نجاتي صدقي - أولجا رومانوف..

يعرفها الناس باسم (السيدة المسكوبية)، وهي تجيد خمس لغات أوربية، كما أنها تتحدث قليلا بالعربية العامية، ويعجبها أن تعرب عن أفكارها أحياناً باللفظ العربي الفصيح فتقول مثلاً: (يتغلب على ظني أن الأمر كذا وكذا و (ثق يا عزيزي بأنني متمسكة برأيي)، و (أجل)، و (ربما). . .

والسيدة المسكوبية هذه تقع في حدود الخمسين من عمرها، قصيرة القامة، نحيفة الجسم، عظيمة الهيئة، مجعدة الوجه، غائرة العينين، مصفرة الأسنان، وبعضها قد نخره السوس، لكنها تحتفظ بشعر أشقر طويل تضفره وتعقده حول رأسها، وهي تحاول دائماً أن تكون ضحوكا لعوباً، ميالة إلى تقليد الفتيات اليافعات الطارقات حديثاً أبواب الحياة. . .

وتسكن هذه السيدة في دير الأرز الواقع بين منعطفات المرحلة الثالثة من طريق الآلام في مدينة القدس القديمة... وغرفتها على قدرها، طولها أربعة أمتار، وعرضها متران، ويتألف أثاثها من سرير مفرد، يستند إلى قوائم أربع، إلا أن فراشه يُقبل الأرض! وخزانة ضيقة عتيقة عرجاء، يقف في الزاوية كما يقف المسكين مستعطياً. . . ومائدة صغيرة تستعمل لكل شئ: للطبخ والأكل والزينة، فغدت سوداء براقة لاختلاط دهانها بالزيوت التي تنساب عليها من الصحائف والملاعق، وبساطاً (موزاييكا) حيك من مختلف الشرط البالية، وصورة علقت على الحائط تمثل (الخضر) راكباً على فرسه وهو يلقم التنين رأس حربته. . . وألبسة وقبعات نشرت على مشجب خشبي. . . أما باب الغرفة، فقد دقت فيه من الداخل مسامير صغيرة تستعمل لتعليق بعض المناشف وأوائل منزلية أخرى. . . وألصقت عليه من الخارج رقعة كتب عليها: (أولجا نيقولا يفنا رومانوفا)

وتدعى السيدة المسكوبية بأنها منحدرة من آل رومانوف قياصرة الروسيا، وأن (الدهر الخؤون) طوَّح بها إلى بلاد العرب، وأنها فقدت زوجها، ولم تنجب منه أولاداً، فتفرغت للعبادة والخدمة في الصليب الأحمر، وهي تعتقد أن لها (صلات قدسية) مع بعض القديسين، وبوسعها أن تكون وسيطة فيما بينهم وبين قاصديهم من طلاب الحاجات.

وللسيدة المسكوبية جيران يشفقون عليها فيمدونها بين حين وآخر بما تيسر من حواضر البيت، وتغتنم هي الفرص في كثير من الأحايين فتقف عند باب غرفة جارها وتناديه، فإن كان داخلها ورد عليها سألته:

- هل لي أن أعرف الوقت الآن؟

وإن كان خارجها دفعت الباب صارخة:

- ما بك يا جاري. . . عساك بخير؟ فإن لم تجد في الغرفة أحداً تناولت شيئاً، وانسحبت على عجل!

وفي أحد أيام شهر كانون الثاني (يناير) سنة 1943 حلَّ في الدير ضابط بولوني اسمه (يوزيك غروزني) سرح من الجيش لعدم صلاحيته للخدمة العسكرية، وأستأجر غرفة في الطابق الأسفل من الدير، وكان متاعه ما جلبه معه من الجيش من سرير عسكري وأحرمة وألبسة وأدوات أكل. . .

وهنا تبدأ القصة:

فبينما كان يوزيك مستلقياً على سريره ذات مساء، يستعرض بحرقة وألم الأيام العصيبة التي مرت به منذ أن فر من بولونيا، حتى اشتراكه في معارك ليبيا ووقوعه جريحاً، وإحالته إلى هذا الدير عاطلا، إذ به يلمح امرأة تقف عند نافذة غرفته وهي تبسم له وتقول بالبولونية:

- حضرتك جارنا الجديد؟

- نعم!

- أأنت جندي؟

- ومن أية بلدة بولونية أنت؟

- من لودز

- أحقاً أنت من لودز؟ يا لغريب المصادفات! إنني قضيت شطراً من شبابي في هذه المدينة الجميلة!

- وحضرتك ما اسمك؟ ومن أين؟

- أنا أولجا نيقولا يفنا رومانوفا! (ورفعت رأسها إلى العلاء قليلاً) إن الدم الأزرق يجري في عروقي، دم آل رومانوف!

فانتقض يوزيك في سريره وانتصب واقفاً وهو يحدق النظر ب (الأميرة) المشردة، وكان ينتابه عاملان خفيان: عامل الكره للروس، وعامل الحاجة إلى المعونة. يود أن يصرخ في وجه (سليلة) آل رومانوف، ويسمعها قارص الكلام في حق أبيها وعمها والحاشية القيصرية كلها، لكنه أحس أنه أصبح من مساكين هذا الدير، وهو في مسيس الحاجة إلى من يساعده ويواسيه، وعليه أن يكون سمحاً متواضعاً، فخرج إلى حيث تقف السيدة المسكوبية، وقرع قدمه اليمنى بقدمه اليسرى، وحياها بإصبعيه التحية العسكرية البولونية، ثم انحنى على يدها وطبع عليها قبلة رشيقة!

وتوالت الزيارات فيما بعد بين يوزيك وأولجا، فكانت هي تدعوه إلى شرب الشاي عندها، وكان هو يشتري لها بعض الهدايا من المعاش الذي يتقاضاه من الوكالة البولونية. وهكذا توطدت أواصر الصداقة فيما بينهما، وشعرا بالدفء إلى جانب بعضهما. . . وفي ليلة كانا يتبادلان فيها أنخاب الفودكا، فاتحها يوزيك بالزواج، فأسبلت عينيها خجلاً وتمتعت قائلة: (حقاً إنك لعفريت يا يوزيك. . . أيتزوج عملاق لم يبلغ الأربعين من امرأة ضعيفة قد ناهزت الخمسين؟!

قال: ولم لا؟ الحب يا سيدتي لا يقر بحد للأعمار، ولا يعترف بالسمن أو الهزل. . . الحب هو تبادل العاطفة المشبوبة بين نفسين متجانستين متفاهمتين. . .

قالت: أتحبني إذن؟

قال: فلتشهد السماء على حبي لك. . . ولنشرب نخب الحب والزواج. . .

ولم تمضي أيام على هذا الحديث حتى عرف كل من في الدير أن أولجا أصبحت زوجة ليوزيك، وأنهما سعيدان في زواجهما هذا. ومن مظاهر هذه السعادة أنهما كانا دائماً منطويان على نفسيهما في غرفة أولغا، يشربان الشاي نهاراً، والفودكا ليلاً، ويدخنان ويتماجنان ويقهقهان عالياً، ويعربدان أحياناً بصورة تقلق راحة الجيران، إلا أن هؤلاء كانوا يتسامحون مع العروسين الجديدين، ويغضون الطرف عما يبديانه في الدير من طيش ناتج عن انفعالات النفس والعاطفة. . .

وحدث في منتصف الليلة الثانية من الشهر الثاني لزواج يوزيك باولغا أن هبّ سكان الدير مذعورين على صراخ عنيف، وقرع شديد على باب الممر المؤدي إلى الغرف، وسمعوا أولغا تكيل السباب والشتائم ليوزيك، فتقول له: - اذهب أيها السكير إلى غرفتك. . . إنني آويتك وأحسنت إليك. . . اذهب أيها المتشرد. . . وكان يوزيك يجيبها: لقد سرقتني يا فاعلة كذا وكذا. . . والله لأبطشن بك. . . واحتدم الجدل فيما بينهما وحطم يوزيك باب الممر، ثم اقتحم غرفة أولغا ولكمها على عينها لكمة قوية تركت حولها هالة زرقاء، فاستنجدت بالجيران، ولكن أحداً منهم لم يجرؤ على التدخل، فاستنجدت مرة أخرى بأهل الحي، فجاءها الحراس واعتقلوا يوزيك، واقتادوه إلى دائرة الشرطة حيث حرر الضابط المسؤول محضراً، وكانت أولجا هي المدعية والمشاهدة، فقالت في إفادتها: - (لقد حطم زوجي الأبواب وضربني، فإنني أطلب له أقصى درجات العقوبة). . . ولما عادت إلى بيتها وسكنت إلى نفسها أخذ ضميرها يؤنبها، فراحت تبكي وتنتحب وتتساءل قائلة: - (رباه؛ من الذي سبب لزوجي الاعتقال غيري؟. . . ومن الذي أسكره، وسرقه، وقاده إلى سطح الدير سواي؟).

يبدو أن الإنسان مهما انحطت أخلاقه وفسدت، ومهما تدهور إلى مصاف الأسافل وتخبط في حضيض الحياة، يظل حاملاً في نفسه القليل من الكرامة، واليسير من المعنويات، فتراه إذا ما هزَّته مساوئه يثوب إلى رشده، ولو إلى حين، فيذكر أنه لازال ينتمي إلى بني الإنسان، وأن ما يقوم به من أعمال شريرة لأمر يناقض الأنظمة العامة التي اتفق عليها الناس، يخالف الطبيعة البشرية على الجملة.

وهكذا أحست أولغا يعامل خفي يدفعها لأن تسعف يوزبك، فعادت للتوّ إلى دائرة الشرطة وقالت للضابط المسؤول: - أود إدخال بعض توضيحات في إفادتي.

فقال - وما هي؟. . .

قالت: وأنني لأقر بأن زوجي لم يقصد من تحطيم الأبواب إلحاق الأذى بي، أو العبث بحوائجي، وإنه فعل ذلك وهو تحت تأثير الخمر فقط، وأما اللكمة التي أصابتني منه فقد كانت عفوا. . .

وبالرغم من هذا التوضيح في الإفادة حكم على يوزيك بالسجن أسبوعين: وفي السجن قص على زملائه قصته فقال فيما قاله: (. . . وكان من عادة زوجتي إذا ما وجدتني ثملا تفتش جيوبي، وتأخذ ما تجده من مال. وحدث مرة أن قبضت معاشي وجئت البيت، فوجدتها قد أعدت لي زجاجة كبيرة من الفودكا فأتيت عليها. ولما لعبت الخمر برأسي قالت لي: (هيا يا منى قلبي لنتنزه في ضوء القمر!) فقمت أترنح مستندا إلى ذراعها، واقتادني إلى حيث أرادت. ولا إذ كر كيف أفقت فوجدتني ملقى على السطح فتفقدت معاشي فلم أجده. . . فأدركت للحال أن (الأميرة) سرقتني.

فقال أحد المساجين: - ماذا تقول. . . أميرة؟. . .

فأجاب يوزيك: - أجل، تدعي زوجتي أنها من سلالة آل رومانوف!. . .

فقال سجين آخر: - ومن تكون زوجتك إذن؟

قال: - ليست زوجتي سوى امرأة مقامرة في حياتها.

فرت من روسيا إبان الحرب الأهلية، ثم قامت بأعمال مظلمة هنا وهناك، وتجولت بين تركيا والبلقان وعمان!. . . وهاهي اليوم تبارك الناس في النهار وتسطو علي في الليل.

ولما خرج يوزيك من السجن كانت أولجا تنتظره، وكانت هي قد أعدت له كعكا وشايا، فجلسا إلى المائدة، ودار بينهما حديث عتاب. وحديث آخر عن الإنسان وحظوظه العاثرة. . .

نجاتي صدقي


مجلة الرسالة - العدد 664
بتاريخ: 25 - 03 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى