تانغو.. قصص قصيرة جدا - د. سوزان إسماعيل

صدرت للدكتورة والقاصة سوزان إسماعيل بتاريخ النشر 13/8/2018 ، مجموعة سردية عن دار آس للنشر والطباعة_ سوريا، وتضم باقة من القصص القصيرة جدا قدم لها د. زهير سعود
من أجواء الاضمامة القصصية وكما ورد على صدر صفحة الغلاف الاخيرة ما يلي:
( تشابكت النظرات، دعاها للرقص، دارا كطيرين على سطح ماء، تلاحم جسداهما ، ارتفع الصوت ، حلقت الأرواح ، وقبل الوصول للنشوة ، تراءى خيال بينهما ، غض بصره فانداحا متباعدين كما تنداح الدوائر على صفحة الرقراق...)

تانغو.jpg

تعليقات

مقدمة د. زهير سعود للمجموعة القصصية ’’تانغو’’ للدكتورة سوزان إسماعيل

بين دفّتي غلاف منجز الكاتبة، تنسل نمنمات مرسومة بعناية فائقة، اعتمدت لغة الخطاب السردي القصصي بدل الرسم والتصوير، لتصنع لوحة حركية تتمدد مع اتساع دوائر الاتصال، ناقلة أخبار أنثى يعانقها الحلم والهاجس وحيف الذكورة والبيئة. فتتصل مع المتلقي بنغمات عذبة تشرح فيض الوجدان، وهي تروي بلا انقطاع تلك المشاعر الرهيفة البعيدة عن غلوّ التعقيد.
تناولت الكاتبة عبر إطلاقاتها ضمائر الخطاب الراوية كل ما يدور في أعماق أنثى حيال الآخر، على اختلاف موقعه. أولاً من حيث صلة القربى: زوج، عشيق، أبن، حفيد، صديق، إنسان. ثانياً من حيث موقعه في سلسلة العلاقات الاجتماعية ذات الوظائف الدينية والاقتصادية والسياسية والنفسية. وهي بذلك استخدمت الضمائر معادلاً موضوعياً للشخصية، كوسيلة استيعانية في أساليب الروي القصصي الحداثي.
تبدأ المنمنمات مع نصّ الكاتبة “تانغو” الذي جعلته عنواناً مقصوداً لكتابها، حتى يتسنى للقارئ أن يعدّ عدّته من أجل تلقّي تلك الانبعاثات الشعورية التي أصدرتها قصص الكاتبة، والتانغو لغة الموسيقى المصحوبة بالرقص لدى الفئات البسيطة التي امتلكت باحات الشعور، وخرجت بهسيس اللغة المعبّر عنها في الكشف عن مشاعرها النفسية الدفينة، عبر الرقص الخاص والموسيقى التي دمجت تراث هذا الفنّ، ونقلت مقاطعه التعبيرية الرومانسية الأوربية إلى بيوت الأرجنتين والأرغواي ثم العالم، لإعلان التمرّد على المعيقات القسرية التي فرضت على البسطاء.
“تانغو” الكاتبة روى تلك الانطلاقة، ودمجها بنمنمات رهيفة، تشبه انفعالات الكاتبة الأمريكية ليدا دافيس وانتحاءات صاحبة الرواية الجديدة ناتالي ساروت، فشبّهت استرسالها القصصي بموجات خفيفة ترسم على سطح ماء رقراق، ليغزو سطح بحرة هادئة كما يبدو للوهلة الأولى، والحافز الدافع هو الحبّ الصوفي الذي جمع ثنائية لم توقف صوتها عن الغناء ولا جسدها عن الرقص، وهي تنطلق من التعبير الفردي إلى الجمعي، بسبب تشابك الحواس وتشارك المصائر: “تشابكت النظرات، دعاها للرقص، دارا كطيرين على سطح ماء، تلاحم جسداهما، ارتفع الصوت، حلّقت الأرواح، وقبل الوصول للنشوة.. تراءى خيال بينهما.. غضّ بصره فانداحا متباعدين كما تنداح الدوائر على صفحة رقراقٍ.”.
مع هذا النصّ الذي عبّر عن محتويات الكتاب ألقت الكاتبة روحها التي تسمو إلى مملكة النيرفانا وعذوبة الهدوء، بعد ملامساتها الدائرية لأوجاع أنثى تنقل الهمّ الاجتماعي، فيما أظهرته النمنمات المنسرحة بمختلف ألوان التعبيرات الشعورية، ليبقى مع السرد الكتابي أنغام رقصة التانغو وهي تصخب حيناً وتهدأ بالتلازم مع الموسيقى، لكأن القارئ مشارك في رحلة التزلج فوق جليد صنعته صفحة الماء، فالحواس لا تهدأ والتقاط المعاني التي خدشت الأسباب لا يكفّ عن الإطلاق، قبل اكتمال الرحلة وسكون القارئ على فسحاتٍ تأملية ساقها الشعور.
فيستشف من تلك الانفعالات عبور نفّاذ لانطلاقة بوح شفيف، واسترسال الدائرة التي أطلقتها حصاة الكاتبة، في بحرة صافية هدأت للتوّ، بما اختزنت من هموم وتناقضات. ليتمادى الشعور مع ما يختلج في أعماق أنثى مليئة بالتجربة، عبر اتصالها بالجنس الآخر وهو في موقع الرجل الحاضر والغائب، الزوج والابن والحفيد والمجتمع بكل تناقضاته. والنصوص كتبت بحروف لا تستهوي الغموض، وآثرت الحفاظ على رصانتها وأنغامها الشفيفة، لسهولة المقاربة والغوص العميق في مداءات الانفعال.
ففي “زائر الليل” محاولات مبتورة لحنين إلى حياة كريمة جرحها الواقع. وفي “صراع” انتصار على المرض ونزعة لإثبات الوجود. وفي “اللحظة الحرجة” شرح للبيئة المحمّلة بأخطار الصراعات الدموية.
تعكس نصوص الكاتبة تناقضات مترددة بين الوعي المؤدلج والشغف الإنساني في “مرآة” وحوار الروح والعقل في “أرواح”. وهي لا تقف على عقبات روي الحضور في الحياة وبعد الموت كما أظهر نص “أنا الظلّ”، وهي لم تترك باباً تعبره في مسالك العيش إلا وطرقته ببراعة نقدية، كشفت المظالم وما يحيط بالأنثى من دوامات خانقة لا تودي بها فحسب، بل هي طالت الرجل أيضاً. والكاتبة نقلت المشاعر الإنسانية التي كبّلتها البيئة، بما اعتراها من تناقضات وظروف أساءت للعلاقات بين الجنسين، ففي قصّة “اختلاف” تروي خنق الرغبة في أقصى حالاتها، عندما ألزم الواقع أنثى أرملة تلتقي صدفة بعشقها المتأصّل في أعماقها، لكي تكفّ عن مناغاة الحبيب، الذي عثرت عليه متشبثاً بمواقف لا ترضي قناعاتها السياسية، فهو في الموقع الآخر. ولا تترك الكاتبة في رويها ما أحيق بالوجود الإنساني من مظالم واستغلال انعكس على البسطاء إلا وطرقت بابه، كما في قصة “عامل” ثم العلاقات العاطفية والزوجية ومساوئ الزواج المبكر واستغلال وسائل الاتصال لتعميق ظاهرة الذكورة في المجتمعات المتخلفة، كما في نص “صيّاد” و”مقلب”.
قارئ تانغو الأديبة د. سوزان يخرج من رحاب رحلته مع القصّ القصير جداً، وقد حمل قيماً جمالية لا تنفكّ عن نشدان حقيقة تفرح في بعض الأحيان، لكنها ما أن يستتب خط اتصال الإصغاء والمشاهدة حتى يقف

شارد اللبّ، وهو يتأملّ ما عايشه في واقع المرأة المتمردة على نظام اجتماعي أورثها القهر والدونية، لكنها تشمخ بعزّتها وكرامتها ودورها في مجتمع تاهت عنه بوصلته، كيف لا وهي ترأف بحال رجاله تارة وتحمل لهم دعوة شفيفة لإتقان الفعل والحضور تارة أخرى، فتنقل على أجنحة الموسيقى والكلمة الطيبة المعاتبة رقصة المشارك في حركات التانغو، ولغة الكتاب حالمة عرفت كيف توحي وتأمل وتلوم دون حاجة للغرق في رمزية منفّرة. لقد أجادت الكاتبة نقل خواطرها بصورة القصّة القصيرة جداً دون عناء، فجعلت الطواف معها رحلة ماتعة.
د. زهير سعود
 
أعلى