الجنس في الثقافة العربية أسامة غانم - سلطة الجنس

إشكالية المصطلح
هـل الايروتيكية كتابة عن الجســـد بصورة غير فاضحة ، غير مندفعة لرسم العملية الجنـسية ؟ والبونوغرافيا كتابة عن الجسد بصورة اباحية ؟
اذا علمنا أن الايروسية – نسـبة الى الاله الاغريقي ايروس اله الحـب والرغبـة الجنـسية والـشهوة والخصوبة - هي التعمق في اظهار المشاعر الحسية من دون التطرق الـى العملية الجنسية ، اما الايروتيكية فهي التطرق الى العملية الجنسية دون الخوض فـي تفاصيلها واليآتها ، الا انها تسعى الى رفض النظرة الدونية الجنسية التي كانت تبثها الثقافة المركزية القضيبية بالنظر الى الجـسد كسلعة ، ولكن هذا المصطلح واجهه اشكالية حقيقية مــع مايعرف بالكتابة الإباحية / البورنوغرافيـــا حيث البورنوغرافيا تعني حرفياً باللاتينية : رســم المومسات ، وبمرور الوقت تحولت الكلمة الى الادب الاباحي او فن الفجور ، فالبورنوغرافيا تخوض فـي جزئيات العملية الجنسية وتصوير مجونها وجنونها، ويطلق عليهــا ( ادب المواخير) ، لـذا فان مصطلح الايروتيكية نراه قد اعتراه الكثير مــن ســـــوء الفهم القـرائــي ، وسوء الاستيعاب للمفهوم الحقيقي للمصطلح ، بل حتى فــــي الرؤية عند البحث والدراسـة والتأويل ، رغـم الايروتيكية والبورنوغرافيا لا يفصل بينهمـــا الا خيط رفيع ، ولكن علينا ان نعلم بان الايروتيكية تستند على ثلاث ارضيات لها معنى ومحتوى مع دلالة عامة ، ففيها الحوافز العدوانية مثـل الاغتصاب ، وفيها حوافز الإغواء والاغراء ، وفيها المعنى الفلسفي الذي يحث الإنسان على ان يتحرر مـــن حيوانيته من خلال الايروتيكية، وهنا يتلخص التمايز/ الفرق في نقطة واحدة بينهما حيث البورنوغرافيا تهتم بـ شطحات و جغرافية الجسد والايروتيكية بالإانسان .
*هل الكتابة الايروتيكية هي كتابة عن فتنة الجـسد ، وعن كيفية إغواء جـسد الآخر، او تسـليط الضوء على انبعثات الجسد وتحولاته وتشظيه وفناءه فـي الآخـر ،وتفاعله وحلوله في لحظة السمو عن كل مايحيط به من اشياء ، والانسلاخ عن زمكانية اللحظة ، اي أن يتوقف الوجود في هــذه اللحظة ؟
* هل الايروتيكية لغة مجازية تضع حملها على بلاغة الجسد وتأويلاته المضمرة ؟
هل الايروتيكية ام البورنوغرافيا تعد ادانة مباشرة للجــسد ولماذا ؟ *
* هل الكتابة الايروتيكية ضرورية للمجتمع لكي تضعنا في صميم الحدث للجــسد ؟
* هل الكتابة الايروتيكية هي بوابة للمضمر والمسكوت عنه فــي الثقافة البطريركية – القضيبية للتحرر من ثقل المكبوت السوسيو- تاريخي الواقع على الذاكرة الانثوية المجتمعية ؟
يقول ارسـطو " الدًهشةُ هــي بداية المعرفة " ، ولكني اقول ان الدهشة هي بداية التجربة / الاكتشاف ، فالتجربة هــي فعل انساني يدهش المتلقي ، ويدهـش الفاعل ، لوضعه فـــــي صلب المعرفة وفــــي جوهر الواقع من دون اللجوء الى الاباحية المنفلتة المبتذلة التي تجعل الكاتب يقع فــي خانات البورنوغرافيا . و كما قال اريك فروم أنه لا غرابة في مزاوجة الحياة الجنسية السرية والمعرفة ، لأن " المعرفة مرتبطة لدي الانسان باكتشافه لحياته الجنسية ، لكن هذا الاكتشاف لم يكن بدون ثمن. لهذا كانت الخطيئة ثمناً لاكتشاف المعرفة ، كما كان العقاب والتعذيب ثمناً لخطيئة بروميثيوس ، خطيئة إضاءة عتمة حياة العبيد في قدم جبل الأوليمب ، جبل الآلهـــة ، كما تقول الآسطورة " .
تقول الكاتبة امال عواد رضوان في دراستها الموسومة " ظاهرة الكتابة الايروسية عنـد المرأة" المنشورة فــــي موقع صحيفة المثقف العدد 2345 فــي 2/2 / 2013 : ( لدينا كاتبات كثيرات يمتلكن ناصية الـسرد والرواية والشعر ، وهــن علـى ثقافةٍ واسعةٍ ، يزخرُ ابداعُهن بملكة اللغة والادوات والاسلوب الابداعي ، وبحس مرهفٍ ومعالجةٍ ادبيةٍ راقية للاشـياء ، بقالبٍ درامي فني جميل مقبول ... وتناول الجسد بجماله وقدسيته وكنهه الجميل ، التي تلجأ الى كونية الاحاسيس العميقة الرزينة ، وتستلهم ابعادها من جزيئيات قوالب الحياة ، وتفتح مدارك واسعة الٌرَؤى ) .
تاريخية الايروتيكية العربية
لم تخلى الكتابات العربية من الايروتيكية المعتدلة ، اوالبورنوغرافيا المتطرفة المتلبـسة بالشهوانية الاباحية ، وماوصلنا من الأدب الجاهلي ليس بالقليل : سيرة الملك سيف بن ذي يزن ، ومعلقــــة امرىء القيس ، ورواية اساف ونائلة صنما قريش اللذان كان يذبح عليهما تجـاه الكعبة ، وكانا مــن قبل رجلاً وامرأة دخلا الكعبة ووجدا خلوة فتضاجعا فيهـــا " فمسخهما الـله حجرين" 1 .
ففي الجاهلية كان هنالك اباحة غير مقيدة فـي الجنس ،سميت فيما بعد في صدر الاسلام بـ الأنكحة المهدومة ، وهذة الانواع مــــــــن الانشطة الجنسية ( = النكاح = التزاوج = المضاجعة ) الغيت عند مجىء الاسلام ، ونظمت الحياة الجنسية علـــــى ضوء التشريعات والقوانيـن المستمدة من آيات القران الكريم ، واصبح الالتزام بها واجب ديني ودنيوي، واي متجاوز لهـذة التشريعات يقام عليه الحد ان كان رجلاً او امرأة ( الزانية والزاني فاجلدوا كــل واحد منهما مائة جلدة – النور 2 ) .
ويمكن اجمال الانشطة الجنسية التي كانت موجودة في صدر الجاهلية والغائها الاسلام ، فيما بعد ، بما يلي : نكاح الاستبضاع – نكاح المخادنة – نكاح البدل – نكاح المضامدة – نكاح الرهط – نكاح الـسر – نكاح الشغار – نكاح المساهاة – نكاح المقت – نكاح المحارم – نكاح الزنا – نكاح البغايا – ولا نستطيع ان نزعم اننا عددنا كل الانشطة الجنسية التي كنت سائدة في الجاهلية ، بالاضافة الى اللواط والسحاق .
فمثلا ان نكاح الاستبضاع ذو اصول بدائية – نسلية وليست متعة- شبقية ، وهذا النوع مـن النكاح موغل في القدم قبل الاسلام بالاف السنين . فمن الماثور الاسطوري العربي ان اخت لقمـان بن عاد ، وكانت امرأة ضعيف النـسل ، قد قالت لاحدى نساء لقمان : (( هــذة ليلة طهري وهي ليلتك ، فدعيني انم في مضجعك ، فإن لقمان رجل منجب ، فعسى ان يقع عليٌ فانجب )) فوقع على اخته فحملت بلقيم 2 . ونكاح المضامدة هو ان تتخذ المرأة زوجاً اضافياً أو خليلين ، زيادة على زوجها ، لاسباب اقتصادية ، فعن الفراء "الضماد ان تصادق المرأة اثنين او ثلاثة ،في القحط ، لتاكل عند هذا وهذا لتشبع " 3 . وقيل ان هند ابنة النعمان بن المنذر كانت قد احبت زرقـاء اليمامة ، وساحقتها في قصور المناذرة قبل الاسلام محرزة قصب السبق في هذا المضمار .
ثم تطورت هذه الكتابة و أخذت أشكال مختلفة عند الجاحظ والتوحيدي ، ووصلت ذروتها في ألف ليلة وليلة ، والتيفاشي ( ت 651 هـ / 1253 م ) " نزهة الألباب فيما لايوجد في كتاب " ، وعند القزويني ( ت 675 هـ / 1277 م ) في كتابين " جوامع اللذة " و " الأسرار " ، والتجاني ( ت 710 هـ / 1310 م ) " تحفة العروس ونزهة النفوس " ، و النفزاوي ( النصف الاول من القرن 8 الهجري / القرن 14 م ) " الروض العاطر في نزهة الخاطر " ، وكتاب " تنوير الوقاع في أسرارالجماع " ، و السيوطي ( ت 911 هـ / 1505 م ) " نواضر الأيك في معرفة النيك " و " الوشاح في فوائد النكاح " .
ولقد تميز العصر الاسلامي عن الجاهلي بكثرة الرقيق والجواري والقيان والغلاميات والخصيان وانتشار المخنثين وكثرة اسواق الجواري، ( وتشير مدوٌنات الأدب العربيَ وكتب الاخبار والتاريخ أنَ خلفاء بني العباس وابتداء بهارون الرشيد قد انكبوا على مباهج الجنس ولذائذه ، وأنهم اطلقوا لرغائبهم الاعنَة فـــــي سبيل الارتواء الجنسي الذي لم يكن يُروى . ولـــم تقتصر أنشطة الخلفاء العباسيين على الجوراي فحسب بل إنها شملت الغلمان والشذوذ الجنسيَ) 4 ، لـذا يعتبر الامويين بجانب العباسيين في الانشطة الجنسية المبتكرة المتنوعة اتقياء ، وعليه يعني هذا أن الحضارة العربية الاسلامية شكلت وأسست بيئة خصبة للخطاب الجنسي ، ليس ذلك فحسب بل عملت على تعميقه والحفر عليه ، وهـذا أدى بدوره الى خلخلة النظـام السوسيولوجي ، وتفاقـم الصراع الطبقي ، لأن الجنس مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالابعاد : الاقتصادية – الا جتماعية - التاريخية ، بل أن التراث كانت له انتهاكات كبرى في مجال الجنسانية العربية الاسلامية ، مما جعل المجتمع يقسم الى قسمين : الخلفاء والوزراء والولاة والقضاء والاغنيــاء اي اصحاب الراسمال والسلـطة ، وفي الجانب الاخر الجماهير التي تعيش حرماناً وبؤساً جنسيين ، وتخضع لمراقبة ومعاقبة اذا قامت بفعل جنسي مخالف للأنظمة التـــــــي وضعتهــــــا الموسسة / السلطة ، هـذا الاختلال بحقل الجنسانية مكن خطاب الفقه مـــن الخروج ببديـل منهجي قائم على التحريم والتدنيس ، وذلك لالتقاء مصالح الخطاب الفقهي مع الموسسة الحاكمة والمرجعية الدينية .
وإن هذه الخلخة الجنسية انحصرت في جنسانية الذكورة فقط ، بمعنى انها كانت قائمة بين الذكر- السلطة والذكر- اللاسلطة ، بين الذين يمتلكون المال والذين لا يمتلكونه ، بين سلطة المال والافلاس ، هنا المسألة اخذت ابعاداً انسانية فلسفية ، برؤية احادية متفردة في انحرافها ، متميزة في مجونها ، عميقة في تحولاتها ، عنيفة في تعاملها مع الاخر/ الفقير ، ممــا انتج مجتمع وصل الانقسام الجنسي فيه الى درجات مخيفة ، كانت من الاسباب المباشرة في انبعاث الثورات، كـ ثورة الزنج 5 والقرامطة .
ولقد تشكَل خطاب الجنسانية ، ونضج ، وتكامل في فترة المعتزلة ، وكان الجاحظ المعتزلي مـن الرواد في هـذا الحقل ، فلقد تعمق في استنطاق النصوص والموروث الديني واستشرافها واستقراها في اغلب كتبه . كـل ذلك ادى الى حصيلة متراكمة لــ مؤسوعية جنسانية في الثقافة العربية الاسلامية ، مركبة مـن المخيلة اللامقيدة والوقائع التاريخية حيث جعلـه في قمة الالمام العميق عند وضـع مدوناته .
ويكاد يكـون كتاب الاغاني لأبي فـرج الاصفهاني ‘ موسـوعة متكاملة في تناولها لسرديات هذا الخطاب الجنسي ، مـن الحيـاة الجاهلية الجنسية مروراً بصدر الاسلام ، حـتى العصـر العباسي.
وإن الذي يراجع ماكتب في " الجنسية العربية يفاجاُ بضخامة المُدونــات الجنـسية ، وهذا يدلُ على أنٌ الثقافة العربية قـد فعَلت مرجعياتِ متنوعة مـن أجـل إنـتاج المعرفة الجنسية الهائلة التي ستفسر عن تكاثر الخطابات وانتشارها وتباين مرجعياتها وتعدد مجالاتها " 6 ، وهــذا كله يبين مدى رواج وكثرة صناعة الأدب الايروتيكي في مختلف العصور العربية – الاسلامية .
ولم يأتِ احــــد بعد الجاحظ ( ت255 هـ ) بعمقه وشموليته ورؤيته العميقة لموضوعـة الكتابة الجنسية إلا بعد قرون ، ألا وهـو جلال الدين السيوطي ( ت 911 ) الــــذي يُمثٌلُ واحداً من الموسوعيين المتميزين الذين خاضوا في حقل الكتابة الجنسية ( الايروتيكية ) ، ويُشير السيوطي الى " عكوفه الطويل على التأليف في (( فن النكاح )) ، بعـد أن أدرك أنَ المصنفات التي سبقته تراوح بين الاسهاب والاختصار من جهة والاستيعاب والتقصيرمـن جهــة اخرى ، الأمر الذي حفزه على الخوض في حقل الكتابة الجنسية بدافع الإضافة وتخليص الخطابات الجنسية من آفات النقص والقصور وطلباً للدقة والكمال " 7 .
وماحققتة الثقافة العربية الاسلامية على يد علماء وفقهاء مثل : الجاحظ ت 255 هـ – التيفاشي ت 651 هـ – القزويني ت 675 هـ – التجاني ت 710 هـ – النفزاوي ت الــنصف الاول مـن القرن 8 الهجري – السيوطي ت 911 هـ ، انها قامت بدمج المحظور ( الكتابة الجنسانية ) بالمسموح في العقيدة الاسلامية ، أمَا اليوم " فإن الثقافة العربية الاسلامية تعـيش ارتباكَا وتخبطاً كبيراً في ما يتعلق بمفاهيم الجنس والجنسانية ، إذ يبدو أن كتَاب العربية ومبدعيها فقدوا القدرة على استخدام مفاهيم الجنس الراسخة في التراث، في شؤون حياتهم وخطاباتهم ولغتهم الراهنة" 8 ، نتيجة المحظور الفقهي المتأسس مـنذ العصور المظلمة ، المستند على القاعدة السياسية – السوسيولوجية ، والمنبثقة مـن رؤية الحاكم المرتبطة بمصالحه و رجل الدين ايضاً ، اصبح الجنس تابو ، وعليه واستناداً لهذا شكلت الطبقة الحاكمة بمشاورة رجال الدين التابوات الثلاثة : الجنس – الدين – السياسة ، في الممالك العربية الاسلامية ، وظلت هــذه التابوات تقيد وتهمش وتمنع الكتابة الجنسانية ، ومنعت التفكير في الامور الدينية ، ومنعت الخوض في سياسة الحاكم ، ليومنا هذا ، وجعلت الاخر الموجود في الجانب الاخر مـن السلطة / السياسية- الفقهية يعيش محاطاً بالممنوعات والطقوس والغيبيات واحلام الرغبات المؤجلـة والعلامات غير المبصرة .
وكذلك الأمر في اوربا ، أن العلاقة ما بين الجنس والسلطة ، قـد احدثت شرخاً كبيراً . فالسلطة قد تفننت فــــي ايجاد تقنية خبيثة لقمع النزعة الجنسية من : محرمات ، ممنوعات ، رقابة خرافات . ويظهر لنا التاريخ الاوربي سيطرة السلطة / النفوذ – المال – القوة على النشاط الجنسي ، فقد كان هــذا النشاط دائماً ، تحت سيطرة : الكنيسة – الدولة ، عن طريق التربية ، والاخلاق ، واللغة التي هي أداة فــي يد السلطة .
إن كتاب تاريخ الجنسانية لميشيل فوكــــــو " ليس تاريخاً للنزعة الجنسية ، بقدر ما هــو تاريخ لقمع الجنس وكبته وتقييده وحصره ، وقد استخدم هذا القمع والكبت والتقييد ، على نطاق واسع ، فــي العصور القديمة وفي العالم القديم ، وفوكو يعرضه بصورة مقنعة ، محللاً في الجزئين الأول والثاني من كتابه " تاريخ الجنسانية " ، الرسـائل والبحوث الطبية الإغريقية والرومانية . وقد أصبح هـــذا القمع أكثر وضوحاً ، بكثير في العصور الوسطى ، حيث كان يخضع الجنس لرقابة أشـد صرامة ، من قبل منظومة الأخلاق الدينية . ويحتـل أهمية بالغة تحليل ميشيل فوكـو لظاهرة الاعتراف والتوبة والندم ، التي ترغم المؤمنين على الأعتراف بأخطاء الجسد ، وفيما بعد ، أخذت تخف صرامة الرقابة الكنسية ، وانتقلت الحاجة للوصف الدقيق للتجربة الجنسية إلى الأدب ،حيث غدت مؤلفات دو ساد النموذج الأفضل " 9 .
إن الجنس كما يحلله فوكو ، أداة في يد السلطة ، كانت تراقب بواسطتها ، المجتمع والحياة الشخصية ، ويقول فوكو : " إن فكرة الجنس تسمح بالكشف عما تفعله السلطة بسلطتها . ومن المستحيل تماماً ، فهم السلطة على أنها مجرد قانون وتابو . إن الجنس هو تلك القوة التي تظهر ، من أجل إخضاعنا ، وكمن سرها في أن هذة القوة تكمن في اساس جميع تصرفاتنا وسلوكاتنا ، إن من الخطأ ، الاعتقاد بأن الجنس هو قوة مستقلة ذاتياً ، لا تنتج سوى أثراً ثانوياً وخارجياً حيث يلتقي الجنس مع السلطة . فالعكس هو الصحيح ، لأن الجنس هو العنصر الأكثر استغلالاً والأكثر مثالية وعمقاً في نشر النزعة الجنسية ، والذي ينظم ، بصورة مسيطرة الجسد ، ونضجه ، وقوته ، وطاقته وشعوره ، ورضاه " 10 .
لهذا ، ليس من قبيل المصادفة ، أن الايروتيكية قد ظهرت ووجدت في ازمنة مختلفة ، وكانت حاضرة بقوةٍ وعمقٍ في الأدب والفن ، وخاصة في كل الاعمال تقريباً بالنسبة الــــى الفن ، ولكن كان تاثيرها واضحاً وكبيراً في النحت والرسم : انتقلت الأيروتيكية الاغريقية المليئة بالشبقية والنشوة الى الإمبراطورية الرومانية الى الافتنان باجزاء من الجسد ، فملئت جـدران البلاط الروماني بلوحات بورنوغرافية ، اما غرف نوم الإمبراطور ، انتشرت فيها لوحات المومسات للرسام اليوناني بارازيوس ، بل وحتى في الاشكال الدينية ، كما يقول الناقد الفني النمساوي ادولف لووس : " إن الفن كله إيروتيكي ( يقصد جنسي ). وكــــان الصليب أول صورة زخرفية ، والصليب نشأ من مجال الإيروتيكيا ( الجنس ) . وأول عمل فني كان إيروتيكياً . فالخط الأفقي كان المرأة المستلقية ، والخط العمودي هو الرجل الذي يدخل فيها " 11 .
إن الجذور الحقيقية للايروتيكية لا تكمن عند الاغريق القدماء فقط ، بل تكمن في الموروث السومري – ملحمة كلكامش ومغامرات عشتار، وحكايا إيزيس وأوزوريـس، وبقيــة التراث الانساني القديم ، وكــــذلك تكمن في التوراة . ونجدها في نشيد الانشاد ، على شكل حوار مفعم ومخضب بالأيروتيكية بين العروس والعريس ، وفيه نجد المرأة مستقلة وصاحبة قرار ، ومـادام هناك انسان يمارس الجنس في هذا العالم ، كان هنالك ادباً ايروتيكياً . وكما قالت الشاعرة والصحفية اللبنانية جمانة حداد في مقابلة لها في جريدة الوقت ، عنــد صدور مجلتها الايروتيكية (جــسد ) التي أثارت ردود افعـــــــال مختلفة : " أنا لم أزعم يوماً اني اخترعت الايروتيكيا العربية . لا أنا اخترعتها ، ولا أولئك الذين يتحدثون اليوم عن جرأة الفتح. جرأة الفتح الحقيقية فـي اللغة العربية ، جرأة الانتهـــــاك والبوح الصادم المنفلت من التابوهات ، قام بها كتَاب عرب منذ ألف سنة وأكثر " .
ولكن خطاب الأيروتيكية ينفلت من التجنيس ، لأنه يستلهم النصَ المقدس ، والنصَ الأنساني ، إنه يولدُ من هذه النصَيات ديالكتيكياً وتخييليَاً غرائبياً .
فتنة الجسد والكتابة الانثوية
الافتنان غواية وسقوط في المحظور ، الافتنان هــو الرؤية بعيون عاكسة النظرة فوق جسد الاخر ، ولكنه افتنان مزدوج ما بين انعكاس نرسيس وتحجر ميدوزا ، انه الافتنان الذي يحول الانسان الى زهرة او الى حجر ، ولا افتنان بدون رغبة واشتهاء ، الرغبة التي يثيرها الجسـد المؤنث والمذكر ، لاشتهاء عضوٍ مليء بالحياة ، ومليء بالفتنة ، ومليء بالمتعة .
ولكن " اللذة تُهدَد الرغبة ، وعاديَ أن تكره الرغبةٌ اللذة ، أن تنفر نفوراً كلياً من الانكماش. الرغبة هي عكسُ الضجر ، عكسُ النضوب والشبع والنوم والتقزز والرَخاوة، عكسُ انعدام الشكل . كل الحكايات وكل الأساطير وكل السيَر ترمي الى تمجيد الرغبة ، وتٌحمل علــى اللذة ، لا تحاول الرواية الإيروسية ولا فن الرسم البورنوغرافي بحالٍ ، خلقٌ لذة بل خلقٌ رغبـــــة : يحاولان جعلٌ اللغة في الرواية والمرئي في اللوحة شيئاً إيروسياً ، يحاولان تقليص فترة الانكسـار ، يشنَان الحرب على التقزز " 12 .
اللذة منغلقة والرغبة متفتحة ، اللذة انانية والرغبة متفانية ، اللذة متوحدة والرغبة مشتركة ، لذا تكون الرغبة غير قابلة للامحاء او للتدمير ، لاننا بحاجة مأسة اليها .
وهكذا تصبح اللذة والسلطة مترافقتين ومتلازمتين ، فالسلطة تمارس لذَتها عبــر ممارسـات الـسؤال ، والمراقبـة ، والترصـد ، والملاحظة ، والتفـتيش ، والمـساءلة ، والكشـف ، والفضح ، واللذة تتضوَر سلطةَ ، وتتوقَد حــدَة عندما تستشري ولا تعود تذعن لسلطة الخطابات ، بل على العكس من ذلك ، فاللذة لاتكفَ عن محايلتها وخداعها ، والهزء بوصايتها عن طريق التهرَب منها ، والتنكَر أمامها ، وتضليلها ، وخرق نواميسها ، والإفلات من أنظمتها . إن اللذة لا تكفُ عـن تطوير أشكالها ، وبلوغ أقصى مراحل الانتهاك ، فهي تجدد أشكالها ، وتطوَر أساليبها ، وتعاظـم فاعليتها . لذلك فإنَ السلطة برقابتها وتسلَطها لاتعرفٌ أنها تمنح اللذةَ القدرة اجتياحها ومناوأتها وخداعها . وهكــذا فإنَ السلطة ، برقابتها وهيمنتها ، توفر للــذة أدواتِ مقاومـة تحصَنها من الافتضاح والانكشاف ، كمـــــا أنَ اللذة بمراوغتها ، وإغرائها ، ومجابهتها تقدَم للسـلطة ذرائع لملاحقتها وتعقَبها 13.
المتعةُ تجعل الشيء الذي تريد رؤيتَه غير قابلٍ للرؤية .
وهنا تصبح القراءة متعة والكتابة رغبة ، واذا علمنا أن " الرجال والنساء جميعاً سلبيون عند الاستمتاع . نشوةُ الأنثى فزعُ يستمتع بدخيل . المتعة دخيلة دوماً . والنشوة تباغتُ الجسد الراغب دوماً . لا تميز المتعةُ على الاطلاق بين الخوف والبهجة " 14 .
على كل ذلك تصبح الكتابة الايروتيكية رغبة في فضح المسكوت عنه ، والدخول الى المحظور ، وهتك الممنوع ، وكشف المقموع ، مما سيرسخ ويثبت المتداول الذي كان سراً وجعله علناً بان الجسد فتنة ( وبالذات في الف ليلة وليلة ) عبر المتوارث التاريخي – الـسوسيولوجي ( المتجذر بالحكائي والرؤية المتراكمة ) المرتبط بالنظرة الذكورية – القضيبية تجاة جسـد الانثى المعادل لمتعة الكتابة عند المرأة المنطلقة من قمقم الخوف والتهميش والاقصاء .
الأن ، ونحن في القرن العشرين ، لم يخلق هذا القرن الأفكار الحديثة فحسب ، بل خلق فهماً متطوراً للإيروس . أي تحول من الرؤية الوثنية الى الرؤية التكنولوجية . واسـقط التزمت الطهراني الذي كان السمة المتميزة لأداب القرن التاسع عشر . ولكـن نتيجة لتطور المفاهيم الجنسانية في المجتمع المعاصر ، ظهر مصطلح جديد ، واخذ بالانتشار الـسريع فــي الدراسات الحديثة وفـــي النقد الحديث ، واكتسب اهمية قصوى فــي السوسيولوجية بــل وتجاوز مصطلـح الجنس الا وهــو الجندر ، يقول الباحث آرشر : " نحن نستخدم مصطلح " الجنس " في المعنـى البيولوجي ، بينما نستخدم مصطلح " الجندر " فيما يرتبط باختلافات الجنسين الثقافيـة والاجتماعية " . وبــ الجندر ظهرت ثقافة ايروتيكية جديدة ، أخذت تطرح وتتسأءل : ما هـو جنسي؟ وما الفرق بيني وبين الاخر؟ وما هي الاختلافات الجنسية بيننا ؟ هنا وبوعي عميق أصبحت مسألة الاختلافات الجنسية أكثـر اهمية من مسألة الاشباع الجنسي . ومسألة اثبات دور المرأة في التفاعل مع المجتمع وفي الثقافة ، والتركيز على المسأوة بين المرأة والرجل في جميع نواحي الحيــاة الاجتماعية والسياسية والثقافية .
إن مصطلحات مثل " ذكورة " و " أنوثة " تحمل قدراً هائلاً مــن الحمولات الثقافيـة ، لكنها يمكن أيضاً أن تحجب أكثر مما تكشف . ربما تعتبر تقليدياً كمجموعة من التضادات الثنائيـة المتبادلة الاستبعاد تشكل أساس التجربة ، فقد تكون هــــذه المقولات أكثر تقييداً ، أكثر تبسيطاً ، وأكثر فجاجة من أن تفيد كاختزال كافٍ للذات الجسد ، ناهيك عن أن يُسلم بها جدلاً ككليات ثقافية أو إنسانية " 15 ، وهذه المصطلحات لا تتعارض مــع الجندر ابداً ، لانها في حقيقة الأمر هي جزءاً منه ، بل خارجة منه ، خارجة من بين ثناياته وطروحاته ، وهي بالاساس جوهره المركزي ، لذا فان الجندر يحاول أن يعمل على تقويض الفعل / الرؤية / الفكر المتطرف لـــــ البطريركية ، لانه منذ البداية كان السؤال " حول مصدر الأبوية ، هـــــل يعود إلى مجرد الفروق البيولوجية / العضوية التي تميز الذكر عن الأنثى ، أم انه يعود إلى مصدر سيكولوجي / نفسأني ، ينطلق من الفروق البيولوجية وما تتضمنه العلاقات الجنسية الاجتماعية من محرمات ، كتحريم الجنس بين المحــارم ، ليؤسس عليها مواقع دونية تظم العلاقات بين الذكور والإناث جاعلة الأنثى في خدمة الذكر " 16 ، وكما ذكرنا انفا ، فان الجندر هو تركيبة ثقافية – اجتماعية لا علاقة لها بالتصنيف الذي يعتمد علــى الجنس ، ولا بالاختلافات البيولوجية ، وهــذا ما طرحته واشتغلت عليه الناقدة " جوليا كريستيفا " ، وبهذا فإن التركيبة الثقافية – السوسيولوجية ، وليست الجنسانية ، هي التي تضع الكوابح والقيود في حياتنا كممارسة وفكر .
وبهذا تبقى الثقافة العربية الاسلامية ، ثقافة واقعة في ايديولوجية الذكورة – القضيبية ، ولاتتحمَل تحرير المرأة ، لأن تحرير المرأة معناه تقويض هذه الثقافة العربية المشوهة والملتبسة ، والمبنية على نظرةٍ باعتبار التأنيث " قصياً ووهمياً لكَي تظل الأنوثة مجازاً ومادة للخيال" على حدَ تعبير خالدة سعيد ، وفي الوقت ذاته يكون تحرير المرأة تحريراً للآخر / الرجل ايضاً .
وإن السرد الأدبي الذي تكتبه المرأة ، ما هــــو الأ وسيلة من وسائل تحرر المرأة ، وإغناء وعيها وتعميق تجاربها الحياتية ، لتأسيس علاقات انسانية حقيقية مـع الواقع ، ومـــع وجودها واثبات ذاتها كمعطاة في المجتمع واثبات هويتها الثقافية – التاريخية . مـن هنا " تصبح كتابة المرأة – اليوم – ليست مجرد عمـل فردي من حيث التأليف أو مـــن حيث النوع . إنها بالضرورة صوت جماعي ، فالمؤلفة هنا و كذلك اللغة همــا وجودان ثقافيان فيهما تظهر المرأة بوصفهـا جنساً بشرياً ويظهر النص بوصفه جنساً لغوياً، وتكون الأنوثة حينئذ فعلاً من أفعال التأليف والإنشاء ومن أفعال القراءة والتلقي " 17 . هـــذا كله اشتغل تحت مظلة أستخدام الجسد / الجنس كشفرة دلالية ضمن الحاضنة الثقافية – السوسيولوجية التي منحت السرد الذي تكتبه المرأة تشكيلات و تمظهرات في الأدب العربي الحديث ، لبناء رؤية انثوية للعالم ، وبلورة مفهوم الرواية النسوية .
لقد قمت بجمع غرائبية / الجسد عند سهير المصادفة فـي " لهـو الأبالسة " ، وصوفية / الجسد عند رجاء عالم في " خاتم " ، ووجع / الجسد عند حنان الشيخ في " حكاية زهرة " ، وجرأة / الجسد عند ســلوى النعيمي فـــــي " برهان العسل " ، وادانة واستباحة وتاريخانية / الجسد عند عاليـــة ممدوح فـــي " التشهي " ، والشعرية الحالمة / للجسد عند فضيلة الشابي في " الأســم والحضيض " ، وانعتاق / الجسد عند فضيلة الفاروق في " أكتشاف الشهوة " .
لقد تسببت رواية " لهو الأبالسة " في أن يتقدم النائب الإخواني حمدي حسين زهران بعـد ثمان سنوات من صدورها ( صدرت عام 2002 ) بطلب احاطة و مصادرتها فـي مجلس الشعب ، متهماً فيه الرواية بالترويج للإباحية ونشر الرذيلة ، ونفس الاتهام وجهه النائب الى وزارة الثقافة المصرية لقيامها باعادة طبع الرواية ، من قبل هيئة الكتاب احدى المؤسسات التابعة للوزارة ، وكان رد الفعل على ظلامية هذا الطرح ، من قبل المثقفين المصريين ، الأستياء الشديد ، والامتعاض مــن هذا الطلب الذي كأنه قد صدر من محاكم التفتيش في القرون الوسطى في اسبانيا عند حرق الكتب العربية في الميادين العامة – من المفارقات انهم لم يحرقوا كتب ابن رشد بينما في العواصم الثقافية المغربية الاسلامية وفي قرطبة قام فقهاء الظلام بحرق كتب الفلسـفة التـي يعتبرونها زندقة ومنها كتب ابن رشـد - واستنكرت المؤلفة التي شعرت بمهانة فائقة لها وللأخريات ، وللعقل العربي ، عند سمعها لنائب الشعب المصري ، ممثل الاخوان المسلمين ، يطالب بمصادرة روايتها .
وقالت الروائية هويدا صالح : نعيش في مجتمع به اكثر من 80 مليون مواطن ولديه كل هذا الثراء الفكري المتعدد بغض النظر عن اتجاهاته ورغم هذا كلنا في حالة اتهام مؤجل فقد ياتي من يطالب بمصادرة عمل ابداعي صدر منذ سنوات مثلما حصل مع سهير المصادفة ، و منذ اكثر من عشرين عاما وهناك تهميش لدور المثقف بالرغم من أن مصلحة الدولة تكمن في رفع شأن المثقفين باعتبارهم منارة ثقافية امام الدول الاخرى ولكن يحدث العكس .
وفي عام 1985 ، اي قبل قضية المصادفة بــ اربع سنوات ، طالب وكيل نيابة محكمة الآداب ، بإحراق كتاب ( الف ليلة وليلة ) في ميدان عام ، لأنه كتاب يدعـو الى الإثم والفجور ، ويحض على الرذيلة ، وينشر الفساد ، واصبحت حيازته تهمة ، وقراءته جرماً ، وتوزيعه خرقاً للقانون ، والدفاع عنه من الآثام، اي اصبح اخطر بكثير من ممارسة الدعارة ، والاتجار بها ، وترويجها ، هذا الطلب اتى بعد مصادرة النسخ الموجودة في مكتبة صبيح ، والنسخ الموجودة فـي احد الأكشاك على سور الازبكية ، وتعدى ذلك الى محاكمة اصحاب المكتبات في جريمة توزيع كتاب فاضح يسيء الى الأخلاق 18 .
إما الروائية رجاء عالم ، الحالمة المتخفية وراء الكلمات الغنوصية الميتافيزيقيا ، فتعاملها مع الأدب يكون على شكل كسر المنطق واقتحام اللامعقول وأسـطر الواقع ، وتعتبر رواية خاتم التي صدرت عام 2001 الأعمق جرأة من حيث النبش في المسكوت عنه لمدينة مكة المكَرمة في طرح مسألة حساسة جداً الأ وهي مسألة الخنثى في المجتمع المكي من خلال موروثها السياسي والاجتماعي ، هذا المنطلق اثار اشكالية عند البعض مثل الدكتور حسن بن فهد الهويمل ، لدرجة انه قال عن الرواية : " لا أحد يستطيع فهمها ، وأتحدى أي أحد سواء كان ناقداً أو متلقياً أن يفهمها " ، ويرجع سبب ذلك الى أن رواية رجاء عالم مغرقة بالغموض والأساطير والخرافات ، وهنا لا اود أن اعقب أو اعلق على ماقاله د. الهويمل ، وذلك متروك للنقاد والقراء لرواية خاتم .
واستناداَ على هذا لنقرأ تسأولأت احمد علي هلال في مقالته " رائدة الأدب التجريبي السعودي رجاء عالم ..أنثى اللغة وذاكرة المرايا " في مجلة جهينة ، الذي يتفق ويختلف في آن واحد مع الهويمل : ترى هل كانت رجاء عالم في رواياتها وأعمالها التي أثارت جـدلاً لا يستنفد – بين النقاد – تدور في فلك مكة و لاتدخلها ، مكتفية بنصوص الشغف بما يحيط " بمكة " لاتذهب للمكان بـل لفضائه، لتفكك هوامشه وتسرف في إضاءاتها ، بنزوع عجائبي أو اسـطوري ، تدور ..تدور في مخاتلة المفاتيح والأبواب ، مكتفية كذلك بتلك الغلالات الشفيفة من لغة سردية تفيض بحمولتها الثقافية ، وشفراتها السردية وتفاعلاتها الحوارية مع ثقافات وانساق واثار إبداعية كالشعر أو الرواية ، أو منجزات الفن الحديث ، او المختارات الموسيقية العالمية وسوى ذلك ؟ !
" خاتم " رواية اقتربت مـن المحظور والمتغاضي عنه ، والمسكوت عليه ، والممنوع الخوض فيه ، كثيراً ، وذهبت في ذلك بعيداً ، ففي الأمس كان هذا من المحرمات الخوض فيه ، اما اليوم وعند رجاء عالم ، فكل الموانع الحمراء تجاوزتها ولم تعطيها أي اهمية ، وصورتها بدقة مرهفة ، والبعض يتعجب من خروج هكذا روايات من بلد متزمت ومحافظ ، وهذا تفسيره بسيط جـداً ، فهنا تشتغل القاعدة العكسية بكل دلالاتها اللغوية السردية مع قصدية التخييل وإيحاءاته ، برؤية انسانية وحواملها الأسطورية المسيجة بواقع واقع تحت وطأة المخيلة السردية ، أي في منطقة الميتا- واقعية ، لأنه كلما كانت قوة التهميش كبيرة ، كلما كان الحضور اقوى واعنف ، وفي استعماله لمختلف الاساليب والطرق المتاحة ، من غرائبية ،واساطير ، وخرافات ، في حقــن النص بذلك ، بتقنية حديثة شبيهة بالكولاج المستعمل في الفن الحديث .
وفــي رواية " حكاية زهرة 1980 " تمتزج الذاكرة الملطخة بخصوصية موجعــة حد النزف المزمن ، فـ زهرة واقعة في اللامكان رغم تجذرها وسط رؤية ظلامية ذكورية – قضيبية ، لـم تستطيع الافلات منها نهائياً ، ولكنها كانت تمتلك جرأة مخيفة في وهمها بإنها تستطيع من خلال علاقتها الجنسية أن تمنع القناص من قنص الأخرين ، وهـذه الرؤية الجنسانية معجونة بالحرب الاهلية ، معجونة بالموت المجاني ، فالايروتيكية تتماهى مع الحرب هنا مع القتل من خلال الفعل اللانساني المخبوء تحت شبكة من العلاقات المشفرة بدلالات تأويلية – القناص يحبلها ثـم يقتلها - .
إن عملية كتابة الرواية ، ومحاولة نشرها ، كانت حكاية ، فتقول عن ذلك حنان الشيخ : الرواية انتهت عام 1977 تقريباً الا أن الناشرين في لبنان رفضوها . وتراوحت الحجج ، سهيـل ادريس في (( الآداب )) قال إنها جريئة وفيها مشهد اغتصاب ، دار النهار للنشر كتب احدهم محتاراً : هذه الرواية إما انها سيئة جدا أو جيدة جدا . كان يقال بين دورالنشر: مع مين هالبنت ؟ . المقاتل تصوره على انه حرامي ، هي شيعية من الجنوب وتنتقد الشيعة . وتسأل بعضهم هي ضدي أم معي ؟ لا تمثل اليمين ولا اليسار . أما في (( روز اليوسف )) بمصر فقد احبوها ، الا أنهم اعتذروا عن نشرها مسلسلة بعد أن كانوا اتفقوا معي علـى ذلك . وفي النهاية اقنعتني صديقتي نجاح طاهر الكاتبة والفنانة مصممة اغلفة الكتب ، أن نتحمل تكلفة النشر معا " 19 .
و رواية " برهان العسل 2007 " لـ سلوى النعيمي ، رواية استلهمت نسق كتب الجنس في التراث العربي الاسلامي ولكن في إطار من الحداثة السردية ، والكتاب هــو خليط ذكي من المقالة والحكاية ، كما يقول الناقد شتيفان فايدنر ، وللعلم فإن الرواية في البداية كانت دراسة عن الجنس في الأدب العربي ، ولكنها تحولت الى رواية ، بعدما احست بأن اللغة العربية " لغة جنس تبللني تهيجني " و لغة متحررة و متفتحة على الثقافات العالمية ، وبهذا استوحت حريتها من النصوص العربية الايروتيكية التراثية ، وتعاملت معها شكلاً ولغةً ، ولقد اغتاظ الكثير من هذه اللغة من خلال تعاملها معها : " ازعج الإسلاميين والمتشددين لأن الكتاب يقول ان الحرية في هذا الجانب هــي جزء مــن ثقافتنا العربية و الاسلامية ، وبالتالي تستطيع اللغة العربية أن تنقل هذه الأشياء ، كمــا أنه أزعج الليبراليين العرب أيضاً ، لأن كتابي يصرح بأن حريتي تنبع من تراثــي وثقافتي العربية الإسلامية ، علــى الرغم من وجودي فــي بلد الأنوار والحرية . ويزعج أطرافاً فــي الغرب لأنه ينسف الكليشيهات والستريوتيبات الغربية التي تعتبر الثقافة العربية ثقافة قمع وخصي ومنع " 20 .
إما رواية " التشهي 2007 " لـ عالية ممدوح ، فهي عبارة عن ذاكرة ايروتيكية للشخصية الاساسية مستمدة من النساء ، من النساء فقط ، لقد ارادت بكتابتها لهذه الرواية أن تستفز الآخر " فأنا لم أقترح يوماً وفي جميع ماكتبت إلا الاستفزاز " 21 , كما فعلت سلوى النعيمي فـي برهان العسل ، ومن المفارقة المدهشة أن اغلب الروائيات اللواتي كتبتُ عنهن ، كتبهن ممنوعة في البلدان العربية ، تقول عالية ممدوح : " كتبي شخصياً كلها ممنوعة فــي بلدي وفي بلــدان عربية لا أقدر علـى تعدادها ، وأنا شخصياً ممنــوعة لزيارة بلدان عربية لأنني لا أملك جواز سفر عراقي ، فأنا مشكوك في عراقيتي " ، فهي قد اشتغلت على شخصيات خربها التدليس والفساد ما بين محورين قاتلين السياسة والجنس من خلال رجل شيوعي ورجل مخابرات عراقي ، وجعلت الرمز – المجازي يتماهى مع الواقع بقصدية عندما اعطت للعجز الجنسي بعداً انسانياً وذلك في العجز امام المحتل وامام النظام الديكتاتوري او جعلت من العجز الجنسي اسقاطاً للعجز السياسي العراقي .
إما رواية " الاسم والحضيض " لــ فضيلة الشابي ، ففيها يتداخل الشعري بالسردي ، لينسج لنا على مساحة الرواية كلها صورة / رؤية بان ليس هنالك سمو للرجل على المرأة او بالعكس ، لأن مرجعهما واحد الا وهو التراب ، لذا فكيف يسمو التراب على التراب ؟ .
وفي " اكتشاف الشهوة " لـ فضيلة الفاروق ، يتماهى النصَ الاصلي مع نصَ تخييلي يشتغل في اللاوعي للبطلة ، ويتأسس على النصَ الفعلي ، فالواقعي يبدأمن الربع الاخير من الرواية ، حيث تجعل القاريء يتيه لوهلة ، لفرز الواقعي عن التخييل ، ولكن في الاخير نحصل على ما نريد.


الهوامش والاحالات
1 – شهاب الدين احمد التيفاشي – نزهة الالباب فيما لايوجد في كتاب – تحقيق : جمال الجمعة ، رياض الريس للكتب والنشر ، لندن – قبرص ، حزيران / 1992 ،المقدمة ص 33
2 – م . ن ص 17 ، المقدمة .
3 – م . ن ص 32 . المقدمة .
4 – هيثم سرحان - خطاب الجنس : مقاربات في الادب العربي القديم – المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، ط1 2010 ، ص 97 .
5 – وكانت تباع المرأة الحرة عندهم بالدرهمين والثلاثة ، واصبح لكل زنجي منهم العشرة والعشرون : يطؤهن ويخدمن النساء الزنجيات . المسعودي – مروج الذهب 4 : 184 . السيوطي – تاريخ الخلفاء ص 291 .
6 – خطاب الجنس – ص 120 .
7 – م . ن ص 162 .
8 – م . ن ص 127 .
9 – فياتشيسلاف شستاكوف – الايروس والثقافة : فلسفة الحب والفن الاروبي – ت . د . نزار عيون السود ، دار المدى للثقافة والنشر ، دمشق / سوريا ، ط1 ، 2010 ، ص 306 .
10 – م . ن ص 304 .
11 – م . ن ص 310 .
12 – باسكال كينيار- الجنس والفزع – ت. روز مخلوف ، ورد للطباعة والنشر والتوزيع ، دمشق 2007 ، ص 157 .
13 – خطاب الجنس – ص 144 . والمتناص من كتاب ميشيل فوكو" إرادة المعرفة " ص 66 .
14 - الجنس والفزع - ص 171 .
15 – ديفيد غلوفر – كورا كابلان ، الجنوسة : الجندر ، ت : عدنان حسن ، دار الحوار للنشر والتوزيع ، اللاذقية – سوريا ، ط 1 ، 2008 ، ص 194 .
16 – د . ميجان الرويلي د. سعد البازعي – دليل الناقد الأدبي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، ط 3 ، 2002 ن ص 63 .
17 – عبد الله محمد الغذَامي – المرأة واللغة ، المركز الثقافي العربي ، بيروت / الدار البيضاء ، 1996 ، ص 182 .
18 – د . جابر عصفور – إنقاذ (( ألف ليلة )) من الحرق – مجلة العربي العدد 628 مارس 2011 .
19 – غالية قباني – وجهاً لوجه " حنان الشيخ وغالية قباني " ، مجلة العربي العدد 641 – ابريل 2012 .
20 – جريدة الشرق الاوسط الدولية – العدد 12430 في 9 ديسمبر 2012 .
21 – مجلة نزوى – العدد 67 ، حوار مع الروائية اجراه الصحفي العراقي كرم نعمة ، وكل ما سوف يرد بين المعكوفتين سيكون من الحوار .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى