملائمة ، أي برفض ذلك الواقع , فالنتيجة تظل مفارقة تاريخية دوما . حتى إنكار ورفض وضعنا السياسي الحالي يصبح مندرجا في غرفة مهملات الشعوب العصرية ، بشكل واقعة قديمة مهجورة . فأن أنا أنكرت الشعور المستعارة المطلية بالمساحيق ، تظل أمامنا الشعور المستعارة غير المطلية . فأن أنكرت وضع ألمانيا عام 1843 , وجدت نفسي ، حسب التقويم الفرنسي , في سنة 1789 بالكاد ، بل أجد نفسي ابعد من ذلك عن مركز او قلب الراهنية .
نعم ، ان التاريخ الألماني يتبجح بتطور لم يحتذِ تطور أي شعب في ميدان التاريخ , ولن يحتذيه أي شعب آخر . لقد تقاسمنا فعلا أوضاع عودة بعض العهود الرجعية الى السلطة شهدتها الشعوب العصرية ، ولكن دون ان نشاطرها ثوراتها . لقد عرفنا تلك العهود أولا لان شعوبا أخرى تجرأت على القيام بثورة , وثانيا لان شعوبا أخرى عانت ردات مضادة للثورة . عرفنا ذلك في في المرة الأولى لان سادتنا تملكهم الخوف , والمرة الثانية لان سادتنا لم يحسوا الخوف . ونحن – ورعاتنا فوق رؤوسنا – لم نرافق الحرية إلا في مناسبة واحدة ، في يوم دفنها .
توجد مدرسة تسوّغ حقارات اليوم استنادا الى حقارات الأمس ، مدرسة تصم بالتمرد كل صرخات القن ضد السوط منذ ان كان السوط سوطا , مثقلا بالسنين ، وراثيا وتاريخيا ، مدرسة لها التاريخ إلا أفكاره اللاحقة ، شأن اله إسرائيل حيال خادمه موسى ، إنها المدرسة التاريخية للحقوق . لقد اخترعت اذن التاريخ الألماني ان لم نقل انها هي ذاتها اختراع هذا التاريخ . إنها شايلوك , لكن شايلوك الخادم , الذي يعتنق هذا الإيمان , ويقسم على مظاهره , وعلى مظهره التاريخي , ومظهره الجرماني – المسيحي , لدى كل قطعة من اللحم ينتزعها هذا الشايلوك من قلب الشعب .
وثمة , على عكس ذلك ، متحمسون سذج ، محبون لأصولهم التيوتونية بالوراثة ، متحررون وليبراليون بالتفكير ، يذهبون للبحث عن تاريخ حريتنا فيما وراء تاريخنا ، في الغابات التيوتونية البكر . لكن ما الشيء الذي يميز تاريخ حريتنا من حرية الخنزير البري اذا كنا لا نجدها الا في الغابات ؟ وفضلا عن ذلك ، فمن المعروف جيدا ان الصدى يردد الصيحات التي تتعالى في الغابة . إذن دعوا في سلام الغابات التيوتونية البكر !
فلنعلن حربا على الأوضاع الألمانية ! فهي دون مستوى التاريخ ، دون مستوى أي نقد , ولكنها تبقى موضوع نقد , كالمجرم الذي هو دون مستوى الإنسانية ، ولكنه مع ذلك يبقى موضوع اهتمام الجلاد ، في الصراع ضد هذا الوضع ليس النقد هوى مصدره الرأس ، بل هو رأس الهوى . ليس مبضعا للتشريح ، بل سلاح , وهدفه هو عدوه ، وهو لا يبتغي دحض هذا العدو بل إبادته . اذ ان فكر هذا الوضع قد سبق دحضه . وهو في حد ذاته لم يبق موضوعا يجدر التفكير فيه , انما هو وجود جدير بالاحتقار بمقدار ما هو محتقر فعلا . فالنقد ، في ذاته ، لا يحتاج الى ان يكون منسجما انسجاما عميقا مع هذا الموضوع , لان علاقته معه قد جرى إيضاحها وصفي حسابها . فهو لم يبق غاية في ذاته ، بل غدا وسيلة فقط ، والشعور الأساسي الذي يحركه هو النقمة والسخط ، ومهمته الأساسية هي الفضح .
فالمطلوب وصف ضغط شديد متبادل بين كل القطاعات الاجتماعية , استياء عام سلبي ، ضيق في الفكر مدع وبلا صحو في آن معا ، كل ذلك يقع في إطار نظام حكم هو الحقارة وقد أصبحت حكما ، لأنه يعيش من المحافظة على كل الحقارات .
يا له من مشهد ! ان التقسيم اللامتناهي للمجتمع الى كثرة من العناصر التي يعارض بعضها بعضا بكراهيتها السخيفة , بوجدانها السيئ ، بتفاهتها الفظة , والتي يعاملها أسيادها ، بسبب الموقف الملتبس والمتشكك لكل عنصر إزاء الأخر ، على إنها موجودات موهوبة , معاملة واحدة بلا تمييز ، ولو إنهم يلبسون هذه المعاملة أشكالا مختلفة . حتى واقع كون تلك العناصر مسودة , محكومة , مملوكة , فإنها مجبرة على اعتباره وإعلانه هبة من السماء ! وفي الجهة الأخرى , نجد هؤلاء الأمراء أنفسهم ، الذين تتناسب عظمتهم عكسا مع عددهم !
ان النقد الذي يستهدف مثل هذه الظروف هو نقد في خضم المعمعة . وليس المطلوب ، في هذه الحال ، معرفة ما اذا كان الخصم نبيلا ، او اذا كان ندا لك من حيث النسب ، او كان ذا أهمية , وإنما المطلوب هو إصابته او إسقاطه . المطلوب الا يمنح الألمان لحظة واحدة من الوهم والخضوع والاستسلام وإنما يجب جعل الاضطهاد الواقع اشد وطأة , بأن نضيف اليه وعي الاضطهاد . يجب ان نجعل العار اشد شيئا وقبحا بنشره على الملأ . يجب ان نصور كل قطاع من المجتمع الألماني على انه (( الجزء المخزي )) من هذا المجتمع ، يجب إرغام هذه الظروف المتحجرة على الرقص ، بأ ن نغني لها لحنها ذاته ! يجب ان نعلم الشعب الذعر من نفسه كي نعطيه الشجاعة . ذلك سيكون إرواء حاجة ضرورية ملحة بالنسبة للشعب الألماني ، وحاجات الشعوب هي في حد ذاتها علة إروائها الأخيرة .
والكفاح ضد المحتوى المحدود وقصر النظر للوضع الألماني القائم لا يمكن ان يكون عديم الفائدة بالنسبة للشعوب العصرية ، لأن الوضع الألماني القائم هو التحقيق المعلن للنظام القديم , والنظام القديم هو النقيصة المخفية للدولة العصرية .
ان الكفاح ضد الوضع السياسي الحاضر في ألمانيا ، هو الصراع ضد ماضي الشعوب العصرية ، علما بأن ذكريات ذاك الماضي تنغصها على الدوام . ومن العبر المفيدة لهذه الشعوب ان ترى ذلك النظام القديم ، التي عرفت مأساته ، يظهر ثانية في ألمانيا ، ويقوم بمهزلته فيها . لقد كان تاريخه تراجيديا طالما كان هو سلطة هذا العالم الموجود أصلا , في حين ان الحرية كانت فكرة شخصية , وباختصار : طالما كان ذلك النظام مؤمنا بوجوده , ومضطرا الى الإيمان بمشروعيته . طالما كان النظام القديم ، بصفته نظام العالم الموجود ، يكافح ضد عالم لم يكن الا في صيرورة ، فانه كان يمثل خطأ تاريخيا كونيا وليس خطأ شخصيا . لذا فأن سقوطه كان تراجيديا .
وبالمقابل ، فالنظام الألماني الحالي ، الذي فات أوانه ، المتناقض تناقضا صارخا مع كل البديهيات المعترف بها عالميا ، الذي يعرض معدومية النظام القديم على مرأى من العالم ، يتصور فحسب انه يؤمن بنفسه ، ويتطلب من العالم ان يقاسمه هذا الوهم . لو انه يؤمن بكيانه او وجوده الخاص ، أكان يحاول اختفاءه وراء مظهر كائن غريب ،أكان يبحث عن خلاصه في الرياء والسفسطة ؟ ان النظام القديم المعاصر لم يعد إلا الممثل الهزلي لنظام سياسي مات أبطاله الحقيقيون . ان التاريخ يصنع الأشياء إلى النهاية ،فهو يمر بمراحل عديدة عندما يحمل للدفن شكلا باليا . ان المرحلة القصوى لشكل تخطاه التاريخ العالمي هي مهزلته أو مسخرته . ان آلهة اليونان الذين أصيبوا بجراح مميتة بصورة مأساوية في مسرحية اسخيليوس (( برومثيوس المكبل )) ، عادوا هذه المرة فماتوا موتا هزليا في محاورات (( لوقيانوس )) . لماذا كان سياق التاريخ هكذا ؟ لكي تفصل الإنسانية نفسها بمرح عن ماضيها . ان وظيفة المرح التاريخية هذه هي التي تطالب بها قوى ألمانيا السياسية .
ولكن ما ان توضع الحقيقة الواقعة السياسية – الاجتماعية العصرية موضع النقد ، وعموما ما ان يرتفع النقد الى معضلات إنسانية حقا , حتما يجد نفسه خارج الوضع الألماني القائم , وإلا سيكون عليه البحث عن موضوعه تحت او دون موضوعه بالذات . مثلا : ان العلاقات بين الصناعة ، وبصورة عامة عالم الثروة ، وبين السياسة ، هي معضلة أساسية من معضلات العصر الحديث . فبأي شكل أخذت هذه المعضلة تشغل بال الألمان ؟ بشكل الاتجاه الى الحماية الجمركية و (( نظام المنع )) ، والاقتصاد القومي . ان النزعة (( التيوتونية الجرمانية )) أهملت الإنسان لتعنى بالمادة ، وهكذا استفاق أصحابنا الألمان فرسان القطن وأبطال الحديد ذات صباح وقد تحولوا الى وطنيين . اذن لقد بدأ , في ألمانيا , الاعتراف بسيادة الاحتكار في الداخل ، بعد ان تم له الاعتراف بذلك في الخارج . وها نحن أولاء في ألمانيا في طريقنا لأن نبدأ من هنا ، من النقطة التي شرعت فرنسا وانكلترا تتجاوزها . ان الظروف الشائخة , النخِرة , التي يتمرد عليها على الصعيد النظري هذان البلدان , ولم يعودا يتحملانها إلا كما يتحمل الشخص قيودا – تلك الظروف هي التي رُحِّب بها في ألمانيا بوصفها الفجر الوضاء لمستقبل جميل يتجاسر بالكاد على الانتقال من النظرية الشاطرة * الى الممارسة الأشد عنادا . وفي حين ان البديل المطروح في فرنسا وبريطانيا هو : اقتصاد سياسي أم سيطرة المجتمع على الثروة ، نجده في ألمانيا : اقتصاد قومي أم هيمنة الملكية الخاصة على القومية . إذن فهم في فرنسا وانكلترا إزاء إلغاء الاحتكار الذي وصل الى نهاية محصلاته القصوى . أما في ألمانيا فالمسألة هي الذهاب الى محصلات الاحتكار القصوى . هناك هم بإزاء إيجاد الحل ، هنا إزاء استثارة التصادم بادئ بدء . وهكذا هو مثال كاف على الصيغة الألمانية للمشاكل المعاصرة ؛ ويبين هذا المثال كيف ان تاريخنا ، الشبيه بمجند جديد أخرق ، لم تكن مهمته سوى تكرار القيام بعد الآخرين بتمارين تاريخية أخرى مطروقة.
إذن , اذا كان التطور الألماني في جُماعه لا يتجاوز مستوى تطور ألمانيا السياسي ، فليس في وسع الألمان ان يتدخل على الأكثر في المسائل الراهنة إلا كما يتدخل روسي . لكن لم يكن الفرد مرتبطا بحدود الأمة في جُماعها هي أيضا أقل تحررا بكثير لأن فردا ما قد تحرر . ليس لأن اليونان تضم سيتيا من بين فلاسفتها سار السيتيون خطوة إلى الأمام نحو الثقافة اليونانية .
لحسن الحظ ، لسنا ،نحن الألمان , سيتيين .
وكما ان الشعوب القديمة عاشت ما قبل تاريخها في تخيلات في المثيولوجيا ، كذلك نحن الألمان قد عشنا تاريخنا المقبل في الفكر , في الفلسفة . فنحن , على الصعيد الفلسفي , معاصرون للراهن ، من دون للراهن ، من دون ان نكون معاصريه تاريخيا . ان الفلسفة الألمانية هي الامتداد الفكراني للتاريخ الألماني . اذن فلو عمدنا الى نقد المؤلفات البعيدة لتاريخنا الفكراني , أي للفلسفة ، أي للفلسفة ، بدلا من نقد المؤلفات الناقصة لتاريخنا الواقعي ، لأصاب هذا النقد مركز المعضلات التي يعتبرها الراهن المسألة الحقة . ان ما يكون عند الشعوب المتقدمة تعبيرا عن صراع عملي مع الوضع السياسي العصري , وهو وضع لم يتوفر بعد في ألمانيا ، ليس في البلد سوى نزاع انتقادي مع الانعكاس الفلسفي لوضع كهذا .
ان الفلسفة الألمانية للحقوق والدولة هي التاريخ الألماني الوحيد الذي يمكن اعتباره في مستوى الراهنية المعاصرة الرسمية . وهكذا فالشعب الألماني مقود الى ربط هذا التاريخ الخيالي بالوضع الذي يعانيه اليوم , والى تسليط النقد لا ضد هذا الوضع القائم فحسب ، بل ضد امتداده التجريدي أيضا . ان مستقبله لا يمكن ان يقتصر على النفي المباشر للشروط السياسية والقانونية التي يعيشها حقا , ولا على التحقيق المباشر لتلك الشروط التي يفكر بها , فأنه يتخطى منذ الآن تقريبا تحقيق شرطه الفكراني في تأمل الشعوب المجاورة . لذا فأن الحزب السياسي العملي في ألمانيا على حق عندما يتطلب نفي الفلسفة . ان خطأه لا يكمن في هذا المطلب ، بل يكمن في التمسك بمطلب لا يحققه ولا يستطيع ان يحققه جديا . وهو يتصور انه يحقق هذا النفي حين يشيح بوجهه عن الفلسفة , ملقيا نحوها بازدراء ببعض العبارات الغاضبة , المبتذلة . ان ضيق الأفق التاريخي لهذا الحزب هو الذي يفسر لنا لماذا لا يعتبر ان الفلسفة تشكل جزءا من الواقع الألماني . ولذلك أيضا يضع الحزب العملي الألماني المذكور الفلسفة تحت او دون الممارسة الألمانية والنظريات التي تستعملها . إنكم تريدون الانطلاق من بذور واقعية وحية ، ولكنكم تنسون ان بذرة الحياة الواقعية عند الشعب الألماني لم تفرّخ حتى الآن إلا في دماغه . باختصار: إنكم لا تستطيعون أن تلغوا الفلسفة ما لم تحققوها .
الخطأ نفسه ، ولكن مع عوامل معكوسة هذه المرة ، ارتكبه الحزب السياسي النظري , التي كانت الفلسفة نقطة انطلاقه .
في الصراع الحاضر ، لم ير هذا الحزب سوى صراع الفلسفة ضد العالم الألماني . ولم يحترس من كون الفلسفة ، التي عرفناها حتى الآن ، تنتمي هي أيضا إلى هذا العالم , وإنها , ولو بشكل أيديولوجي ، تكملة له . لقد التزم هذا الحزب موقفا نقديا ازاء خصمه ، ولكنه لم يلتزم ذلك الموقف أزاء نفسه انطلاقا من نفس الفرضيات الفلسفية , تمسكا بالنتائج التي اكتسبتها الفلسفة او مقدما متطلبات ونتائج استقاها من مكان آخر على إنها نتائج الفلسفة ومطالبها المباشرة . في حين لا يمكن الحصول على هذه ، حتى إذا سلمنا بأنها تستند الى أسس صحيحة ، الا ينفي الفلسفة كما كانت حتى الآن ، أي الفلسفة كفلسفة . ونحن نحتفظ بحقنا في ان نقدم وصفا أكثر دقة لهذا الحزب . ويمكن تلخيص خطأه الأساسي على النحو التالي : لقد ظن انه يستطيع تحقيق الفلسفة دون ان يلغيها .
ان نقد الفلسفة الألمانية حول الدولة والحقوق ، الذي قدم هيغل أشده تماسكا ومنطقية وسمواً وغنى ، هو في نفس الوقت التحليل النقدي للدولة العصرية وللواقع المرتبط بها ، النفي الحازم لكل نمط سابق من الوعي السياسي والحقوقي الألماني , الوعي الذي تؤلف فلسفة الحقوق التأملية أرفع وأشمل تعبير عنه ، تعبير بلغ مستوى العلم . ففي ألمانيا فقط كان ممكنا ان تولد فلسفة الحق التأملية ، هذا الأسلوب المجرد والمتعالي في التفكير حول الدولة العصرية التي يظل واقعها ما ورائيا ( حتى وان كان ذاك الماوراء يقع فقط ما وراء نهر الرين ) . وبعكس ذلك فأن الايدولوجيا الألمانية للدولة العصرية ، التي تغفل الإنسان الواقعي ، لم تكن ممكنة إلا بقدر ما تغفل الدولة العصرية بالذات إنسان الواقع ، او لا ترضي الإنسان الكلي إلا بصورة وهمية . في السياسة ، فكر الألمان ما فعلته الشعوب الأخرى . لقد كانت ألمانيا وعيهم المعنوي النظري . إن التجريد وتعالي الفكر المئناف قد سارا دائما جنبا الى جنب مع ضيق أفق الواقع الألماني وابتذاله . وإذا كان الوضع القائم لنظام الدولة الألماني يعبر جيدا عن النظام القديم في اكتماله – وهو الشوكة المغروسة في أعمق أعماق جسم الدولة العصرية – فأن الوضع القائم لعلم الدولة الألماني يعبر عن الدولة العصرية في عدم اكتمالها : يعبر عن تعفن الجسم ذاته .
ان نقد الفلسفة التأملية للحقوق ، ولو بمجرد كونها من حيث طبيعتها خصما لدودا لنمط الوعي السياسي الألماني السالف ، لا يبحث في ذاته عن غرضه هو ذاته ، بل انه يفضي الى مهمات لا حل لها الا وسيلة واحدة : الممارسة .
حينئذ ينطرح هذا السؤال : هل تستطيع ألمانيا التوصل الى ممارسة على ارتفاع المبادئ ، أي الى ثورة لا ترتفع ألمانيا الى المستوى الرسمي للشعوب العصرية وحسب ، بل أيضا الى المستوى الإنساني العالي ، الذي سيكون مستقبل هذه الشعوب العصرية وحسب ، بل أيضا الى المستوى الإنساني العالي ، الذي سيكون مستقبل هذه الشعوب المباشر ؟ على الأرجح , ان سلاح النقد لا يمكن ان يحل محل نقد السلاح ، القوة المادية لا يمكن القضاء عليها الا بالقوة المادية , لكن النظرية تغدو هي أيضا قوة مادية حين تستحوذ على الجماهير . تكون النظرية قادرة على الاستحواذ على الجماهير عندما تقيم براهينها على مثال الإنسان ad hominem , وهي تقوم بعمليات برهنة على مثال الإنسان حالما تصير جذرية , والجذري هو إمساك الأشياء من جذورها ، لكن الجذر بالنسبة للإنسان هو الإنسان ذاته . ان البرهان الجلي على جذرية النظرية الألمانية , وبالتالي على حيويتها العملية , هو إنها تتخذ كنقطة انطلاق الإلغاء الحازم والايجابي للدين ، ان نقد الدين يؤول الى هذا التعليم : ان الإنسان هو الكائن الأسمى بالنسبة للإنسان ، أي إلى الأمر القطعي , أمر الإطاحة بجميع العلاقات الاجتماعية التي تجعل من الإنسان كائنا مهانا ، مستعبدا ، مخذولا ، محتقرا ، علاقات لا يمكن وسمها بأفضل من هتاف فرنسي بمناسبة مشروع فرض رسم على الكلاب : (( يا للكلاب المسكينة ! إنهم يريدون معاملتكم كما يعامل البشر ! ))
حتى تاريخيا ، فان للانعتاق النظري بالنسبة لألمانيا مدلولا عمليا بنوع خاص . ان ماضي ألمانيا الثوري هو في الواقع نظري , انه الإصلاح الديني ( البروتستانتي ) Ia Reforme . وكما بدأت الثورة في الماضي في دماغ الراهب ، تبدأ الان في دماغ الفيلسوف .
ان لوثر قد انتصر ، على الأرجح ، على العبودية عن تقى بتعويضها بعبودية عن اقتناع . لقد حطم الإيمان بالسلطة بترميمه سلطة الإيمان .
لقد حول رجال الاكليروس الى علمانيين بتحويله العلمانيين الى رجال اكليروس . حرر الإنسان من الورع الديني الخارجي جاعلا من الورع الديني وعيا للإنسان . حرر الجسد من أغلاله محملا القلب أعباءها :
لكن اذا لم تكن البروتستانتية الحل الصحيح ، إلا إنها كانت الطريقة الصحيحة لطرح القضية . منذ ذلك الحين لم نعد أزاء كفاح العلماني ضد الكاهن ، الخارجي عنه ، بل الكفاح ضد كاهنه ألصميمي هو ذاته ،ضد طبيعته الاكليركية هو نفسه . وكما ان استحالة تحول العلمانيين الألمان الى رجال دين – وهو ما فعلته البروتستانتية – قد حرر أولئك البابوات العلمانيين ، الأمراء ، مع كل اكليروسهم المؤلف من أصحاب امتياز وجهولين , كذلك فان استحالة الألمان المكهنّين clericalises , بواسطة الفلسفة , الى بشر سوف يحرر الشعب . لكن كما ان الانعتاق لم يقتصر على الأمراء ، فان دَنيَوة الأموال والممتلكات لن يتوقف عند نهب الكنيسة ، الذي مارسته بروسيا المنافقة بالدرجة الأولى . في ذلك العهد , أخفقت حرب الفلاحين ، الواقع الأكثر جذرية في تاريخ المانيا ، أمام عقبة اللاهوت . واليوم بعد ان اخفق اللاهوت بالذات , فان الواقع الأقل حرية في تاريخنا الالماني , وهو وضعنا القائم , سوف يتحطم على ( صخرة ) الفلسفة . عشية الإصلاح الديني , كانت المانيا الرسمية أطوع خادم لروما . وعشية ثورتها أصبحت الخادم الأكثر خضوعا لمن هم أقل بكثير من روما , انها خادم لبروسيا والنمسا ، خادم الإقطاعيين والجهولين . مع ذلك ، يبدو ان ثمة صعوبة أساسية تقطع الطريق على ثورة ألمانية جذرية . الواقع ان الثورات تحتاج الى عنصر سلبي , الى قاعدة مادية . ان النظرية لا تتحقق ابدا في شعب ما الا بقدر ما تكون التحقيق العملي لحاجاته . هذه الهوة الهائلة , التي تفصل ما بين متطلبات الفكر الألماني والإجابات التي يقدمها له الواقع الألماني ، هل تؤدي الى طلاق المجتمع المدني من الدولة ومن ذاته ؟ الحاجات النظرية المباشرة هل ستكون حاجات عملية ؟ لا يكفي ان ينزع الفكر الى التحقيق ، بل يجب أيضا ان ينزع الواقع الى ان يغدو فكرا .
والحال ان المانيا لم تصعد مع الشعوب العصرية درجات الرقي الوسيطة للتحرر السياسي . بل ان الدرجات التي أرتقتها نظريا لم تصل اليها بعد من ناحية التطبيق العملي . فكيف يمكنها ان تتجاوز بقفزة واحدة خطرة لا حواجزها الخاصة فقط ، بل أيضا تلك الحواجز التي تعيق الشعوب العصرية , الحواجز التي يتحتم ان تبدو لها في الواقع كتحرر من الحواجز الفعلية ، والذي ينبغي لها ان تجهد لكسبه . ان ثورة جذرية لا يمكن ان تكون الا ثورة حاجات جذرية ينقصها كما هو واضح الشروط الممهدة والأرضية المؤاتية .
لكن اذا كانت ألمانيا قد اقتصرت على مرافقة تطور الشعوب العصرية بالنشاط التجريدي لفكرها دون الإسهام الفعلي في المعارك الواقعية التي وسمت ذلك التطور , الا انها شاطرتها آلامه دون ان تشاطرها بهجته . ان النشاط التجريدي في جهة يناظر الألم المجرد في الجهة الأخرى . لذلك سوف تجد ألمانيا نفسها يوما في دائرة الانحطاط الأوربي ، قبل ان تكون قد بلغت مستوى التحرر الأوربي . ويمكن تشبيهها بوثني تنخره أمراض المسيحية .
اذا تأملنا بادئ بدء الحكومات الالمانية ، وجدنا ان ظروف المانيا ووضعها وحالة الثقافة الالمانية وأخيرا قطرة حسنة الطالع قد دفعت تلك الحكومات الى مزج النقائص المتمدنة لأنماط الدولة العصرية ، التي لا نتمتع بمزاياها وحسناتها ، بالنقائص البربرية للنظام القديم ، الذي نتمتع به تمتعا تاما ؛ بحيث لا بد لالمانيا من ان تشارك أكثر فأكثر ، ان لم يكن في عقل , فعلى الاقل في لا عقل الأشكال الدولوية التي يتخطى وضعها الخاص . هل يوجد مثلا بلد آخر في العالم ،سوى المانيا المسماة بالدستورية , يشاطر بهذا القدر من السذاجة أوهام النظام الدستوري كلها دون ان يشاطر حقائقه الواقعة ؟ أو بالأحرى ، أليس من المؤكد انه لقية لحكومة ألمانية هذا الجمع بين تنكيل الرقابة وتنكيل قوانين أيلول الفرنسية ، التي تفترض الوجود المسبق لحرية الصحافة ؟ فكما نجد في (( البانتيون )) الروماني آلهة جميع الأمم ، كذلك نجد في الإمبراطورية الجرمانية نقائص سائر أشكال الحكم . وهذه الانتقائية سوف تبلغ مستوى لم يخطر بعد ببال : إنها الشراهة السياسية – الجمالية لملك ألماني هو ذاته الضامن لها ؛ فهذا الملك يحلم بأن يمثل كل أدوار الملكية , أقطاعية أو بيروقراطية , مطلقة أو دستورية ، ان لم يكن بواسطة الشعب ، فعلى الأقل بواسطة ذاته الملكية . ان ألمانيا – اي عورات الحقيقة الواقعة السياسية الحاضرة المتحولة الى عالم – لن تستطيع ان تتخلص من الحواجز الالمانية المميزة، دون ان تقضي على الحاجز العام للحقيقة الواقعة السياسية الراهنة .
ليست الثورة الجذرية التي هي حلم طوبوي بالنسبة لالمانيا , ليس التحرر الإنساني الشامل ، بل على العكس انها الثورة الجزئية , الثورة السياسية فحسب ، الثورة التي تترك ركائز البناء قائمة . ما قاعدة ثورة جزئية , سياسية فحسب ؟ انها التالية : جزء من المجتمع المدني يتحرر ويتوصل الى الهيمنة على جُماع المجتمع ؛ طبقة معينة تشرع , انطلاقا من وضعها الخاص ، في تحرير المجتمع تحريرا عاما . هذه الطبقة تحرر المجتمع كله ، لكن فقط عندما يكون المجتمع بأكمله في وضع تلك الطبقة ويملك بالتالي المال والثقافة ، أو يستطيع الحصول عليها حسب مشيئته .
لا تستطيع أية طبقة في المجتمع المدني ان تلعب هذا الدور ، دون ان تثير في داخله وفي الجمهور لحظة حماسة , لحظة تتآخى فيها مع المجتمع عموما وتذوب فيه ؛ حينئذ تمتزج بالمجتمع ، فيشعر ويعترف بأنها ممثله الكلي ، ان مطالبها وحقوقها هي فعلا حقوق المجتمع نفسه ومطالبه , إنها رأس المجتمع وقلبه بالفعل . باسم الحقوق العامة للمجتمع فقط يمكن لطبقة مفردة ان تطالب بالهيمنة العامة . لاقتحام هذا الموقع المحرر عنوة , وبالتالي من اجل التوصل الى ان تستثمر سياسيا كل دوائر المجتمع لصالحها الخاص ، لا تكفي الطاقة الثورية والشعور بقيمتها الفكرية . لكي تتوافق ثورة شعب مع تحرر طبقة مفردة من المجتمع المدني ، لكي تعتبر إحدى الفئات الاجتماعية بمثابة فئة المجتمع بأكمله ، يجب ، على العكس من ذلك ، ان تتركز كل نقائص المجتمع في طبقة أخرى ، يجب ان تصبح فئة معينة موضع خزي شامل , تجسيدا لعقبة شاملة ، ينبغي ان تشخص دائرة اجتماعية معينة الجريمة المفضوحة لكل المجتمع , بحيث يبدو التحرر من هذه الدائرة كأنه تحرره الذاتي من كل قيد . لكي تكون إحدى فئات المجتمع الفئة المحرِّرة الممتازة ينبغي ، على العكس ، ان تكون فئة أخرى ، بكل وضوح ،فئة مستعبِدة . ان السمة السلبية العامة للنبالة الفرنسية وللاكليروس الفرنسي كانت شرط السمة الايجابية العامة للطبقة التي كانت الأقرب إليها والمتعارضة معها : البورجوازية .
لكن تفتقر كل كبقة مفردة في ألمانيا لا إلى الحصانة ، الضراوة ، الشجاعة ، الوقاحة فحسب التي يمكن ان تجعل منها الممثلة السلبية للمجتمع . لكن ينقص كل واحدة منها أيضا هذه الرحابة في الفكر التي تتيح لها ان تتمثل وتماثل ، وأن مؤقتا ، روح الشعب ، هذه الجنيِّة التي تلهب القوة المادية وتحولها الى سلطة سياسية ، هذه الجسارة الثورية التي ترشق الخصم بهذا التحدي : أنا لست شيئا وينبغي ان أصبح كل شيء . ان العنصر الرئيسي في الخلق والشرف الألمانيين ، لا عند الأفراد فقط بل عند الطبقات أيضا ، هو ، بالعكس ، تلك الأنانية المتواضعة التي تتباهى بضيقها وتتركها تستعمل ضدها . إذن فالعلاقات بين مختلف دوائر المجتمع الألماني ليست من طبيعة درامية ، بل ملحمية . ان كل دائرة منها تبدأ تعي ذاتها وتستقر الى جانب الأخريات بمطامحها الخاصة ، لا عندما تعاني ضغطا ، بل عندما تخلق الظروف ، ودون ان يكون لها أي تأثير في ذلك ، طبقة اجتماعية أدنى منها ، تستطيع ان تمارس الضغط عليها . حتى ثقة الطبقة الوسطى الألمانية بنفسها , على الصعيد الأخلاقي ، لا تستند فقط الى انها تعي انها الممثل الشامل للسطحية الجهولة لجميع الطبقات الأخرى . ليس الملوك الألمان وحدهم هم الذين يرتقون العرش في ظرف غير ملائم ، إنما هي كل دوائر المجتمع المدني التي تشهد الهزيمة قبل ان تحتفل بانتصارها ، ترفع حواجزها الخاصة قبل تجاوز الحاجز الذي يوقفها ، يظهر كيانها في ضيق أفقه قبل تمكنه من الظهور بعظمته ، بحيث انها تفوت على نفسها حتى فرصة تمثيل دورها الطبقي قبل ان توجد هذه الفرصة ، وبحيث انها تجد نفسها في صراع مع الطبقة الأدنى منها حين تباشر الصراع مع الطبقة الأعلى منها . إذن فالأمراء يجدون أنفسهم في صراع مع الملكية ، البيروقراطية مع النبالة ، البورجوازية معهم جميعا ، في حين ان البروليتاري لا يلبث ان يبدأ الصراع ضد البورجوازي . ما تكاد الطبقة الوسطى تأخذ بفكرة الانعتاق حتى يكون تطور الشروط الاجتماعية وتقدم النظرية السياسية قد كشفا ان فكرة الانعتاق المزعومة قد انقضى عهدها ، أو انها غدت موضع شك على الأقل .
في فرنسا ، يكفي ان يكون المرء شيئا ما لكي يريد ان يكون كل شيء . في المانيا ، يجب ألا يكون شيئا لكي لا يكون عليه ان يتخلى عن كل شيء. في فرنسا ، يكون الانعتاق الجزئي قاعدة الانعتاق الشامل ، أما في المانيا فالتحرر الشامل شرط لازم للانعتاق الجزئي . في فرنسا , نجد واقع التحرر على مراحل ، أما في المانيا فمن استحالة تولد الحرية الكلية . في فرنسا ، كل طبقة من طبقات الشعب هي خيالية سياسية , فلا تعي بادئ بدء ذاتها كطبقة خاصة مفردة ، بل كممثلة للحاجات الاجتماعية عموما . لذا يعود دور المحرر , في حركة درامية , الى مختلف طبقات الشعب الفرنسي , على التوالي ، ليصل في النهاية الى الطبقة التي تحقق الحرية الاجتماعية لا بافتراض شروط خارجة عن الإنسان ، وهي في الواقع من صنع المجتمع الإنساني ، بل على العكس من ذلك بتنظيم كل شروط الوجود الإنساني ابتداء من الحرية الاجتماعية . بالمقابل ، ففي المانيا ، حيث الحياة العلمية مجردة من الفكر والحياة الفكرية مجردة من الممارسة سواء بسواء ، لا توجد طبقة في المجتمع المدني تشعر بالحاجة أو تملك القدرة على إطلاق حركة الانعتاق الشامل ، ما دام وضعها المباشر ، الضرورة المادية ، وقيودها هي ذاتها لا ترغمها على ذلك . أين توجد إذن الإمكانية الأكيدة للانعتاق الألماني ؟
جواب : في تكوّن طبقة ذات قيود جذرية و طبقة من المجتمع المدني ليست طبقة المجتمع المدني , فئة تشكل ذوب كل الفئات ، دائرة تملك سمة شمولية بشمولية آلامها ولا تطالب بحق خاص بها , لأنهم أوقعوا بها مظالم خاصة بل المظالم في حد ذاتها , ليس في وسعها التبجح بصفة تاريخية ما ، لكن فقط بصفة إنسانية ، ليست في تناقض حصري مع النتائج فحسب ، بل في تناقض منهجي مع الشروط المسبقة للنظام السياسي الألماني ، لدائرة لا تستطيع في النهاية ان تتحرر دون ان تحرر نفسها من كل الدوائر الأخرى للمجتمع ودون ان تحرر بالتالي بسبب هذا الواقع كل الدوائر الأخرى في المجتمع ، الذي هو ، بكلمة مختصرة ، الضياع الكلي للإنسان ولا يستطيع بالتالي ان يستعيد نفسه دون الاستعادة الكلية للإنسان .
هذا الذوب للمجتمع المتحقق في طبقة مفردة هو البروليتاريا .
ان البروليتاريا ما زالت في بداية تكونها في المانيا , بفضل بدايات التطور الصناعي ، فالفقر المصنوع صنعا لا الفقر الناجم عن القوانين الطبيعية , الكتلة البشرية المتأتية من التذويب العنيف للمجتمع ومن تذويب الطبقات الوسطى بالدرجة الأولى لا سحق الشرائح الاجتماعية الناجم آليا عن ثقل المجتمع ، هو الذي يكوّن البروليتاريا ، ولو ان الفقراء الذين هم فقراء بصورة اعتيادية وأقنان المجتمع الالماني – المسيحي ينضمون كذلك الى صفوفها شيئا فشيئا .
عندما تعلن البروليتاريا عن انحلال النظام السالف ، فهي تفصح عن سر وجودها ذاته ، لان هذا السر يمثل الانحلال الفعلي لهذا النظام . عندما تطالب البروليتاريا بإلغاء الملكية الخاصة , فإنها لا تفعل سوى انها تنادي بأساس للمجتمع ما جعله المجتمع أساسا لها ، وهو ما تمثله البروليتاريا دون إرادة منها ، من حيث كونها الحصيلة السلبية للمجتمع . عندئذ يجد البروليتاري نفسه , بالنسبة الى العالم المقبل , متمتعا بالحق نفسه الذي يتمتع به الملك الالماني بالنسبة الى العالم القائم ، وذلك عندما يقول عن الشعب انه شعبه ، كما يقول عن الحصان انه حصانه . فالملك ، بإعلانه ان الشعب ملكية خاصة له , لا يعني سوى ان صاحب الملكية الخاصة ملك .
ان الفلسفة تجد في البروليتاريا أسلحتها المادية , كما تجد البروليتاريا في الفلسفة أسلحتها الفكرية , وما ان يلامس بريق الفكر قلب تلك الأرض الشعبية البكر حتى يتم الانعتاق الذي سيحول الالمان إلى بشر .
لنخلص الى النتيجة الحاصلة :
ان تحرر المانيا الوحيد الممكن عمليا هو تحررها على أساس النظرية التي تنادي بأن الإنسان هو الكائن الأسمى للإنسان ذاته . في المانيا ، الانعتاق من العصر الوسيط ليس ممكنا إلا إذا جرى في نفس الوقت الانعتاق من امتداداتها الجزئية . في المانيا ، لا يمكن تحطيم اي شكل من أشكال العبودية إلا بتحطيم كل أشكال العبودية . ان المانيا ، التي تغوص الى أعماق الأشياء ، لا تستطيع ان تصنع ثورة دون ان تصنع الثورة التي تقلب كل شيء رأسا على عقب . ان انعتاق الألماني هو انعتاق الإنسان . ان رأس هذا الانعتاق هو الفلسفة ، وقلبه هو البروليتاريا . ان الفلسفة لا يمكن ان تحقق الا بإلغاء البروليتاريا ، البروليتاريا لا يمكن ان تلغي ذاتها الا بتحقيق الفلسفة . عندما تتوفر كل الشروط , فأن فجر البعث الألماني سيعلن عنه صياح الديك الغالي ( الفرنسي ) .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى