عبد الحكيم برنوص - أصحاب الشرط!.. قصة قصيرة

قابلني عند مدخل الزقاق، في المكان الذي اعتاد فيه ركن سيارته، وقد تطاير الجمر من عينيه :
” أولاد الكلب! شرطوها ثانية..!”
كان هذا الصديق التعيس الحظ، قد أحضر سيارته لمدة ليست بالطويلة من عند المطّال، بعد معاناة طويلة من آثار ندوب، حولتها إلى ما يشبه حائط الغرافيتي.
وما إن عاد حتى عادوا، قضوا ليلتهم يلعبون فوق ظهرها لعبة الشطرنج المغربي، يرسمون رقعة هنا، وإن لم ترقهم، يعيدون رسم أخرى غير بعيد عنها. وكي يُظهروا تقديرهم وبالغ شكرهم ومستوى أخلاقهم العالي، فقد مهروا ظهر السيارة بتوقيعاتهم، يذيلونها بأنواع مختلفة من القلوب المخترقة بالسهام ورموز الفرق الرياضية وأسماء عشيقاهم غالب الظن. يفعلون ذلك على غرار التحية الخجلى الراقية، التي كنا نكتبها إلى ساعي البريد (الذي ماعاد يطرق باب دارنا ) في طرف قصي صغير من الرسالة .
على مقاعد الدراسة ، وعوض أن يتابع بعض أبنائنا النجباء حصة الدرس، ينهمكون في أشغال يدوية خفية، يحار أمامها كبار النحاتين والرسامين، فيطفقون نقشا وحفرا وتزويقا وزخرفة للطاولات وللجدران التي قررت أن تنقض، يكملون عمل غيرهم أو ما بدؤوه في السنوات الخوالي.
لا يكاد ينتهي من عمر المقعد الجديد بضعة أيام، حتى يستحيل لوحة فنية يعجز خبراء الفن واللوحات النفيسة وعلماء الاجتماع والأنتربولوجيا عن فك طلاسمها وتقدير “قيمتها” الحقيقية . وهي لوحات لو استثمرها علماء النفس ، لوقفوا على فتح كبير، يجلو أصل كل العقد النفسية والاجتماعية و السياسية التي تهد مجتمعنا هدّا .
خليط عجيب من التأوهات والشتائم والرموز والاستيهامات، والقلوب المنفطرة التي يقطر أصحابها دما ولوعة، وألفاظ بتراء وكتابات رديئة وكلمات شوهاء ومنظر كئيب منفر.
وما إن يهدر صوت المحرك منطلقا، حتى تطلق الأيدي العنان لأنفسها، فتعيث في مقاعد الحافلات والقطارات فسادا وإفسادا ، ينخرون ويثقبون كل ما تطاله أيديهم مثل السوس والأرضة.وطبعا فلا يفوت هؤلاء المنقبين، كسابقيهم، أن يوقعوا إنجازاتهم العظيمة، بتوقيع يشمل الاسم ورقم الهاتف ( بعد أن انتشر المحمول) تحسبا لاتصال من مجهول أو مجهولة ، يعوضون بها عن سنوات التشرد والضياع، وقد تكون رسالة إلى الأجيال القادمة ، يطلعون بها على حالنا الذي يجمل أن يدرسه علماء الأركيولوجيا والحفريات.
وبملاعب الكرة وغيرها، فما إن تُعلن نهاية المواجهة حتى تنطلق مواجهة أخرى، يتقاذف أصحابها المقاعد والكراسي واللافتات، وكل ما تطاله اليد من مقذوفات.
هل هو الانتشاء بتدمير الغير! وإلحاق الأذى به وبممتلكاته !أم هي السادية تنز لذة، كلما تعذب الآخر واحترق؟
أيكون الأمر دليلا بواحا، على الانهيار المخيف لمنسوب القيم والأخلاق ! ينذر بجفاف الروح، فيحيلنا كائنات للهدم والإفساد والمسخ! كائنات عظمية شبيهة بتلك التي يضعها القراصنة علامة عليهم.
أم هي رسائل مشفرة إلى الذين يهمهم الأمر، تفيض احتجاجا وتنذر بالرفض والتذمر ، فما الخدوش والندوب والوشم والوسم إلا مطالب احتجاج ، يصوغها أصحابها على ظهر السيارات والحيطان والطاولات والمقاعد، وهي والمطالب الاحتجاجية الأخرى سواء.
أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد سعي لامتلاك “توقيع”، كل الناس يريد أن يوقع ويمضي ويختم، ويضع بصمته الخاصة، ويعلن للعالم أني مررت من هنا، كما يفعل الغزاة ومستكشفو البلاد البعيدة.؟ الذين يتركون علامات الإعمار و الاستعمار.
هل للأمر علاقة بالثلاثية الأزلية، التي تحكم بني البشر ، في مسعاه نحو الخلود والبقاء في مملكة الله أطول مدة ممكنة، حتى لا يقع في غيهب النسيان ويطاله الغبار ولا يكون نسيا منسيا.
ثلاثية التوقيع بالقلم والسيف والأداة الأخرى المعروفة ( عبد المجيد جحفة) تحكم الناس وتجعلهم يتسابقون إلى الفعل والامتلاك، ولعل ذلك يفسر بعضا من اللذة و النشوة التي يبديها بعض الذين يحصلون على وظيفة بطابع ومهر.

الكاتب : عبد الحكيم برنوص

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى