أدب السجون نزار شهيد الفدعم - جدار بين ظلمتين..

الثلاثاء بينما كنت ذاهبا إلى غرفة تجارة بغداد للحصول على رسالة من الغرفة إلى السفارة السورية لغرض تسهيل منحي التأشيرة مررت بمنطقة باب المعظم لأني تركت سيارتي في البيت بسبب قانون السير الجديد الذي قسم تجوال المركبات في شوارع بغداد مابين يوم للزوجي ويوم للفردي حسب رقم اللوحة الأخير للسيارة إذا كان زوجيا" أو فرديا"...مثل هذه المشاوير تتيح لي أن أتجول في الأسواق وأنظر في الوجوه والمارة وأتفقد أصحاب البسطات المفترشين الأرض مايعرضوه خصوصا أصحاب الجرائد والمجلات وبائعين الكتب وشأت الصدف أن يقع نظري على كتاب (جدار بين ظلمتين ) لبلقيس شراره ورفعة الجاد رجي عند ذلك تذكرت الكاتبة الراحلة حياة شراره ورواياتها الرائعة " أذا الأيام أغسقت " والمقدمة المؤثرة التي كتبتها عن ظروف د.حياة والرواية أختها بلقيس وبحكم كوني من المتابعين للوسط الثقافي والفني ولقراءتي أكثر من مقالة ودراسة أدبية للكاتبة الراحلة د.حياة شراره تأثرت جدا" على المستوى الشخصي والفني بالموت المأساوي لهذه المبدعة مع أفراد أسرتها وصمت المثقفين العراقيين والعرب عن أضطهدها وموتها التي أردت منه أن يكون رمز وعلامة في تحدي النظام الاستبدادي الشمولي .

أنا من النوع الذي لا يفصل النص عن سلوكية صاحبه التي أعتبرها هي جزء من النص ولهذا فأني ابحث عن شخصية الكاتب وظروف كتابة النص وتربيته ونشأته الأولى فازداد إعجابي بعائلة شراره اللبنانية الأصل العراقية الجنسية التي ساهمت في تنوير دياجير الظلمة أبان الثلاثينات والأربعينات في مدينة موغلة في ترسيخ التقاليد والثبات عليها الا وهي مدينة النجف الاشرف لذلك خرج أفراد العائلة وهم يملكون مبأدى وقيم تنور حياتهم وحياة اللأخرين في الدفاع عن الحق والحرية والإنسان وازداد إعجابي عندما عرفت أن المبدع المعماري رفعة الجاد رجي أستاذ العمارة الحديثة في العراق مقترن من هذه العائلة الكريمة وهو أبن السياسي البارع والمناضل كامل الجاد رجي .

عائلتين انصهروا في مؤسسة الزواج وهم نتاج بيئتين مختلفتين وتكوين مختلف لكن صهرتهم الثقافة الواحدة التي كانت سائدة آنذاك في سنوات الأربعينات الخمسينات فكانت ثمرة ذلك كتاب "جدار بين ظلمتين " الذي سمعت وقرأت عنه أكثر من مقالة لكن أن تقرأ النص الأصلي فهذا هو الأساس .بدأت في قراءة النص ليلة الخميس 20/12/2007 الساعة الثامنة والربع مساءا" وأنهيته الساعة 4:35 صباحا أثناء ذلك انقطعت الكهرباء الوطنية ثم انتقلت إلى المولدة وبعد الساعة 2:30 فضلت تكملة قراءة الكتاب على الفانوس النفطي. عملية القراءة المتواصلة في مثل هذه الظروف متعبة خصوصا عندما تنقطع الكهرباء فتفقد التواصل لكني لتأثير الكتاب عليه قررت أن لأأوجل قراءته إلى يوم أخر لأني شعرت أنه متماسك ومكتوب بنفس واحد ومجرد أن تتركه فانك عندما تعود إليه ستفقد شيء من الإحساس ومن الألم اللذيذ الذي تركه السرد في وجدانك وقلبك وفكرك عن تلك الأيام السود التي ابتلى بها العراق وأهل العراق بالنظام الشمولي الواحد .

بلقيس تهدي الكتاب إلى أم رفعة " صاحبة العينين الدامعتين عندما اختفى رفعة والى نصير الذي كان سندا" لي طوال المدة التي قضاها رفعة في المعتقل "هذا وفاء لعلاقة إنسانية وعائلية ترسخت واشتدت في أيام الشدة والمحنة .

ورفعة يقدم في التمهيد " تعرضنا نحن وعائلتنا وأصدقائنا لمحنة دامت عشرين شهرا" كانت تجربة قاسية ومحنة لايمكن للذاكرة أن تتغاضى عنها وتنكرها وبعد أكثر من خمسة عشر سنة قررنا أن ندون تلك الإحداث لكي لاتضيع في متاهات النسيان والزمن ".

في ربيع 2001 اتفقوا كل من بلقيس ورفعة على صيغة ألكتابه ودور كل واحد منهم ، بلقيس تكتب من الخارج ورفعة يكتب من الداخل " في أحداث تلك المحنة كان يفصلنا جدار غير قابل للاختراق جعلا كل منا في ظلمة بمعزل عن الآخر ... لذا قررنا أن يكتب كل منا من موقعه من ذلك الجدار الذي فصلنا " رفعة ص 11

أن كتابة هذه المذكرات هي نوع من الاستنكار للسلطوية على أرادة الإنسان أيا أن كان مصدرها علماني طائفي فئوي وكان الهدف منها أن تكون ولو جزء ضئيل من الخزين المرجعي السياسي الذي يمكن تفعيله وتحديثه من خلال أبناء الشعب الذين تعرضوا للاضطهاد والذين سوف يتعرضون مستقبلا" ليكون أداة فاعلة في التوجه القادم للعراق والعراقيين من خلال التدوين والشهادات الحية الشفاهية والمصورة.

بيوت العراقيين وتحت سلطة النظام السابق تعرضت إلى النهب والدمار والتشريد والخراب والاعتقال والقتل المجاني بحروب عدوانية صنعها النظام وكان وقودها مئات الألوف من أبناء الشعب الذين كانوا يساقون إليها جبرا" وليس لهم خيار وإذا كان هناك من يقف ضد إشكال الحروب التي خاضها النظام وسياسته التي جرت البلاد إلى الويلات والنكبات فعملية تخوينه وسوقه إلى المعتقلات وحبل المشنقة تتم بكل يسر وسهولة وتحت أنظار الجيران والاصقاء والأقرباء ورجال الحزب والسلطة دون أن يعترض أحد ؟!


أذن لماذا بلقيس ورفعة ؟

أولا": لأنهم دونوا ماحصل لهم ""هذا الكتاب سيرة ذاتية واقعية لمرحلة زمنية لاتتجاوز أكثر من عشرين شهرا " وسرد للإحداث التي عانى فيها كل منا _أنا ورفعة_من وطأة الاعتقال والحكم المؤبد الذي صدر بحقه " بلقيس ص9 ...أيضا" الموضوعية في تدوين الإحداث والمصداقية هي عنصر أساسي في هذه السيرة فليس هناك مبالغات وليس هناك مواقف عنترية هناك رجل يبحث عن حريته مع محققيه رغم علمه وعلم محققيه أنه ليس هناك تهمة موجهة له، وعائلة تحاول بكل الوسائل إن تؤثر على أصحاب القرار لاأطلاق سراح ولدهم حتى لو اقتضى الأمر مقابلة رأس النظام واستعطافه بعد أن فقدوا الأمل في تحقيق العدالة في بلد غائبة العدالة عنه منذ زمن طويل .

ثانيا": عدالة قضية رفعة واضحة منذ الوهلة الأولى لكن الحقد الطبقي والضغائن الشخصية هي التي قادته إلى الحكم المؤبد.

ثالثا": قضية رفعة أصبحت قضية رأي عام ولذلك لحظنا إن شخصيات كبيرة من جانب حزب البعث وشخصيات عامة عراقية وعربية كانت تتوسط له لكنها كانت تجابه بجدار صلد من الرفض.

رابعا": دراماتيكية ماحصل في أطلاق سراحه رفعة في السجن يقضي عقوبة المؤبد رأس النظام يحتاج الى مهندس لينهض بالواقع العمراني لبغداد فيشير له أحدهم أن هناك أثنان ممكن يتكفلان بالمهمة واحد جوه والاخر بره فيقول رأس النظام (اللجوه نطلعوه والبره نجيبوا ) بلقيس ص 309.

أين هي العدالة ؟ وأين هي التهمة ؟ وأين هي المحكمة التي أصدرت الحكم ؟

ولماذا كانوا يرفضون كل الوساطة لاأخراجه من سجنه وعدم تقديمه لمحكمة الثورة ؟!

ولماذا كانوا يتشدقون بالعدالة مادامت العدالة والمحاكم ألعوبة با أيديهم ....وممكن برمشةعين إن يزجوا أي شخص بالسجن ويتناسوه إلى إن يأكله القمل والبرغوث والجوع وعذابات السجن والسجانين ....

الحدث يبدأ كأي فلم هوليودي زوجة وزوجته عائدين إلى وطنهم من رحلة سياحية لكابول ولندن عام 1987 وصلوا إلى دارهم الخميس تخطفه المخابرات من إمام داره السبت صباحا" ويترك فطور الصباح وفنجان القهوة على الطاولة ولا يعود الأبعد عشرين شهرا ...في التحقيق يتحول رفعة إلى متهم ويتعرض إلى صنوف العذاب النفسي والحرمان رغم إصرار رفعة بأنه لم يتعرض للضرب وفي الخارج هناك عذاب أخر أشد قسوة وأشد الما" للزوجة والأم والأخ في البحث عن رفعة ومعرفة مصيره .مشاعر مضطربة وألم دفين وشخصيات تتكشف على حقيقتها وتبدو ضعيفة أمام مواقف أنسانية أشد مانحتاجها لنشد من أزر بعضنا البعض أمام قساوة النظام الاستبدادي تقول بلقيس عن د . علي كمال العالم النفسي وهو فلسطيني الجنسية "عندما أخبرته باعتقال رفعة قال لي:ها رفعة مريض وهل هو بالمستشفى ؟ تجنب استعمال كلمة الاعتقال خوفا " من إن يكون مراقبا دخلت منذ تلك اللحظات كلمات جديدة في قاموسنا فكلمة معتقل حلت محلها كلمة مريض وكلمة المخابرات حلت محلها المستشفى كان الفضل يعود في أنشاء المصطلحات الجديدة إلى الدكتور علي "" ص27 بلقيس وعن جبرا إبراهيم جبرا تقول بلقيس ص59"" لم ينقطعا عن زيارتي وزيارة رفعة في السجن طوال فترة المحنة التي مرت بنا"" . ماأعظم الرجولة والوفاء يااستاذ جبرا وهذا الكلام ينطبق على محمد غني حكمت والكاتب والمؤرخ نجدة فتحي صفوة والكثيرين من أصحاب المروءة والشهامة والرجولة الذين أبوا أن يتخلوا عن مبادئهم الأصيلة وعادتهم وتقاليدهم في إغاثة الملهوف ومد يد الخير ولو بكلمة طيبة أو نظرة حنونة .

يقول رفعة ص45" بعد أن انتهى من أفراغ جيوبي وتسلم محتوياتها قال لي من ألان أنت رقم لااسم لك ورقمك 200 فانسى اسمك . وفي زنزانة المخابرات رقم 26 حشر مع خمسة أشخاص بمساحة لأتزيد عن متر وسبعين سنتمترا" عرض ومترين طويل " لايستطيع أحد منا تحريك جسمه الابما يؤمن القليل من راحة العضلات لكي لاتتشنج وتتعطل عن الحركة كليا وحتى تلك الحركة الجزئية لاتتم من غير أن يحتك بدن ببدن آخر"ص107 كنت في حيرة من أمري عندما نظرت إلى الصحن كيف يأكل أربعة أشخاص من صحن واحد بلا ملاعق ؟ أخذ كل منهم صمونة ونحت رأسها على شكل قريب من الملعقة وهو الإجراء المعتاد اليومي لهم ..كان الحساء لذيذا جدا " بالنسبة لي بعد صيام دام يوم كاملا بلا طعام .

في ص126يكتب رفعة كان بين الحين والأخر يفتح باب الزنزانة فجاءه ويرمى بيننا جسم أما مهزوز أو مدمي من التعذيب ويكون ذلك الفرد في جميع الحالات في حالة من الارتباك التي تستمر ساعات أو أياما فلا يتكلم مع الأشخاص المتمددين أو المكورين في الزنزانة نفسها خوفا إن يكون احدهم جاسوس للمخابرات ....الخوف موزع للجميع بالعدل حتى لوكا نوا داخل سجون المخابرات وفي الصفحة المقابلة يكتب 127 " القمل نوعان أسود يستوطن في الرأس وأبيض يستوطن بين طيات الملابس " وهذا نوع من التعذيب النفسي الجسدي كانت تمارسه المخابرات لااهانة المعتقلين عندما تتركهم أياما وأسابيع وأشهر بملابسهم المتسخة وهناك مقولة لسعدون شاكر مدير المخابرات آنذاك عندما شاهد رفعة الجادجي بصحبة مدير مطار المثنى وهو يسير بكامل اناقته "والله لاخليه بملابسه عليه لمدة ستةأشهربس نستلم الحكم " هذا هو الحقد الطبقي ،وطبق هذه المقولة عندما سنحت له الفرصة .في السجن يغدو الأكل مشكلة والاستحمام مشكلة والتغوط مشكلة وعليك مجابهتها ...وكان على رفعة إن يتكيف مع وضعه الجديد سجن المخابرات وسجن أبو غريب وهناك التقى بااكثر من شخصية أجاد قلمه وصفها خصوصا شخصية أبو كرم كما جذب انتباهه شخصية وزير الدفاع السابق عبد العزيز العقيلي الذي دس له سم في الطعام ومات داخل السجن مسموما" كما أنه لم ينسى وصف مشاعر الشاهد الذي ذهب إلى محكمة الثورة وخرج منها محكوما"بعشرة سنوات أو ذلك الكردي الذي اتهم بسرقة دبابة وحكم عليه بالسجن والذي يصرخ وسط السجن يوميا إني سيارة مااعرف أسوق كيف أسرق دبابة وأجاد في وصف العلاقة التي نشأت بينه وبين السيد عطا عبد الوهاب داخل سجن أبو غريب حيث كان يقضي عطا محكومتيه علاقة تعارف وصداقة نشأت بفعل التقارب الثقافي والفكري والتبادل المعرفي عبر الحوار

الجانب الأكثر حيوية في الكتاب لأنه جانب حسي حركي عاطفي هو الجانب الأخر جانب بلقيس التي حاولت أن تكتب وتصف مشاعرها وردود أفعالها مما تواجه يوميا من قساوة ونكران من بعض الذين كانوا في يوما ما أصدقاء وقد أجادت برسم صورة قلميه لحركة المجتمع عندما يواجه ظروف كالتي مرت بها "أصبح العراقيون لايتكلمون إلا لغة الإلغاز وأصبح استعمل الشيفرة اللغة السائدة بين الناس فالجميع ....يعتقدون أن ثمة رقيبا" يتنصت على مايتفوهون به لقد أصبح الرقيب قابعا في الذات العراقية".

وفي السجن حاول رفعة إن يقاوم ويواجه السكون والجمود والخمول والجنون والموت التدريجي الذي ينتاب أصحاب المحكوميات الثقيلة (حكم مؤبد) عندما بدأ ينفذ مشاريع مؤجله في القراءة والكتابة فقرأ خلال فترة سجنه مائة وستين كتابا" واستنسخت له صفحات وفصول من مئة وعشرون كتابا" وكتب كتاب صورة أب وشارع طه وهامر سمث ومعظم كتاب الاخيضر القصر البلوري ولم يكن يتحقق ذلك لو لا زوجته الوفية والمضحية بلقيس حيث أخذت على عاتقها أيصال الكتب إليه والمستنسخات وتهريب كتاباته لخارج السجن .

الظلمة صارت ظالمتان واحدة في الداخل وواحدة في الخارج والظلم أصبح واحد في الداخل وواحد في الخارج لااريد أفسد متعة قراءة هذا الكتاب حاولت أن اعرض منه مقتطفات باعتباره من أدب السجون وتسجيل إلى ماالى إليه الوضع قبل عام 1981 عندما بدأت السلطة تحكم قبضتها على الشعب وأصبحت أكثر دموية .


نزار شهيد الفدعم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى