عبد الرحيم جيران - الهوية والنفسي والبناء الحكائي

يتصل الربط ـ في العنوان أعلاه ـ بين النفسي والاجتماعي في تفكر الهوية في الحكي بمجموعة من الأسئلة الأسس: إذا كانت الهوية مثارة في النظريات النفسية ـ بهذا القدر أو ذاك من الأهمية ـ فما طبيعتها؟ وأتعد نفسية خالصة؟ أم هي نتاج تفاعل الذات ـ وهي تتشكل لتكتسب قيمها الخاصة ـ مع محيطها الاجتماعي؟ وهل يمْكن فصلها عن الآخر الذي هو معني بتعرفي وتأويلي بوصفي هوية؟ لا تعنينا هذه الأسئلة إلا في مجال الحكي الذي نحاول فيه بناء تصور للهوية مغاير، بما يعنيه هذا من فحص للنفسي في إطار عدم فصله عن البناء الحكائي.
لا بد من أن نذكر قبل أن نحدد الترابط بين النفسي والهوية الحكائية (لا السردية)؛ بشروط خمسة، نرتبها على النحو الآتي: أ ـ عدم الأخذ بمفهوم اللاوعي لأنه ضبابي، ولا يمكن الركون إلى صحته؛ خاصة النظر إليه في ضوء الكبت المؤسس على اللبيدو ورمزيته. ب ـ عد النفسي متصلا بما يترتب على التحققات في علاقتها بالتطلعات (التصورات) من نتائج مرضية أو مخيبة. ج ـ عد النفسي مشكلا في هيئة أزمة تتوازى مع الأزمة في البنية الحكائية؛ حيث يكون عدم الرضا عن الذات متصلا بالتحققات المخيبة، أو بعدم استجابة العالم للرغبة والإرادة، أو انتصاب المعوقات والحواجز في طريقها. د ـ يظهر النفسي الحكائي في مرحلة معينة من التكوين المعرفي ـ الخلقي ـ النفسي، وهذه المرحلة هي تلك التي تصير فيها الذات قادرة على إنتاج قيمها الخاصة وخلقها المغاير للتخلق «كارلو موازو: المرحلة الرابعة: الأب الشخصي parent personnel». هـ ـ عدم فصل النفسي عن التعالق بين الفعل والزمان.
تقتضي الشروط الخمسة المذكورة أعلاه النظر إلى الهوية الحكائية ـ من حيث هي مؤسسة في جانب منها على النفسي ـ من زاوية عدم فصل هذا الأخير عن السياق الاجتماعي الذي يجري فيه الفعل الحكائي (الممارسة بغاية تملك الموضوع أو الكينونة)، ويجري فيه بناء الذات في الآن نفسه. ولربما كان النفسي أكثر حضورا في تحديد الهوية ماثلا في انشطار الذات على نفسها. ويتخذ هذا الانشطار طبيعة انقسام في الأنا، له هيئة حيرة أو تردد؛ وهو مواز لمكون الأزمة في بناء الصيرورة الحكائية؛ حيث تنشأ خاصية عدم التوازن (بريمون) التي تعبر عن ارتباكات ثلاثة: أ ـ ارتباك معرفي (ضبابية الحل). ب ـ ارتباك خلقي (الاصطدام بالتخلق: الروادع ـ القواعد). ج ـ ارتباك نفسي (التنافر بين الرغبة وما يوفره العالم من ممكنات للذات). ويعد هذا الانشطار النفسي في بنية الذات ـ الموازي لمكون الأزمة الحكائي ـ متصلا بشدة بالهوية المتخللة التي تراجع فيها التطلعات في ضوء المتحقق منها، وتنشأ فيها التجارب الذاتية؛ حيث ينتصب الأب الشخصي ـ بالمفهوم الذي يبنيه به كارلو موازو ـ مبديا تفرده القيمي ـ الخلقي.
نحتاج ـ إذن ـ لفهم النفسي في بناء الهوية الحكائية إلى بناء فهم تشكل الذات المنشطر (الذي يتضافر فيه البناء الحكائي وبناء الذات معا) على أرضية الاتفاق مع النموذج أو الخروج عنه؛ والنموذج ماثل ـ هنا ـ في الصور (القوالب) النمطية التي يضعها المجتمع أمام الذات الفردية، لكي تكتسب من جهة الاعتراف بصلاحيتها الاجتماعية وشرعية تنصيبها اجتماعيا، ومن جهة ثانية لكي تستفيد من شروط البقاء الجيد، كما هو مسنن في السمت الاجتماعي المهيمن، بما يعنيه هذا من اكتساب للحظوة على مستوى توزيع الخير العام؛ فكل التطلعات مقامة على التملكات الموضوعية أو الوجودية، وهي مرتبطة باستضمار نماذج الكينونة التي يوفرها النظام الاجتماعي، أو رفضها أو وضعها موضع شك. ولا يعد التوتر الذي يفضي إلى تشكل المظهر النفسي (في تواز مع الأزمة الحكائية البنائية) ناجما عن عدم تحقيق الذات نموذجا من النماذج النمطية في تطابق مع الرغبة، أو عن عدم تحقيقها البدائل النافية للنماذج وحسب، وإنما ناجم أيضا عن عدم تحقيق تفردها في تحقيق تطابقها مع النموذج، أو في تحقيق نفيه؛ فكل هوية حكائية هي قائمة على الاستثنائي؛ ومن ثمة لا تتأتى الأزمة ـ في اتصافها النفسي ـ من علاقة التوتر بين نوع التطلع ونوع التحقق وحسب، بل تتأتى أيضا ـ ولربما في كثير من التأثير ـ من طبيعة الكيفية التي تتحقق بها؛ أي التفرد في الفعل الذي يمنح الذات، حتى في حالة عدم تحقيق تطلعها، سمات مميزة دالة على الكيفية التي بنت بها ذاتها.
لا يمْكن فصل النفسي المرتبط بالانشطار والأزمة والنموذج والاستثنائي عن البنية الجدالية التي يوضع فيها الحد ـ الأنا الخاص بالذات. وقبْل إيضاح المقصود بالبنية الجدالية يجمل بنا رفض الموقف الظاهراتي، الذي يرى أن الأنا قبل وجودها في العالم ـ بوصفها وحدة نفسية ـ فيزيقية ـ هي معطاة لنفسها بعدها هي عينها الفريدة. ونقيم هذا الرفض على حجة أن الفرادة قد تكون واردة على المستوى البيولوجي ـ النفسي (الغريزي) ـ العضوي، لكنها غير كافية في جعل الأنا هي عينها محققة فرادتها المبنية على الاستثنائي الذي هو اجتماعي ـ خلقي بالدرجة الأولى. ولكي تحقق الذات فرادتها الاستثنائية تحتاج إلى فعل ذلك في نطاق الاختلاف الذي يمثله الآخر. ومن ثمة لا تدرك هوية الذات ـ في اتصالها بالنفسي (الرضا عن الذات أو الخيبة) ـ إلا بإدراك حدها الخاص المختلف، الذي ينشأ بوساطة ما يمنعها من الفعل أو يقيم الحواجز والمعوقات في طريقه. وليست البنية الجدالية في نهاية المطاف سوى البنية الصراعية التي تميز كل حكي؛ حيث المواجهة حتمية بين الرغبة وموانع معينة يمثلها الآخر الرمزي (القواعد ـ السنن). وينبغي عدم فصل هذه البنية الجدالية عن التمثلات التي ترغب الذات في ترسيخها حول نفسها لدى المجتمع (كيف ينبغي النظر إليها)، وعن مدى تقبل من يمثل الآخر الرمزي لهذه التمثلات الخاصة. ولا يمكن فهم الاستراتيجيات النفسية في التعبير عن الفعل إلا في هذا النطاق؛ حيث يبنى وفق عمليتي الإخفاء والإظهار، ووفق شدة الرمزي وقوته؛ وذلك بغاية حماية الذات لنفسها من الانكشاف.
تدعو معالجة النفسي والهوية أيضا إلى موضعة الأنا في الزمان بمراعاة التجديل بين التطلع والتحقق؛ وينبغي فهم الأنا، لا بوصفها فاعلة فحسب، بل بوصفها أيضا حالات نفسية متصلة بالفعل من حيث هو صيرورة. ويمكن الحديث ـ هنا ـ عن ثلاثة أنماط من النفسي: أ ـ النفسي المتطلع المتجه نحو الأمام (الأمل ـ الحماس)؛ ب ـ النفسي المرتكس نحو الماضي (الندم ـ اليأس ـ الحسرة)؛ ج ـ النفسي الإشكالي المرتبط بالحاضر (التردد ـ الشك ـ الحسم).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى