رسائل الأدباء رسالة من الأستاذ كمال بسيوني إلى أستاذ من أساتذة الأدب في جامعة فؤاد الأول -1-

12 - 03 - 1951


بعثت بهذا الكتاب إلى أستاذ صديق من أساتذة الأدب في جامعة فؤاد الأول، وقد رأيت ألا بأس بإذاعته وإظهار الناس عليه فقد يكون فيه خير قليل أو كثير، وقد يكون فيه نفع ضئيل أو خطير. وأول ما يجب على الكاتب أن يؤثر الناس بالخير، ويختصهم بما يعتقد أن لهم فيه نفعا، فإذا تفضلت (الرسالة) فأذنت في نشره، فلها مني شكر ملؤه المودة الصادقة.
كمال بسيوني

***

صديقي العزيز. . .

لست أدري ما اهتمامك بهذا الشعر المصري الحديث، تدرسه وتنقده وتؤرخ له، إلا أن تكون قد أغرقت في العلم والفلسفة حتى مللتهما، فأردت أن ترفه عن نفسك بشيء من الجهل والسذاجة تجدهما في شعر هؤلاء الشعراء. ولا تغضب ولا يغضب معك هؤلاء الشعراء، فلم أرد إغضابك ولا إغضابهم، وما كنت في يوم من الأيام، ولن أكون في يوم من الأيام، مريد إلى إغضاب أحد أو متعمدا إسخاط أحد، وإنما هو الحق الذي أخلص له الحديث إذا تحدثت، والعلم الذي أتحرى فيه الصواب إذا بحثت، وأنا مهما كنت حريصا على إرضائك شديد الكره لإسخاطك، فأنا على إرضاء الحق أحرص، وللعبث بالعلم أشد كرها، وأنا من أجل ذلك آسف أشد الأسف حين أعلن إليك مضطرا أن هذا الشعر الذي يهز نفسك هزا، ويختلب قلبك اختلابا، لا يدل على شيء إلا على الجهل والسذاجة وما شئت من هذه الصفات التي تصور انحطاط الحياة العقلية، وماذا تريد أن أقول في كلام لا يصور حقيقة من حقائق العلم، ولا يشرح نظرية من نظريات الفلسفة، ولا يعتمد على منهج من مناهج البحث، ولا يحب الدقة إذا أراد أن يحدد الأشياء، بل لعل أبغض شيء إليه أن يسمي الأشياء بأسمائها. ستقول: وما للشعر ولهذا كله؟ ومن قال إن الشعر يصور حقائق العلم أو يشرح نظريات الفلسفة أو يعتمد على مناهج البحث أو يحرص على تسمية الأشياء بأسمائها؟ ولقد كنت تقول الشعر وتنشره في (الثقافة) وفي غير (الثقافة) من المجلات الأدبية، فهل كنت تقصد به إلى حقائق العلم ونظريات الفلسفة، أم كنت تقصد إلى الجمال الفني في نفسه، لا تريد أن تصف شعورا شعرت به، أو إحساسا أحسسته، أو عرض لك، في لفظ يلائمه رقة ولينا وعذوبة، أو روعة وعنفا وخشونة؟ أكان شعرك يتناول حقائق العلم ونظريات الفلسفة، أم كان شعرك يتناول الطبيعة وجمالها، يتناول العاطفة وحرارتها، يتناول الرضا والسخط، يتناول الفرح والحزن؟ لقد كنت شاعرا وتعرف أن الشعر فن كله، يفسده العلم أو يكاد يفسده إن دخل فيه، وكنت شاعرا وتعرف أن الشعر ليس هو الكلام الذي يعتمد فيه صاحبه على البحث والمقارنة واستنباط الحقائق، وإنما هو الكلام الذي يعتمد فيه صاحبه على الخيال، ويقصد فيه إلى الجمال الفني الذي يختلب الألباب ويستلب العقول. ستقول هذا وأكثر من هذا، وأنا أحب أن أستمع منك إلى هذا الكلام وأمثال هذا الكلام، لأن هذا الكلام نفسه لا يؤيدك في شيء، ولكنه يؤيدني في كل شيء، ويثبت بما لا يدع مجالا للشك أو الجدل أن هذا الشعر لا يدل إلا على الجهل والسذاجة وما شئت من هذه الصفات التي تدل على انحطاط الحياة العقلية. إن الشعر إذا لم يكن علما وكان يفسده العلم، ولم يكن يعتمد على الواقع وإنما يعتمد على الخيال، ولم يكن يحرص على تسمية الأشياء بأسمائها، وإنما يحرص على فتنة اللفظ وسحره، وعذوبة الجرس وجماله، فكيف لا يدل بعد هذا كله على الجهل الجاهل والسذاجة الساذجة؟ لقد كنت شاعرا وأعرف أن الشعر يعتمد أول ما يعتمد على المبالغة الكاذبة والخيال الجامح الذي يصور الأشياء كما يشاء؛ لا يحفل في تصويره بشيء، فليست المرأة في منطقه إنسانا يأكل ويشرب ويتنفس، وإنما هي جسم من النور مرة، وغصن على كثيب مرة أخرى، وغزال نافر مرة ثالثة وعلى هذا النحو، وليست المرأة الجميلة في رأيه امرأة أتاح الله لها هذا الجمال، وإنما هي الطبيعة المتناثرة تجمعت فكانت هذه المرأة الجميلة، فوجهها كان جزءا من فلق الصبح، وشعرها كان قطعة من قطع الليل، وثناياها كانت لؤلؤا أو أقاحا، وخداها كانا وردتين، ونهداها كانا رمانتين، وردفاها كانا موجتين إلى آخر هذا الكلام الذي يفهمه الشعراء، والذي يفهمه الشعراء على طريقتهم الخاصة، وأنا أعرف أنك ستقول: إن هذا كله هو الفن وإن هذا كله هو الخيال، ولكن ما رأيك في هؤلاء الكتاب الذين يجيدون الفن ويستخدمون الخيال ثم تعصمهم ثقافتهم الواسعة عن أن ينحدروا هذا الأنحدار، وأن يسفوا هذا الإسفاف؟ بل ما رأيك في هؤلاء العلماء الذين يستخدمون الخيال في معاملهم كما يستخدمه الشعراء بل أكثر مما يستخدمه الشعراء، وهم مع ذلك لا ينتهون إلى ما ينتهي هؤلاء الشعراء من هذا اللهو واللغو، وإنما ينتهون إلى استكشاف الحقائق العلمية الصحيحة. ولكن معذرة فأني أنسيت أن خيال الشعراء غير خيال العلماء، فخيال الشعراء يصعد إلى السماء فيستوحي منها الحقائق، ثم يتنزل إلينا بعد ذلك لا تقبل الشك ولا تحتمل المراء. ولكن خيال العلماء يجري في الأرض ليستنبط منها الحقائق استنباطا ولم يتح الله له هذا الجناح الذي يستطيع به أن يطير في السماء، وأن يجوب أجواز الفضاء، ومن هنا كان الشعر مطمئنا إلى كل ما يقول، لأنه إنما يستوحي حقائقه من السماء، وكان العلم شاكا في كل شيء، غير مطمئن إلى شيء، لنه إنما يستنبط حقائقه من الأرض، ومن هنا رأينا العلماء حين يتصورون فرضا من الفروض لا يطمئنون إليه حتى يجرون عليه التجارب المختلفة التي تثبت صحته أو فساده، ورأينا الشعراء حين يتصورون أمرا من الأمور يضعونه في إطاره الشعري، ثم يقدمونه إلينا تحفة فنية رائعة، لا يبالون بعدها إن كان ما قالوا حقا أم باطلا، خطأ أم صوابا، ومن هنا كان العلماء في حاجة إلى القراءة والدراسة والبحث والاستقصاء، ولم يكن الشعراء في حاجة إلى شيء من هذا كله، لأنهم يدرسون في السماء، ويقرءون في الفضاء، ولا تقل: وماذا تريد إذن من الشعراء، أتريد منهم أن ينظموا الشعر في الأرض؟ أتريد أن تقص أجنحة خيالهم المحلق؟ أتريد أن تفسد عليهم شعرهم بما تسميه حقائق العلم ونظريات الفلسفة. لا تقل هذا فإني لا أريد من شعرائنا أن ينظموا شعرهم في الأرض، ولا أن يفسدوه بالعلم والفلسفة؛ ولكن تعال أسألك: من من الكتاب يستطيع أن يتناول موضوعا من الموضوعات الأدبية فيكتب فيه مقالا أدبيا رائعا دون أن يكون قد عرفه وفهمه ودرسه من جميع نواحيه، ولكن تعال أحدثك عن كثير من الشعراء الذين ينظمون القصائد الطوال في مواضيع لا يعرفونها ولا يعلمون من أمرها قليلا أو كثيراً، تعال أحدثك عن شوقي شاعرنا العظيم، إنك قد قرأت من غير شك قصيدته الطويلة العريضة التي قالها في (شكسبير)، فماذا فيها عن شكسبير؟. ليس فيها عنه إلا أنه يشبه شعره بالآيات المنزلة، ويشبه معانيه بعيسى المسيح، ويقول إن قصصه تمثل الحياة، وما عدا ذلك فهو كلام عام لا يشير إلى شكسبير من قريب أو بعيد، فأستحلفك بعقلك الذي يطمئن إلى حقائق العلم لا بنفسك التي تهتز لسماع الشعر، لو أن كاتبا أراد أن يتحدث عن شكسبير أكان يقول مثل هذا الكلام؟ بل أستحلفك بعقلك الذي يطمئن إلى حقائق العلم لا بنفسك التي تهتز لسماع الشعر، أيجرؤ كاتب أن يتحدث عن شكسبير وهو لا يعلم من أمر شكسبير شيئا؟ ولكن معذرة فإني أنسيت أن الشاعر ذو خيال، وأنه يستطيع أن يصعد بخياله في السماء فينتقل به بين الكواكب السيارة والثابتة، ثم يتنزل إلينا بعد ذلك بأشعاره الحلوة العذبة التي لا تخلو من ضخامة ولا تبرأ من فراغ.

ستقول: وماذا تريد؟ أتريد أن تسكت الشعراء عن قول الشعر؟ إنك إذا استطعت أن تسكت الطائر الغرد عن تغريده أو تمنع الزهرة الأرجة عن أن تبعث عرفها، أو تمنع الشمس المضيئة عن أن ترسل ضوءها، استطعت أن تسكت الشعراء عن قول الشعر وأنا معك في أني لا أستطيع أن أسكت الشعراء عن قول الشعر، لأنه ينبعث منهم انبعاثا يوشك أن يشبه انبعاث الضوء عن الشمس والعطر عن الزهرة، ولكني أريد إليهم ألا يجعلوا حياتهم الشعورية والنفسية كل شيء، وأن يجعلوا لحياتهم العقلية نصيبا من عنايتهم، فأنا أعلم أنهم قالوا الشعر لما حباهم الله به من شعور مرهف وحس قوي وعاطفة دقيقة وخيال خصب، فكان الشعر أثرا لهذا كله ومظهرا لهذا كله، ولكن الله قد حباهم مع ذلك عقلا واسعا وتفكيرا ناضجا، فأين أثر هذا العقل وأين مظهر هذا التفكير؟ ستقول: ولم لا يكون الشعر أثرا من آثار العقل ومظهرا من مظاهر التفكير؟ وأنا أقول: إن الشعر لا يمكن أن يكون أثرا من آثار العقل ولا مظهرا من مظاهر التفكير، فالشعر بوزنه وقافيته ولفظه وخياله أضيق من أن يسع تفكير العقل إذا ارتقى وأخذ من العلم والفلسفة بنصيب لا بأس به، وأنت تعرف كيف نشأ النثر الفني عند اليونان والرومان، وكيف نشأ النثر الفني عند العرب، وكيف نشأ النثر الفني عند الأمم الأوربية الحديثة، فقد كانوا يقولون الشعر ويتغنونه في حياتهم الأولى، وكانوا يقولون الشعر ويتغنونه بحكم هذه الملكات الفطرية التي تنشأ مع الأفراد والجماعات والتي نسميها الحس والشعور والعاطفة والخيال، والتي تنمو وتنضج قبل أن ينمو العقل وينضج التفكير، فلما وصلوا إلى درجة من الحضارة والرقي ضاق عنها الشعر بوزنه وقافيته ولغته وخياله احتاجوا إلى أن يتحللوا من هذه القيود وما كان تحللهم من هذه القيود إلا نشأة لهذا الفن النثري الذي تراه راقيا قويا في الأمم التي بلغت من الرقي والحضارة أمداً بعيداً. لن يكون الشعر في يوم من الأيام مظهرا من مظاهر الحياة العقلية؛ ولكنه كان وسيكون مظهرا من مظاهر الحياة الشعورية والنفسية. وإذا كان الشعراء قد برهنوا لنا بشعرهم الرائع على أنهم أصحاب حس قوي وشعور مرهف وخيال خصب، فقد بقي عليهم أن يبرهنوا لنا على أنهم أصحاب عقول ناضجة تستطيع أن تبحث وأن تفكر وأن تصل إلى حقائق الأشياء. وأنا أعلم أنك سترميني بالكر والكيد، وأني أريد أن أصرف الشعراء صرفا عن الشعر حين أدعوهم إلى أن يهتموا بحياتهم العقلية وأن يأخذوا أنفسهم بالثقافة الواسعة العميقة، ذلك أني أزعم أن الشعر أضيق من أن يسع تفكير العقول الراقية التي أخذت من العلم والفلسفة بنصيب كبير، وفي الوقت نفسه أدعوهم إلى هذا الرقي العقلي والتعمق العلمي والفلسفي، فماذا أريد من ذلك إلا أن أهيئهم تهيئة جديدة لا يستطيعون معها قول الشعر. ويجدون أنفسهم مضطرين إلى أن يهجروه إلى هذا الفن النثري أو هذا النثر الفني الذي يجدون فيه مجالا واسعاً لأفكار عقولهم بعد أن ضاق الشعر عنها، ولم يتسع بوزنه وقافيته لها. ستقول هذا كله، وأنا معك في أني أريد أن أصرف الشعراء عن الشعر، لأني لا أحب لهم أن يظلوا في مرتبة الأمم البدائية التي تقول الشعر وتتغناه في حياتها الأولى؛ وإنما أريد أن يتجاوزوا هذه المرتبة إلى مرتبة الأمم التي ارتقت في الحضارة وتقدمت في الحياة العقلية وعرفت هذا النثر الفني الذي يتسع لأفكار عقولهم الراقية المثقفة. إن الشعر أول مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة الحس والشعور والخيال. ولكن النثر آخر مظهر من مظاهر الفن في الكلام. وإنما أحب أن يتجاوزوه إلى المظهر الأخير من مظاهر الفن في الكلام، لأني أحب أن يتطوروا في فنهم كما يتطورون في حياتهم، فأنا أفهم أنهم يصوغون الشعر في حياتهم الأدبية الأولى لأن عقولهم لم تكن قد ارتقت وأخذت بحظها المقدور لها من الثقافة. ولكني لا أفهم أن يظلوا طول حياتهم يصوغون الشعر ليس غير لأن معنى هذا يعيشون خرس العقول فصحاء الخيال، ولأن معنى هذا أنهم ينفقون حياتهم بعيدين عن هذه الحياة العقلية الراقية، بعيدين عن هذه الثقافة الواسعة العميقة التي لا يستطيع أن يستغني عنها كل إنسان أن يعيش عيشة راقية في بيئة راقية. وأنا كما تعلم كنت شاعرا في مبد حياتي الأدبية. ولقد قلت الشعر ما اتسعت أوزانه وقوافيه ولفظه وخياله لما يجول في نفسي من معان وخواطر وعواطف، فلما ارتقت حياتي العقلية وأصبح الشعر أضيق من أن يتسع لأفكاري الناضجة رأيتني مضطرا إلىأن أنصرف عنه إلى هذا الفن النثري أو هذا النثر الفني.

وإن من دواعي الغبطة أن تزدهر الثقافة في هذا العصر، وأن تبلغ الحياة العقلية في مصر أوجها، وإن يكون ازدهار الثقافة وارتقاء الحياة العقلية سببا في إخمال الشعر وإسكات صوته. ولقد قيل إن الشعر في مصر قد خفت صوته بعد شوقي وحافظ؛ وأنا أقول: إن الحياة العقلية في مصر بعد شوقي وحافظ قد ارتقت. فانصرف الناس إلى تسجيل أفكارهم بعد أن كانوا منصرفين إلى تصوير احساساتهم. ألا فليعلم الناس أني ما سمعت أن فلانا شاعر حتى فهمت أنه لم يزل في الطور الأول من أطوار الأدب، وأنه أبعد ما يكون عن هذه الثقافة الواسعة العميقة. وما سمعت أن أمة من الأمم شاعرة حتى فهمت أنها أمة بدائية وأن حياتها العقلية ما زالت هامدة جامدة. فهنيئا لمصر أن يضمحل فيها الشعر ويقل فيها الشعراء، وأن يزدهر فيها العلم وتمتلئ بالكتاب والعلماء.

وتقبل في النهاية تحية خالصة ملؤها المودة الصادقة.

كمال بسيوني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى