حيدر عاشور - موتٌ غير معلن.. قصة قصيرة

لا احد يتذكر جيدا متى افتتح سعد الخطاط محله الذي اصبح من المألوفات العتيقة في ذلك الحي المنزوي في احد اركان المدينة.وربما اكون انا من الذين تتلظى في اعماقهم رغبة التزاور لهذا المحل او كما يسميه بعضهم ذاكرة الناس ... فسعد الخطاط ليس مجرد خطاط يتفنن في كتابة لافتات المناسبات من افراح واتراح لكنه يحفظ وقائع التاريخ وما تواتر على الناس والمدينة من احداث ولقد خطّ مئات او الوف اللافتات والاعلانات بمختلف اشكالها وانواعها سواء ا كانت على الخشب ام الورق ام قطع القماش ، وبرع ايضاً في الكتابة على الجدران.. لافتات الوفاة واعلانات البيع وقطع المحلات والصيدليات وعيادات الاطباء، ولافتات الشعار السياسي وختان الاولاد واعلان فقدان الاشخاص الذين خرجوا ولم يعودوا.. وعاصر سعد الخطاط كل الحكومات والانظمة وحين تسأله يأخذ نفساً عميقاً من سيكارته ويستغرق في رواياته التاريخية عن سيارة الملك غازي وكيف رسمها وكتب تحتها (سيارة الملك المعلى والمبجل) وعلقها في باب محله لاجتذاب الزبائن، وكيف كتب لافتة كبيرة خطّ عليها (انقذوا بغداد من الغرق) ايام الفيضانات في مطلع الخمسينيات، وكتب اخرى حديثة (انقذوا العراق من الغرق بالنفايات).. وكتب عشرات اللافتات عن العدوان الثلاثي على مصر وخرج في مظاهرات شارع الرشيد وقد خطّ الكثير من اللافتات ويتذكر انه لم يتقاض اجورها.. فخطاطو ايام زمان كانت تحركهم المشاعر الوطنية والانسانية ومهنة الخطاط هي مهنة معقدة تدخل فيها العواطف والاندماج مع الحدث ومن الصعب على الخطاط ان يتحول الى مجرد مهني يتقاضى المال عن مهنته سواء أ كانت الاحداث سياسية ام اجتماعية كالأعراس ام مجالس العزاء ام لافتات بيع البيوت ام لافتات بيع البيوت ام لافتات الاعلان عن طفل مفقود .. فالأم التي تبكي وتلطم على خديها لضياع وفقدان ولدها تنسى ان تدفع له اجوره.. وهو في غمرة انفعاله واندماجه مع الحدث الحزين ينسى ان يطالبها بشيء.. لكن الرب الكريم جعل من رزق سعد الخطاط رزقا وفيرا سواء أتقاضى من الناس اجورهم ام لم يتقاض ..
وانهمك لسنوات طويلة في كتابة اللافتات السياسية من مختلف المواقع الشعارية من اقصى اليسار الى اقصى اليمين.. من الوطنيين المخلصين الى موهومين وباعة شعارات فقط تحركهم مصالحهم والركض خلف الغنائم.
وبحاسته الدقيقة والمدربة بدأ يميز بين الصادقين والمزيفين وحتى اصحاب المحلات وهم يختارون اسماء ولافتات محلاتهم لإرضاء الناس او جهة معينة..
ولعل المرحلة الحزينة في حياة الخطاط سعد تتجلى بأيام الحرب فلقد خطت يداه مئات اللافتات للذين سقطوا في اتون الحروب التي ابتلعت الناس بمختلف اعمارهم ونشرت الخراب والاحزان وزادت في اعداد المعاقين والارامل والايتام واعرف ان الخطاط سعدا يحفظ تواريخ الذين سقطوا في الحرب يوما بيوم ويحفظ وقائع الناس وما حدث لهم ولذا كان الكثير يطلق عليه تسميات عديدة فبعضهم يصفه بذاكرة المدينة واخرون يسمونه بالسجل المدني فهو يكتب للجميع صيغ المعاملات و (العرائض) ويعرف اسرار الطلبات الموجهة الى دوائر الدولة، كدوائر الجنسية والعقار والسفر والجوازات ويروي الكثير عنه انه يجيد تقليد كل الخطوط والتواقيع وباستطاعته عمل مختلف الاختام الحكومية والاوراق الرسمية لكنه يرفض ان يفعل ذلك على سبيل الانتحال والتزوير وتروى حكايات كثيرة لتجار وميسوري الحال وقد عرضوا عليه اموالا ً طائلة مقابل حصولهم على مثل هذه الاوراق فكان وجهه يشحب وفرائصه ترتعد ويكاد يخرج عن طوره ويكشف عن غضب دفين يعبّر عنه بنظرات حادة تشي بالرفض والاستنكار فيدرك من يقف امامه ان هذا الخطاط بعيد عن مثل هذه التجارة اللعينة التي اكتنز من ورائها الكثير من الخطاطين والمزورين، لكن سعدا يقبّل يده ويضعها فوق جبينه وهو يقول لا اكتب بيدي هذه الا الحلال ولا اكسب بها المال الحرام.. فالخطاط لا تختلف امانته عن اية مهنة خطرة اخرى متوغلة في اعماق الناس ويكاد يحتفظ بأسرارهم كما يخط لهم احزانهم وافراحهم.
منذ اسبوع وهذه الافكار والتداعيات تنثال في ذاكرتي وذهني عن الخطاط العتيد سعد وربما هي مصادفة غريبة حين طلب مني ابي في تلك الصبيحة ان اتوجه الى محل الخطاط سعد وكتابة واجهة جديدة لمحل ابي الذي يعمل في بيع وشراء المواد الكهربائية وطلب مني ان اسمي المحل بمحل (الانوار) واتجهت الى سعد الخطاط وانا اشعر بانتشاء وزهو لأنني كعادتي في كل مرة استفز ذاكرته ليقص عليّ عشرات القصص والمواقف والذكريات في محله الصغير الذي لا يتجاوز الامتار القليلة لكنه قد عاصر كل الوقائع والحروب والاحداث وسجّلها بيده التي بدأت ترتعش قليلا في ايامه الاخيرة.
اقتربت من المحل الذي يحيطه السكون من كل جهاته وكأنه بقعة بارزة في جزيرة نائية وهالني ان اجد المحل وربما لأول مرة مقفلا ً وامامه اكوام من مختلف الاوراق والنفايات وكأنه ترك منذ اعوام تلفت بجانبي لأسال عن سبب اقفال المحل واتجهت الى المحل المجاور الذي يعمل في بيع الزجاج وحين سألت صاحب المحل عن غياب الخطاط اطرق بحزن وهو يخرج الكلمات من فمه بصعوبة وادركت منه بأن الخطاط سعدا قد رحل عن عالمنا والغريب ان الكثير لم يحضر جنازته بينما هو لم يتخلف عن جنازة واحدة او اية مناسبة اخرى حدثت في هذا الحي وبدأ الرجل يتحدث عن عيوب الناس وانكارهم وعدم وفائهم لهذا الرجل الذي لم يكن خطاط الحي فحسب بل كان الرجل قريبا من كل الناس، واندهشت من ان احدا لم يكلف نفسه بوضع قطعة او لافتة سوداء تعلن عن موت الخطاط.. فهل كتب على الخطاط ان يموت بلا لافتة تشير الى موته وخلاصه وهو الذي افنى عمره في كتابة اللافتات لمئات الاموات الذين قضوا نحبهم بحوادث او في حروب او الموت حتف انوفهم اي فوق فراش الموت..
عدت الى ابي وكأني احمل اوزار هذه المدينة ووقائعها الغريبة وهي مشغولة بهمومها واعمالها اليومية دون ان تتذكر ان ذاكرة المدينة قد تلاشت ورحلت الى الابد.. هل ستبدل الناس الخطاط بغيره او يلجأون الى الاعلانات الضوئية واللافتات والقطع الالكترونية المتوهجة وينسون الى الابد الخطاط سعدا الذي رحل بصمت دون ان يعلن موته على لافتة مهيبة تليق به.

* حيدرعاشور
* قصة قصيرة من مجموعة (بوحٌ مؤجل)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى