حسن المسعود - الجمال في الخط العربي..

عند عمل كل خط، أدرك جيدا أن أجيالاً من الخطاطين كانوا قد سبقوني، مخلفين إرثاً ثميناً، تركوه لنا ولأجيال المستقبل. ولكني بنفس الوقت أعرف جيدا أن الكثير من الخطاطين القدماء، غيروا وحوروا الخط الكوفي الأول. فأدى ذلك إلى بداية الإبداع والابتكار. وأصبح فيما بعد تاريخ الخط العربي مليئا بالأساليب والتكوينات المختلفة.
تـتطلب خطوط الماضي الثرية من عندنا مواصلة الابتكار، كيلا يتجمد هذا الفن و يصبح من الأشياء العتيقة التي لا تلائم العصر.

عندما أتوجه نحو الخط شاعراً برغبة التعبيرالفني، أعيش حالة كمن تـنتابه حمى يريد التخلص منها بشتى الأساليب. وهكذا فأن التعبير الفني يأتي دائما بدافع الحدس والإحساس قبل كل شيء. ولكن من وقت لآخر تمر في ذهني تساؤلات حول ما أعمله في مجال الخط الحديث. تـُرى هل أنني أسير في الطريق الصحيح لمواصلة الجمال في هذا الفن، أم لابد من تصحيح المسار؟ . ففي العمل الفني يصبح الشك من الأشياء الضرورية والإيجابية. وإن أستعمل هنا الضمير أنا فربما لا تكون الأنا إشارة فردية ، إذ قد يشاركني نفس المشاعر الكثير من خطاطي اليوم.

هناك مرحلتان في العمل الفني بمجال الخط: المرحلة الاولى وهي لحظة الخط حيث تعبرالخطوط وحركاتها عن الأحاسيس والانفعالات. وهي لحظة معقدة لا يمكن التكلم عنها، إذ تمتزج هذه الأحاسيس بالذاكرة وتمتد نحو جذور بعيدة وعميقة في النفس البشرية.
والمرحلة الثانية هي في الحوار مع النفس قبل وبعد الخط: من أين أتينا والى أين نذهب؟
ما هو الفن وماهوالخط؟ ثم التأمل في خطوط الماضي وتخيل خطوط المستقبل.

أتساءل عن شكل الجمال في خطوط اليوم، هل هوحقا الاستمرارية الشـكلية للخطوط الرائعة التي تركها لنا الخطاطون القدماء، وخصوصا الخط في فترة القرن التاسع عشر؟ أم لابد أن نعمل خطاً آخر يعبر عن الزمن الحالي. كل إبداع جديد لابد وأن يخوض صراعا مؤلما مع تركة الماضي، من أجل مخاض ولادة جديدة.
من السهل جدا معرفة جمال عمل الخطاطين القدامى، لأن تجربة خطوط الماضي انتهت ويمكن الحكم عليها بسهولة. ولكن من الصعب جدا تحديد شكل الجمال المعاصر، لأنه لازال بطور الخلق. فالجمال هو قيم نســبية، تـتغير مع مرور الزمن و تطور الإنسان داخلياً، ومع التقدم الذي تحرزه البشرية في منتجاتها المختلفة. إذن لابد من جمال جديد لكل صباح جديد.

*


من أجل عمل خطوط جديدة لابد من تهيؤ نفسي وجسدي مسبق لكل مرة. من الضروري التركيز التام للدخول في مرحلة التأمل.
تبدأ هذه اللحظات من الوقت الذي أبدأ فيه بتحضير الأدوات والألوان. حتى لحظات البدء بالخط. أشعـر وكأنني أنطلق من فراغ واسع ولا نهائي لا حدود له. أشعر كما لو كنت مغمورا بعاصفة رملية وسط الصحراء، حيث تـنعدم الرؤية تماما. الجمال الذي أنشـده يبدو لي كصور متخيلة غائبة وبعيدة أريد لها الحضور. ولكنها لا تأتي ولا تتحقق بسهولة على الورق، في الوقت الذي أكون كلي رغبة في محاولة الوصول إليها. هناك الرغبات، وهناك أيضا ً الحافز الداخلي الذي يستعرفي داخلي كالحمى، كاللهب. في بعض الأيام تكون ولادة الخطوط يسيرة، وفي أيام أخرى تكون عسيرة.
ومن وقت لآخر أنظر لكل ما عـملته وأدخل في تساؤلات ومقارنات بين الخطوط القديمة وخطوطي الحديثة. آنذاك أستعـيد كل ما رأيته و عرفته عن خطوط الماضي. وبنفـس الوقت أحاول تكثـيف طاقاتي لتحسـس اللحظة المعاشــة. أتخيل بسرعة ما يجري حولي. أحاول معرفة الخواطر في داخلي، وما تـتـناقله الأخبار عن أحوال الكرة الأرضية وساكنيها. وبحذرعال أترك العنان ليدي كي تعبر عن هذه الأحاسيس. تعبير يدي سيكون في الطاقات التي سـتدخل في جرات الحروف وحركاتها المتعددة. الألم أو الأمل، المعاناة أو الفرح. وهكذا تمتزج كل هذه الأحاسيس بالألوان وتصبح المادة المعبرة للخط، عبر الرقة أو القوة التي تـنبعث من الحركات.
من جانب آخر أريد لخطوطي البسـاطة وعكس اللحظة المعاشـة فقط. أريد عدم التذكر لكل تركة الماضي في لحظة الخط، نسـيان الماضي يؤدي إلى ابتكارلمعرفة جديدة. فالجمال الحقـيقي بالنسـبة لي هو التعـبـير عن هذه اللحظة المعاشـة. وتذكـّـر خطوط الماضي باستمرار سوف يشـوش مخيلتي، ولا يدعني أطير مع الحركات التي أحلم بها.
كيف الوصول إلى حقيـقـتي أنا إزاء عالم اليوم؟

تشـابه هذه اللحظات زوبعة داخلية تعصف بالأفكار والأحاسـيس، ويفـقد الذهن قدرته على التحكم بها، لذا أجدني في مهب الريح أو كما يقول الشاعر نصيّب:
سروا يركبون الريح وهي تلـفهُم

أريد أن أركب العاصفة ولا أدعها تسحـقـني. أريد أن أركض. أركض. ولكني لم أصل. فأن عالم الفن يبدو دائما على نقيض العالم المألوف كما هو. ودائما أشعر بأنني أبحث عن جمال مسـتحيل. فيصبح عـيـش هذه اللحظات ألما لا يوصف إلا بألم الفرزدق الذي قال:
وربما أتت علي ّ ساعة ونزع ضرس أهون عليّ من قول بـيت شـعـر.

أشاركه القول بأننا في الخط نواجه نفس الصعوبة، ففي بعض الأحيان يكون نزع ضرس أهون من عمل لوحة خطية.
الحركة الجميلة في الخط هي الحركة التي تعكس وجدان وعواطف اللحظة المعاشة في ذلك اليوم الذي أخط فيه. ولكن الوصول لهذه الحركة الجميلة يتطلب نسيان كل خطوط الماضي كما قلت وحتى خطوطي أنا. يجب أن أتخطاها، كي لا أقـلدها وكي لا أعيد خطوط معروفة. فمن السـهل جدا الاستمرار على حصيلة الزمن الماضي. من السهل جدا أن أكرر بطرق متعددة شـكلا اكتـشــفته منذ سـنوات.
أحياناً يكون هذا الشـك وهذا الشـرط شللا وتوقـفا، فأقول لنفـسي: ماذا تريد؟
إن الجمال ببسـاطة هو كقول نصيّب في كلماته الخمـسة في الأعلى: سـروا يركبون الريح وهي تلـفهم. ولكن هل يمكن ركوب الريح في زمن نصّيب وقبل اختراع الطائرة؟ ففي قول نصيّب تخيل للصورة ببسـاطة وعمق وقوة في آن واحد. وهل أن البساطة هي سهلة المنال؟ بالطبع لا.
وها أنا أذكر الشــعر عند التكلم عن الخط. لأنني عندما أقـرأ شعرا جميلا أرى خطا، وعندما أتأمل خطا جميلا أسمع شعرا.
يتردد في ذهني سؤال يتكرردائماً، سؤال يريد معرفة الجمال. معرفة جمال اليوم وجمال المســتـقـبل.
وأتساءل مرة أخرى، ما هو الجمال وكيف الوصول إليه؟
فتمر أمامي بسـرعة الضوء مئات الخطوط القديمة التي أعجبت بها. وأسـتمر في مقارنات وتحليل لسـاعات طويلة، أدور حول قلعة الجمال المغلـقة ولا أجد أي منفذ للدخول إليها.
أعود وأتساءل: هل أن قيم الجمال في الغرب هي نفس قيم الجمال في الشرق؟ ومرة أخرى أتساءل: هل أنني أنحدر من ثقـافة الشــرق أم من ثـقافة الغرب؟
فـقـد عـشـت ثـلث عـمري الأول في الشرق وثـلـثين منه في الغرب.ولكني عندما كنت في الشرق كنت معجبا بالفن الغربي، وفي الغرب أعيد النظر للتراث الواسع من خطوط الماضي.
وأخيرا هل هناك قـيم ثابتة للجمال في العالم بأجمعه؟
أم لكل بقعة على الأرض، ولكل مجموعة بشـرية قيمها الجمالية؟ قيم نابعة من تجارب الماضي وتأثــيرات البـيئة المحيطة بهم.
الجمال في الخط العربي القديم يشــبه موجات البحر الهائج، فما تـلبث أن تقـترب الموجة من الشاطئ، حتى تـتكسـر قبل الوصول إليه. ومن بعيد تأتي موجات أخرى وموجات. فـفي كل قرن كان الجمال متغـيرا. منذ بداية الخط للكـتابة العربية البســيطة قـبل أربعة عشـر قرنا ولحد اليوم. طريق طويل، هو طريق الخط عبر الفضاء والزمن الذي اخترقه. تجوّل في بلدان عديدة ما بين ســمرقـند وقرطبة.
أشكال الخطوط في البداية لم تكن سوى كتابة واضحة تـُعمل من أجل القراءة. فيما بعد أصبحت الحروف في حوار مع أشكال الزخارف المحيطة بها. ومع أشكال المعمار التي تحتضنها. وكذلك مع الحاجيات التي يصنعها المهنيون، وهذا التلاقي جعل لكل هذه الفنون علاقة عائلية، إذ يتأثـر شكل الخط بشـكل الفنون الأخرى التي يقترب منها.
عند البحث عن أسباب تغير وتطور أشكال الخط العربي على مدى القرون، نرى أن هنالك أسباب عديدة منها تطورالوعي الجمالي للبشر. وأسباب أخرى تعود للمواد التي استعملت للخط، بسبب الموقع الجغرافي أو تغير سلالة الحكم. وحتى حلم خطاط.
الجديد كان هو الجميل دائما. بعد أول خطوط كوفية بســيطة للقرن الثامن الميلادي، فكم هي جميلة الخطوط الكوفية للقرن التاسع. والتي كانت تبدو كهياكل عالية ـمبنية في الفضاء. نعجب برؤيتها رغم أننا لا نعرف ماذا تمـثل بالضبط.
كل مشـاهد يتحســسها على طريقـته. كان السـطرالأول يبدو وكأنه يُرفع من قبل الألفات واللامات للسطرالثاني. وعند القراءة لهذه النصوص، يشـتبك في ذهن القارئ معنى النص وإيحاءات أشكال الحروف. وكأنما توجد هنالك صور مخفية خلف السطور لا تبيح عن نفسها بسهولة.
في القرن العاشر أُبدل الخط الكوفي لكتابة القرآن بخط النسخ. لأن المجتمع العباسي المتطور والمترف لا تلائمه الحروف الكوفية الثـقيلة. وهكذا أصبح الجمال هذه المرة في حروف أسلوب النسخ المدورة والناعمة.

بعض الخطاطين أرادوا إعطاء الخط الكوفي نفساً جديداً ورشـاقة أخرى. فقرروا عدم خطه بالقصبة في الكتب، إنما رُسـمت حدود الحروف بخطوط ناعمة، ثم أضافوا إليها الألوان. وهكذا وُلدت طرق جديدة للخط الكوفي.
لكل إقليم من الأقاليم الإسلامية طراز خاص في المعمار. وأسـاليب مختـلفة في الخط. وتـتميز فـنون كل منطقة بما اكتـنزته من تأثـيرات الثـقافة المحلية السابقة. فأن الخطوط الكوفية لجامع الزيتونة في تونس لا تشـبه الخطوط الكوفية في محراب الجامع الكبير في قرطبة.
الخطوط الكوفية لجامع قرطبة لم يعد فيها فراغ بين الكلمات. وكان هذا تجديدا ًبالنسبة لما كان قبله من خطوط. فأصبح السـطر كله كتلة واحدة.
ولعمل هذا المحراب استـغل الخلـيفة الحكم الثاني في القرن العاشر كل علاقاته الدبلوماسية مع إمبراطور بيزنطة، كي يرسل له باخرة محملة بالأحجارالملونة، وعمال يساعدون عمال البناء المسـلمين لعمل هذا المحراب الرائع والذي لا زال يبهر الزوار بجماله لحد اليوم.
كان هذا الخط بالفســيفســاء هو الجميل بالنســبة لما قـبله من الخط المحفور على الحجر في جامع الزيتونة.
جمال الخط العربي وتطوره تم على يد سلـسـلة من الخطاطين الكبار، وكذلك من قبل خطاطين مجهولين عملوا مع المهنيـين في الخط على الأبواب واللوحات الخشــبية، وفي المنسوجات المخطوطة بخطوط حريرية، أو في سطور الحروف الكوفية المحفورة على الرخام، وكذلك في الاواني المعدنية والزجاجية المستعملة في الحياة اليومية.
في كل هذه المجالات كان الخطاط يحوّر الحروف لكي تدخل في المساحة المعطاة له. وحسب شكل الحاجة المراد تزيـينها في الخط وبحسب صلادة ورهافة كل مادة. ونرى الكثير من هذه الحاجيات تعرض اليوم في المتاحف العالمية، رغم أنها كانت في وقت عملها حاجيات للاستعمال في الحياة اليومية.
كل بلد له تقاليده الجمالية، ففي الهند مثلا عملت الخطوط عالية وكبيرة على الحجر الأحمر، منارة قطب بـينما في مسجد الأقـمر بالقاهرة كلاهما في القرن 12 عملت على واجهته الحجرية البيضاء خطوط كوفية صغيرة. ونفـس الخط الكوفي أخذ شكلا آخر ومظهراً نحيفا وأنيقاًعلى غاية من الجمال في الأواني التي كانت تعمل في ذلك الوقت في نيشابور، حيث رسمت الحروف باللون الأسود على الإناء الابيض الحليبي.
ولكن، الآن وهنا، ما هو الجمال الذي أريد أن اطرحه في عملي الفني، كي يعبر عن زمننا الحالي؟ أقول في نفسي: أنظرإلى الطبيعة من حولك. انظر إلى الأشجار والجبال الصحراء والبحار. فكل الفنانـين استوحوا واسـتـلهموا الجمال من الأشكال الطبيعية.
ولكن ماذا سآخذ من الطبيعة؟ هل استوحي من الطبيعة هيأتها وليس صورتها؟ هل أتأمل طريقة وجود النباتات لا واقعتيتها؟ نعم. لابد من الولوج لجوهر الأشكال في الطبيعة، والتعرف على هياكلها الأصيلة. فهنا شجرة تطير نحو السماء بخفة الراقصة. وهناك شجرة ترسم بغصونها خطوطا لا تقـل قوة وثـقـل عن الفولاذ. هنا أوراد ملونة وزاهية. وهناك نباتات جاثـمة على الأرض في غم وحزن.
إن كل ما هو مرئي ومتحسـس من الأشكال، ومهما هذه كانت الأشكال بشـرية أو نباتية أو صناعية، فأنها يمكن أن تكون مصدر إيحاءات ومنبعاً لأشكال جديدة في الخط، بشرط وجود الرغبة الغامضة للولوج في أجواء التعبير الفني.

كم أحسد الشعراء، الذين حسـموا المشكلة الفنــية في عملهم الأدبي، منذ زمن طويل. فمنذ زمن امرئ القيس وجدوا الحلول الكافية للمعضلات الفـنية. فهم بعد أن تعرفوا على صناعة الشعر، أخذوا يسكبون مشاعرهم الوجدانية والعاطفية داخل الكلمات والصور. تماما كالخطاط الصيني الذي لا يخط نفـس الكلمة مرتين بنفـس الشكل، لانه يتقدم ويزداد وعيا كل يوم بل في كل لحظة. بـينما يجمد بعض الخطاطين العرب التــقلـيديـين كل ما يعصف بقلوبهم. ويخطون الكلمات بمثـل ما يخطها أستاذهم القديم. فتأتي في أكثر الأحيان متكلـفة وجامدة.

*

جلست بهدوء أتأمل وأفكر في كل خطوط الماضي. أتخيل ألوانها ومساحاتها. أتوقف متأملا ًعند الخطوط المبتكرة في زمنها والغير متشابهة.

مع تحول الزمن وتغيره، تطور الخط وتغير أيضا، كانت الخطوط الكوفية الاولى وحتى القرن التاسع الميلادي تعكس اجواء الفضاء الصحراوي. بنقائها وقوتها وبساطة الأشكال، كالخيام السوداء التي تـُصنع من شعر الماعز على الرمل الذهبي وفي الهواء الطلق.
ولكن الحضارة التي دخلت بغداد وقصورها المترفة وحدائقها الغنـّاء في القرن الثامن الميلادي. فرضت على الخط التـفاعل مع الجمال الجديد. فانتـقل الخط العربي من الكتل الصافية المبنـية برصانة في الخط الكوفي إلى ما يشـابه الأغصان في أساليب الخط المرنة. بل حتى أن الخط الكوفي هو نفسه تزين بالأغصان والأوراق.

تيار آخر قاد الخط الكوفي إلى بناء الحروف بشكل آخر متأثرا بالمعمار، فخلق الكوفي الهندسي.
تبعت الخط أخته الزخرفة والتي استعـملت في اكثر الأحيان بهدف تزيـيني لملئ الفراغ ولخلق أجواء جديدة. لخلق حديقة أبدية ساكنة على الجدران. خلق الجنة.
في خطوط قصر الحمراء بالأندلس، ترقص على الجدران كلمات شاعر القصر في ذلك الزمن وهو ابن زمرك بخط أندلسي متماوج. حفرت حروفه على الجبس و بألوان دافئة.
وعلى الأبواب وأعلى النوافذ خطت استـقامات الحروف الكوفية المضفرة النحيفة والأنيقة.
بينما خط الفاطميون في مصر الكوفي المشــجر على خلفيات مورقة، وعند تأمله نشعر وكأننا نتجول في غابة غطيت بوفر الشتاء ولكنها من الجبس الأبيض.
أما خطوط المصاحف السلجوقية فقد طولت فيها الألفات واللامات وصعدت للأعلى بحروف رفيعة. مما جعل السطور في كل صفحة لا تتجاوز الخمسة سطور.
وهكذا أن للجمال حضور متغير في كل مكان.
منارة الملك مسعود الثالث في غزنة بأفغانسـتان القرن 12 نـُحتت عليها الخطوط الكوفية من الطين المفخور. نحت بارز للكلمات في سطورعالية حول المنارة. وأضاف الخطاط للحروف زخارف هندسية ملتصقة بها أو كامتداد لها. فولد خط كوفي جديد . خط مدهش لان الخطاط اخذ من الارض الطين وعمل منها تحفة لاتثمن.
وهكذا عندما نقول الخط الكوفي لابد من الإدراك أن للخط الكوفي القديم أولاد وأحفاد. إنها حقا ً لسلالة نمت وتطورت بمرور الزمن، اتخذ كل أبنائها اسم الخط الكوفي ومن كوفي المصاحف الأول سنجد أن كل بلد وكل زمن ابتكر الكوفي الذي يلائمه. أحيانا يضاف له اسم فرعي كالكوفي المشجر أو المظفر أو القيرواني أو الهندسي.

ابتداءاً من القرن الرابع عشر، بدأت محاولات أكثر جرأة في جماليات الخط العربي. ففي بعض التكوينات لم تعد الكلمات تكتب على شكل سطور، بل على شكل هياكل وكـتل تصعد للأعلى كالتماثـيل التجريدية في الفضاء. فأخذت الحروف تــتـشــابك فيما بينها، تشابكاً مدروساً للحروف وللفراغ المحيط بها. ومن الأكثر حبا وابتكارا لهذه التـشابكات في البداية هم المماليك.
من هم هؤلاء المماليك؟
أصلهم قبائل رحل من التركمان، استوطنوا آسيا الصغرى. وكان من عادة الحكام المسلمين آنذاك شراء أرقاء من هذه البلدان، ثم يقومون بتربيتهم على الفنون العسكرية لحراستهم. وبالتدريج أخذ هؤلاء الأرقاء الحكم في سورية ومصر منذ القرن الثالث عشر وحتى السادس عشر. بعد ذلك حكموا بشكل متـقطع.
وترك لنا هذا العهد المملوكي معالم معمارية غاية في الرشاقة والخفة. تمثـل نهضة في الفن المعماري. وزينت هذه المعالم بخطوط وزخارف أكثرها محفورة على الحجر. خطوط امتزجت فيها الحروف و الكلمات ولا يـبدو لعين الناظر، إلا جمال الإيقاعات الموسـيقية الآتية من الحروف. موسيقى تبعثها للعين خطوط مستقيمة واقفة، كالألفات واللامات. وأخرى مدورة في عناق أبدي.
كما ترك لنا عصر المماليك الكثير من الحاجيات المعدنية المستعملة في الحياة اليومية. حاجيات تغلفها خطوط عملت بمعادن مختلفة الألوان على غاية من الروعة والجمال. وتوجد الكثير من هذه التحف الآن في المتاحف العالمية. وللمماليك نهضة بالعلم والشعر.
كنت في عام 1980 أصور بعض الخطوط في معالم القاهرة. وأنا أ ُحضّر كتابا عن الخط العربي. فصعدت على سطوح بعض هذه المعالم. رغم خطورة السلالم العتــيقة. كنت أريد الاقـتراب من القباب وتصوير خطوطها عن قرب، لأن الحروف لا ترى بوضوح عن بعد. مُسِحَت السطور بسبب مرور قرون من الزمن عليها، وهي تـتحدى العواصف الرملية التي تغزو القاهرة من وقت لآخر. فكانت الخطوط تبدو تارة موجودة وتارة أخرى غائبة في الحجر، ولم يتـبق منها إلا الأثر.
كرر الخطاط في هذه الجداريات الألفات واللامات متجاورة. وأنزل كل الحروف الباقية للكلمات في الأسفل. فبدت السطور للمشاهد وكأنها غابات من القصب العالي، أو جذوع نخيل متناغمة في البساتين. الآثار الباقية لهذه الخطوط القديمة توحي بقدرة الخطاط الفنية العالية آنذاك، وبذوقه المرهف الذي كان يجعل الحجر يوحي بالأنغام.

داخل مسجد السلطان حسن في القاهرة، وفي أعلى الجدران توجد خطوط كوفية غاية في الروعة والمتانة. حروف عمودية متلاصقة على الرخام الرمادي . فأعطت المادة الصلبة للصخر هيبة لأشكال الحروف وبناءً فريداً للكلمات. أشكال الحروف تبدو كالبناء، أو كمعالم معمارية. وقد عرف الخطاط في ذلك الوقت كيف يوظف المادة الصلبة في عمله الفني. ورسم الحروف بشكل جمالي يخترق الزمن إذ لازالت هذه الخطوط رائعة في نظرنا لحد اليوم. ولا أعتقد انه يمكن أن نضيف الآن لهذه الخطوط شيئاآخر. إنها جمال خالد.
ولو ننتــقل إلى مدن آسيا الوسطى كسمرقند وخيفا وبخارى . وإلى معالم إيران والعراق وتركيا. لنجد أن أسلوب خط الثلث هو المهيمن على الجدران والقباب، لقدرته على التطاوع مع المساحات المعطاة للخطاط.
لعمل خطوط تدور حول القباب، ولكي تغطي الجدران للمساجد والأضرحة والمدارس القديمة. اتجه الخطاط في الماضي لعمل تشـكيلة بخط الثلث تخضع لخلفية هندسية لا مرئية. كسّر الكلمات وأعاد ترميمها وبناءها من جديد، لكي تدخل ضمن المساحات المعطاة له أو المساحات التي يريدها هو نفسه. غير آبه لعدم إمكانية قراءة ما يكتبه. فأنه يضع الكلمات كفن و بهدف جمالي بحت، وليس بهدف قراءة النص. انه حقا ً لتطور جريء في الخط يعطي حرية واسعة للخطاط في الابتكار.
تـُـحاط السطور في اسلوب الثلث دائما ً بزخارف نباتية وهندسية، فيتكامل الخط مع الغصون المرسومة حوله. في بعض الأحيان تظهر الزخارف بألوان متعددة خلف الخطوط فتعطي بذلك إيحاءً بالعمق.

ولدت أشكال جديدة للألفباء العربية في مناطق جغرافية متعددة، ومنها خط التعليق الذي ولد في إيران في القرن الرابع عشر نتيجة حلم خطاط كما يقال. إذ رأى حروفاً تكتسب أشكالها من البط الطائر. ورسمها بعد ذلك على الورق، فاكتسبت بعض الحروف شكل الجناح وأخرى شكل البطن أو المنقار. والهيئة العامة للخط تجعل منظر الحروف معلقا. وهكذا سمي هذا الخط ب تعليق

لازال هذا الخط يستعمله الخطاطون لحد اليوم . وهو لا يشابه الخطوط التي سبـقـته، بسبب مظهره الفضائي. إن خط شكل بعض الحروف في أسلوب التعليق يتطلب قدرات فنية عالية لإنجازه. فمثلا أن حرف السين الطويل، والذي يعمل كخط أفقي مستـقيم ينتهي بنصف دائرة. يتطلب خطه وضع منقار القلم في بداية الخط بانحناءة 40 درجة تقريبا ويستمر أفـقياً نحو اليسار ثم يلتوي برهافة على نفسه، لينتهي بدرجة 90 للهبوط من أجل خط كأس السين.

خلال حكم الدولة العثمانية ولدت اتجاهات متعددة في الإبداع داخل الخط. وأهم مرحلة ـ والتي هي القاعدة الأساسية لفن الدولة العثمانية ـ ولدت أثناء فترة حكم سليمان القانوني في القرن السادس عشر. وسليمان هو نفسه كان من هواة الفن. فما بين متاعبه في الحكم، كان يدخل مشـغله الفني من وقت لآخر ليعمل حلية لزوجته.

وكان يشجع خطاطه المفضل أحمد القره حصاري، والذي كان يرسم تكويناته ويخطها بشكل اقرب للفن التشكيلي منها للخط التقليدي. كان يعيد خطه عدة مرات ويهتم في البناء للحرف و بالتنـقيح والتصحيح والصقل.
ولا يعني هذا أن جمال الخطوط كان سابقا في القصور فقط. فـقد شاهدت في الثمانينات من القرن العشرين بعض طلاب مدرسة تحسين الخطوط في القاهرة. ينقلون الخطوط الـثـلثية الرائعة عن لوحات أسماء الشوارع في القاهرة. لأنها عملت من قبل خطاطين كبار. أو من واجهات بعض المقابر. وهكذا أن زوايا المدن القديمة لازالت تحتوي على خطوط في غاية الروعة والجمال أود أن أكرر مرة أخرى إن ما أقوله هنا لا يعني أن الخط العربي متواجد في المدن الكبرى فقط.
فكم من مرة وأنا في رحيل مع البدو في الصحراء الموريتانية. كنا نجد عوائل بدوية تحت الخيام يحتفظون بصناديق فيها كتب قديمة مخطوطة باليد. وتكون هذه المخطوطات، الإرث والتراث الوحيد الذي يملكونه لتحديد هويتهم الثقافية. يعتزون بهذه الكتب ويحافظون عليها كما يحافظون على عيونهم، يحملونها أينما ذهبوا، وقد توارثوها أباً عن جد. يفتحونها من وقت لآخر، لا يعرفون قراءتها ولا يفهمون مواضيعها، لكنهم يعتزون بها أشد الاعتزاز، وكأن تصفح هذه المخطوطات يؤكد لهم مدى عمق جذورهم العائلية، ويمنحهم الثـقة بالنفس.

أقول مع نفسي: إن جمال هذه الخطوط هو وحده الذي يهبهم هذا التعجب والاحترام. انه في النهاية العمل الجمالي للخطاط. والجمال في هذه الخطوط هو وحده الذي ينمي عندهم هذه الثقة بأنفسهم.
وربما أن ما نجده عند البدو نفتـقده لدى ابن المدينة. بل انه ينساه اليوم وهو يعبد الصور المبثوثة من شاشة التلفزيون. بينما الحكمة تفترض احترام الجمال القديم والحديث .

الخطوط القديمة تملأ المتاحف، وتغطي جدران المعالم المعمارية في الهواء الطلق، من سمرقند وحتى قرطبة مرورا ً في كل دول العالم الإسلامي . خطوط تتميز بحرية واسعة وابتكار لا حصر له.
في آسيا الوسطى تمازجت الخطوط بالألوان والطابوق في المنائر والقباب والجدران. ولا ندري هل أن الزخرفة هي التي أعطت هذه الخطوط أشكالها وأوحت بها، أم أن الخطوط ذاتها أنجبت تلك الزخرفة، فأن ما يدهش الرائي هو الانسجام فيما بينهما.
وفي الطرف الآخر من العالم العربي ـ الإسلامي، في الأندلس مثلا يختلط في قصر الحمراء الشعر بكلماته المنحوتة على خلفية زخرفية . فتتمازج الحروف والأغصان النباتية في لوحات غلب عليها التجريد، وكأنما تروي لنا أشياء كثيرة على صغر حجمها. فيتيه الزائر لهذا القصر ما بين عالم النباتات، وعالم الكلمات. يتخيل الجمال كما يريد وكأنه في حلم لا يوقظه منه إلا خروجه للشارع وعودته للزمن الحالي.

إن اختارت أوربا منذ القدم الصورة للتعبير الفني. فأن الشرق فضّل إلغاء المظاهر المكانية والواقعية للأشياء وتَركَ لحدس المشاهد إدراك ما توحيه العلامات الخطية والزخرفية. وفي مجال الخط فأن المشاهد يتحرى الأسرار الكامنة خلف الكلمات وهندستها. ومن عالم المحسوسات فأنه سيصل إلى عالم المعرفة.
في الزخارف التي تجاور الخط، استعملت باستمرار وحدات متكررة تمثـل نوعين مختلفين: الأول هو الأغصان والأوراق والزهور. حورت وأعيد رسمها كيلا تـشابه المشاهد الطبيعية. تجاور أسلوب خط الثلث دائما. وهذه الزخرفة تريد أن تمثل الجنة الحديقة.
أما النوع الثاني ، فهو الزخرفة ذات الخطوط المستقيمة، والتي تتـشابك فيما بينها وتترك هنا وهناك أشكال نجمية. ومن الطبيعي أنها ترافق الخط الكوفي. والمراد منها أن تعكس السقف السماوي الآهل بالكواكب.
ارتبطت الزخارف في الماضي بما يسمى بالمربعات السحرية، وحساباتها الرياضية. والتي تربط الفن بالعلم. وما يسمى آنذاك بعلم التنجيم ومعرفة المستقبل. فكانت هذه الزخارف وخلفياتها الفكرية والسحرية، تعطي الإنسان حجما واسعا يختصره الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في القرن الثالث عشر بهذا البيت الشعري:

وتحسب أنك جرم صغير = وفيك انطوى العالم الأكبر

وبعد هذه الجولة السريعة في عالم الخط القديم بحثا عن الجمال. أقلب صفحات بعض الكتب أقرأ ما كتبه نقاد الخط سابقا. وكيف كانوا يحددون القيم الجمالية:
ففي كتاب أبو بكر الصولي ـ القرن العاشر. ومتى يستحق أن يوصف الخط بالجودة يكتب:
إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وأشرق قرطاسه، وأظلمت انقاسه ـ الحبرـ ، ولم تختلف أجناسه، وأسرع إلى العيون تصوره، والى العقول تثمره، وقدرت فصوله، واندمجت أصوله، وتناسب دقيقه وجليله، وتساوت أطنابه، واستدارت أهدابه، وصغرت نواجذه، وانفتحت محاجره، وخرج عن نمط الوراقين، وبعد عن تصنع المحررين، وقام لكاتبه مقام النسبة والحلية، وخيل انه يتحرك وهو ساكن.
ومن نص آخر :
إذا كان الخط حسن الوصف، مليح الرصف، مفتح العيون، أملس المتون، كثير الائتلاف، قليل الاختلاف هشت إليه النفوس اشتهته الأرواح.
ويصف إسحاق بن إبراهيم الخط الحسن بالكلمات التالية:
ومما يزيد الخط حسنا، ويمكن له في القلب موضعا، شدة سواد المداد، وجودة الأقة في الدواة، فأنه يجري في الخط مجرى القطن من الثوب، فمتى كان القطن رديء الجوهر، لم ينفع النسّاج حذقه.
أما ابن مقلة في القرن العاشر فأنه يرى أن جمال الحروف في أشكالها يحتاج إلى خمس أشياء هي: التوفية، والإتمام، والإكمال، والإشباع، والإرسال، ويستمر شارحا لكل هذه الأشياء.
ويصف خطاط آخر جمال الحروف بعدة معاني: الخط المجرد بالتحقيق، والمحلى بالتحديق، والمجمل بالتحويق، والمزين بالتخريق، والمحسن بالتشقيق، والمجاد بالتدقيق، والمميز بالتفريق. وهو الآخر يستمر شارحا ً كل معنى.

كان للخط حضورا واسعا كما كان يلاقي اهتماما عاما من المجتمع. اهتمام يدفع الخطاط للبحث والتطور، وإتقان مهنته والإجادة فيها. وكانوا يسمون في الماضي تقـنيات الخط ب صناعة الخط إذ لابد للخطاط من معرفة هذه الصناعة ولا يمكن الذهاب من لاشيء.
لا يوجد خط مولود من القريحة والبديهة والارتجال فـقط. إنما لابد من معرفة وهضم تركة الأقدمين. ومن ثم إضافة شيء جديد آت من تأثير العصر الذي يعيش فيه الخطاط. وهكذا يبقى الخطاط على صلة بين خطوط الماضي والخط المعاصر.

ومن نص آخر في كتاب الصولي:
الحذق بالخط أن يقدر الكاتب ( الخطاط ) بقلمه أجزاء حروفه وكلمه، وخاصة في طول الحرف لا في عرضه، ويفرق بين الحرف والحرف على قياس ما مضى من شرطه في قرب مساحته وبعد سياقته. ولا يقطع الكلمة بحرف يفرده في غير سطره.
ويسوي إصلاح خطوط كتابته ولا يغيره فيحليه بما ليس من زينته، ولا يمنعه حفا ً فيخلف حليته، ويفسد قسمته.
ويستقبح أن يقع في الخط نوعان مختلفان، ويقوم في النفس من ذلك ما يقوم فيها من الشعر إذا اختلفت أعاريضه، وخلط فصيحه بمولده.
وأحلى الخطوط المحقق اللطيف، المستدير الحروف، المفتوح الصادات والطاءات، المختلس التاءات والحاءات ولا يحسن أن يجمع في الحرف مشتقان ولا بين ياءين معروقتين
الخط العربي فن استلهم الطبيعة دون تـقليدها. ويذهب مباشرة إلى جوهرها الهندسي والإيقاعي حسب ( النسب الفاضلة ) والقياسات السليمة. الخطوط تتأثر بمظاهر المعمار. والمعمار يعكس إيقاعات الموسيقى. وكان معيار الجمال آنذاك هو كل ما يفرح القلب فقط ويثير احساساته.
الجمال عند الخطاط كان يتم في شحن الحروف بطاقة مرئية. والاهتمام بالعمق على سطح العمل الفني الجداري. من خلال تعدد الألوان، أو وضع خط ناعم يوحي بالبعد إلى جانب خط سميك يوحي بالقرب. وكذلك أعطى الخطاط أهمية للنور داخل مادة الخط، من خلال نفاذ الضوء في الحبر الأسود أو البني على الورق. أو عبر السيراميك المزجج والمرمر والمعادن المتعددة.

الآن ما هو جمال الخط العربي؟ ومن أين أتت هذه الاهتمامات التقنية العميقة في الانتظام والتناغم لدى الخطاط القديم؟
يرى البعض أن كلمة جمال في اللغة العربية آتية من كلمة جمل ولم لا ؟
فالجمل الحر في الصحراء هو أجمل شيء: شكله الفارع، الألوان المتعددة للوبر الذي يغطيه. حركته الإيقاعية في المشي، فيمكنه البطء إن أراد، كما يمكنه السرعة.
ومن الناحية النفعية، فلولا الجمل لما استطاع العرب اختراق الصحراء.
الجمل صبور يصمد إزاء الحر والعطش. وعند افتـقاد الماء فأن الناقة الرحيمة تنقذ البدوي من الموت بقليل من الحليب.
الجمل رفيق الإنسان يساعده على الحياة وعندما تسير القافلة في الصحراء تمتد عيوننا نحو الأفق لتشاهد الإبل، وكأنها تكتب سطراً طويلاً يشبه أسلوب خط الجلي ديواني.

*

عندما يمسك الخطاط قلمه للخط على الورقة البيضاء، إنما يواجه الفضاء اللانهائي. ليشغله بالحروف والكلمات. يتقدم في حذر ذهني لتحسس ومواجهة اللامنتظر. فمهما تكن معرفته كبيرة بالحروف، يبقى الوصول إلى الجمال غير مؤكد.
الجمال في الخط كما أراه اليوم هو في علاقة مع التجربة المعاشة في الزمن الحالي. أما الجمال في القرن الماضي، فقد كان على الخطاط أن يبدأ بالتمرين مقلدا ً خطوط أستاذه. و عندما يريد الخط يختبر قدرته على خط الحروف منفصلة. وبعد ساعات من مواصلة التمرين قد يتوقف الخطاط ويرجئ الخط ليوم آخر قائلا ً انه لا يستطيع خط الألف أو الباء كما تترآى له في ذهنه.
يبحث الخطاط القديم عن قيم الكمال والجمال في الحروف كما تعلمها. ولا يريد أن يكون في خطوطه مجال لعاطفته الفردية. فيعود للتمرين في اليوم التالي، يقلد خطوط كبار الخطاطين الذين سبقوه. وعندما يتأكد من قدرته على خط الحروف جيدا، يبدأ آنذاك الخط، فيبحث عن التآلف والتناغم بين الحروف والكلمات. بين كل الأجزاء التي سوف تكوّن في النهاية شكلا واحدا.
وها أنا أتساءل مع نفسي، هل يمكنني أن أبحث عن جمال مشابه لهذا في زمننا الحالي وفي أوربا حيث أعيش؟
أعتقد أنه من الممكن أن نستمر في الخط على اتجاهات متعددة. يمكننا احترام الأساليب القديمة. ولمن يريد مواصلتها له الحرية في ذلك، وأن قلة وجود الخط والخطاطين في زماننا الحالي تتطلب الاعتـناء بكل الكفاءات.
ولكني أريد أن أضيف في عملي الخطي الحديث الجانب التعبيري.أريد أن أضيف شيئاً يقـترب من الفن التشكيلي، أن يكون هنالك مكاناً للقلب وأحاسيسه. فأن كان القلب هادئا جاءت الخطوط صافية. وإن كان القلب مثـقلاً تأتي الخطوط مثـقلة كذلك. وهذا الثـقل إن كان صادقا يمكن أن يكون جمالا أيضا.
إن حضور أحاسيس القلب في العمل الفني سيـساعدني على معرفة ذاتي. وبالتالي أن أحاسـيسي الشخصية والتي هي من ضمن أحاسيس المجموعة البشرية التي انتمي إليها، لو دخلت الخط فلابد أن تـكون هذه التجربة كوسيلة للتعرف أكثر فأكثر على النفس البشرية. وهكذا يمكن أن نخلق تياراً جديداً داخل الخط العربي.
وعندما تمتـزج الأحاسـيس بالحركات، فقد يأتي أثـناء هذه العمليات الفنية ما هو غير متوقع. ولكن ذلك الغـير منتظر قد يصبح ضرورة فيما بعد. ضرورة لا يمكن أن نراها في البداية ولا يمكن التـنبؤ بها. ولكن عندما تأتي تكون هي المراد لاغيرها.

جمال الخط كان أحد العناصر الفـنية داخل المجتمع. وهذه العبارات للخليفة المأمون وهو ينظر إلى نص رسمي مخطوط، تشير بتلخيص لهذه الأهمية:
لله در القلم كيف يحوك وشي المملكة، ويطرز أطراف الدولة، ويقيم أعلام الخلافة،
الخط روضة العلم، وقلب الفهم، وفن الحكمة، وديباجة البيان.
لم يكن هذا الجمال قد جاء بالصدفة، بل نتيجة لتراكم بحوث وتجارب وتمارين خطاطين وخطاطات من عدة أجيال. إن الخط يتطلب جهود واسعة وهو صناعة معـقدة. تخضع لقواعد دقيقة لا يحيد عنها الخطاط، إلا لإضافة ابتكارات جديدة تكون كتطور سليم لهذا الإنتاج الفني. ويقابل هذا الابتكار تثـمين واحترام المجتمع.
الجمال في الماضي تحقق أيضاً بفضل وجود النقد. ولدينا نصوص تقـنية وأدبية كثيرة حول جمال الخط كهذا النص لأبى القاسم المجريطي في القرن الحادي عشر:
ينبغي لمن يرغب أن يكون خطه جيدا، وما يكتبه صحيح التناسب، أن يجعل لذلك أصلا ً يبني عليه حروفه، ليكون لذلك قانونا ً يرجع إليه في حروفه، لا يتجاوزه ولا يقصر دونه.
ومثال ذلك أن تخط ألفا ً بأي قلم شئت، وتجعل غلظه للذي هو عرضه مناسبا لطوله وهو الثمن، ليكون الطول مثل العرض ثمان مرات. ثم تجعل البركار على وسط الألف وتدير دائرة تحيط بالألف لا يخرج دورها عن طرفيه، فأن هذا الطريق والمسلك يوصلان إلى معرفة مقادير الحروف على النسبة، ولا تحتاج في مقاييسك في ما تقصده إلى شيء يخرج عن الألف وعن الدائرة التي تحيطه.
وفي القرن العاشر يعطينا المزرباني رؤيته للجمال في الخط:
الخط هندسة صعبة، وصناعة شاقة، لأنه إن كان حلوا ً كان ضعيفا. وأن كان متينا ً كان مغسولا، وإن كان جليلا ً كان جافيا، وإن كان دقيقا ً كان منتشرا. وإن كان مدورا ً كان غليظا. فليس يصح له شكل جامع لصفاته الكبر والصغر، إلا في الشاذ المستندر.
ربما يكون المزرباني على حق. إذ لا يوجد جمال كامل، إنما ذرات من الجمال عند كل خط.
وأخيرا ما هو الجمال؟
الحقيقة التي أشعر بها وأنا اكتب هذه الكلمات، هي أنني وبعد هذه الجولة وتعرفي على بعض التراث لابد من أن أحاول أن أنسى كل شيء عند ممارسة الخط الحديث. آنذاك فـقط سأصل إلى حقيقـتي أنا.
من أجل الوصول إلى التعبير الذاتي لابد أن تكون المعرفة كخلفية بعيدة جدا. كي تفـسح مجالاً للتخيلات الجديدة. وكي تكون خطوطي انعكاس للحظة الآنية. دقة وكمال ما أنشده، لابد من خطه بأقصر وقت ممكن. و كل مساحة صغيرة يجب أن توحي بشيء لعين المشاهد.
الحكم على الجمال يبقى للعين المتمرسة وحدها. ولا توجد في العالم آلة يمكنها تقدير مدى قيمة الجمال في العمل الفني.
مما لا شك فيه أن البعض سوف لا يجدون في هذا الجديد ما يطمئنهم لأنهم لا يعرفونه جيدا بعد. ولكن هذا هو حال كل جديد. إنه يتطلب زمنا لكي تتـقبله الأغلبية. ومع مرور الزمن يصبح هوالآخر قديماً ويصير آنذاك جزءاً من التراث. و يظل بانتظار مبدعين آخرين.

وأخيراً وجدت صورا للجمال ممكنة الإنجاز في الخط الحديث الذي أعمله، داخل نص لجبران خليل جبران لا يتكلم فيه عن الخط انما عن جمال الصورة الشعرية، نص بحد ذاته لوحة أو لوحات اراها عند قراءته ، نص يعكس حالات الروح الإنسانية إزاء الطبيعة. معاناتها وتطلعاتها. نص يمكن أن يكون أيضا ًمستقبليا ً للخط العربي لارتباطه بالطبيعة، لأنه لازمني وأتخيل عند قراءته حركات خطية. نص يحتضن الماضي والحاضر والمستقبل:

انه هو الفضاء ولاحد ّ له، وهو البحر بدون شاطئ، وأنه النار المتأججة دائما ً، والنور الساطع أبدا ً، والرياح إذا هبت أو سكنت، والسحب إذا أبرقت وأرعدت وأمطرت، والجداول إذا ترنمت أو ناحت، والأشجار إذا أزهرت في الربيع أو تجردت في الخريف، والجبال إذا تعالت، والأودية إذا انخفضت، والحقول إذا أخصبت أو أجدبت.

حسن المسعود ـ أكتوبر ـ 2007


* لمواصلة الموضوع بشكل اوسع لابد من الرجوع الى هذين الكتابين

Désir d'envol - Hassan Massoudy
Edition Albin Michel – Paris

الكتاب تأليف : حسن المسعود
يحتوي هذا الكتاب على 120 لوحة خطية. نصف بالاساليب القديمة ونصف بأسلوب حديث وبالالوان
كما يحتوي الكتاب على نصوص نظرية كثيرة عن الخط العربي الحديث باللغتين العربية والفرنسية
208 صفحة وبقياس 33 في 25 سنتمتر


Calligraphie Arabe Vivante - Hassan Massoudy
Edition Flammarion – Paris

الكتاب تأليف حسن المسعود
يحتوي على دراسة عن الخط العربي القديم باساليبه المتعددة. وكيفية خطها وتحليل قواعدها الجمالية. مع اكثر من 200 صورة للمعالم المعمارية المزينة بالخطوط وكذلك صور خطوط في لوحات وكتب وحاجيات متعددة. اكثرها تنشر لأول مرة
كما يحتوي على نصوص نظرية عن الخط العربي باللغتين العربية والفرنسية ومنذ عام 1981 يعاد نشر هذا الكتاب بدون توقف 176 صفحة وبقياس 32 في 24 سنتمتر


* المصدر نقلا عن :
The beautiful of the calligraphy، الجمال في الخط العربي ـ بقلم الخطاط حسن المسعود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى