محسن يونس - جبل الحكمة.. قصة قصيرة

جربت مرة في عمري دخول تلك الحجرة التي يسمونها “التخشيبة”، ليس مهما هنا بيان الأسباب، فهي ليست مهمة، ولكن لها دخل بموضوع تلك المرآة، كانت المرآة قطعة من مرآة أكبر تكسرت إلى قطع كثيرة، وهذه منها، ألصقها بالحائط واحد من المحتجزين، وكان كل فترة ينظر إلى سطحها، ويمسد شاربه، ويربت على تسريحة شعره المسرح للخلف، وله سوالف طويلة ذكرتني بموضة السبعينات عندما كنت في مقتبل الشباب، كنت أبتسم في كل مرة يفعل ذلك الفعل، كلما رأيت هذا التناقض بين اهتمامه بوسامته وبين ما نحن فيه من حبس، إلى أن ضبطني، وطالت زغرته، تراجعت على نفسي، وأنا أفكر ماذا أفعل لو تجاوز؟

مر على ذهني بسرعة أن أكذب كذبة تصرفه عني، لم يفتح عليّ عقلي بكذبة، وتعسرت، كنت أنظر إليه وتتحرك شفتاي دون أن تخرج منهما أيّ كلمة، كنت في عنت ورهق، ولا أجد وصفا لحالي من الكلمات إلا هاتان الكلمتان، وكان عقلي الذي تعطل عن إمدادي بكذبة يعمل في منطقة أخرى، فهو يقول لي إن الكلمتين قديمتان ومعجميتان، ولكنه أنار وأهداني هذه القصة في ثوان، وها أنا أقصها، فرقت الزغرة وأصاغ المحتجز السمع مع بقية من في التخشيبة :

اشترى رجل من المياسير مرآة اتقاء لشرور قائد جند الأرناؤط – وهؤلاء كانوا أيام حكم محمد على باشا – في الليلة السابقة نَقَبَ قائد الجند هذا مع جماعةٍ من أهله جدار متجر الرجل الميسور في سوق الجمالية ونهبوه، ومن نكد دهره عليه أن هذا الأرناؤطى باعه البضائع المسروقة من محله، ونقده مبالغ أعلى من سعرها وهو صاغر، لم يقف أمام هذه المرآة يوما، فقد كانت تذكره بهوانه وقلة حيلته، كما أن قصره يمتلئ بالمرايا، وضعها الخدم هناك في نهاية ممر ينتهي بجدار لا نوافذ له، ولده الوحيد وعزه ومنتهى أمله هو من كان دائم الزيارة، أعطته المرآة في البداية ألعابا أبهرته، كانت صناعتها مغشوشة الصقل، على الصبي فقط التحرك أمامها، فتظهر له أذنيه على سطحها في الطول مثل أذن الأرنب، وأنفه زلومة فيل، وإذا مط شفتيه رأى شفري جمل، وإذا مد ساقه ورفس بها ظهرت ساق حمار، الخلاصة وجه مشوه بالكامل أضحك الصبي في البداية، بعدها تأكدت الرغبة في الحصول على وجه يماثل وجه المرآة، طوال عمره الذي عاشه لم يرض عن ذلك الوجه الرباني الممنوح له بقدرته، ولم يحمد للطبيعة أن منحته وجها متكامل الملامح، لم يرتح إليه لأن المرآة قالت إن العيب دافع مستمر يدفعك للحصول على الكمال، هل يمكن لأحد أن يوجه له اللوم في بذر بذوره مستقبلا، والانتماء إلى طبقة المياسير التي تقدم الوزير، والعالم والكاتب، وتقدم المجنون المحتجز في المورستان، وتقدم اللص وخرب الذمة أيضا لبحر الحياة؟!

حينما انتهيت سكت، وران على من في التخشيبة صمتُ عن الكلام، وفاجأني صوت هذا المحتجز في التخشيبة وهو يقول “جاحد أعمى البصيرة من يتصور أن الجماد جماد، لا يمكن له أن يفتل في جموده حبائل خدعته“.

خرجت من التخشيبة بعد هذا بنصف ساعة، لزوال الغرض من وجودي بها، وأنا أحمل مرآة حكمة كانت غائبة عن عقلي العجيب، الذي يضيئ في أوقات، ويظلم في حالات أستجير به فيها، فلا يجيرني !!

لذلك وبسببه سكنتني الحيرة من فعل الناس على خط الزمن أو إذا أحب أحد يمكن أن نسميه الزمان، ويمكن أن ندعوه بهذا الاسم البعيد كل البعد عن روعة الحكايات وجمال القصص، وهو التاريخ، أشعر أنها كلمة تمسخ كُلَّ أفْكَارِ النَّصِّ الحكاية أو القصة، أي لو قصدنا بابه برجاء أن يدلي بدلوه فسوف يشرح الحكاية أو القصة شَرْحاً مُشَوَّهاً، وبالمناسبة هناك رجل كنت أعرفه – ربما كان أحمق، وأنتم تعرفون أن ربما تفتح باب الظن، الذي يقع بك في منطقة القلق والضيق، لأنك لا تمسك بشيء ولا ينوبك إلا حرق الدم .. ربما – علم الرجل أن جبل الحكمة خارج أسوار المحروسة من جهة جبل المقطم، وأنه إذا أراد بلوغه عليه أن يركب ظله، هناك أناس لديهم القدرة على ركوب ظلالهم، وهناك من تهرب منهم ظلالهم، وهناك من تركبهم ظلالهم، وهناك من لا ظل لهم، وهذا الرجل من هؤلاء، استطاع أن يسرق ظل أحد جيرانه النائم فوق مسطبة بجوار جدار بيته ساعة العصر، بمساعدة الزوجة التي كانت تراوده عن نفسه، استغلت اقترابه، واحتكت به مانحة له عينةً لما سوف يفوز به في قادم كيدها، بوسة مشبعة مع حضن، وتمليس سريع على كامل ردفيها، واستدارة نهديها، وشرد.. شرد؟! شرد أقول لكم راكبا الظل المسروق، عند القرافات تمهل الظل، ثم داور وناور للدخول إلى ساحة وتكعيبة إحدى المقابر، كانت لأحد أمراء المملوكية زمان أو الحاضر – لست على يقين من الزمن، وهذا غير مهم حاليا، فيما بعد نبحث فى هذه المسألة – يقف على باب تلك التكعيبة اثنان من العسكر كل واحد منهما له شارب يغطى تفاصيل وجهه ..

إلا أن الرجل نخس الظل نخسا شديدا، وألجم لجامه وطار به نحو الجبل، لم تسألوننى لماذا يذهب إلى جبل الحكمة؟ لن أجيب، فالقصة ينبغي لها ألا تتوقف وقائعها، بعكس التاريخ – ألم أقل لكم ؟ – وحتى نلحق بالرجل والحظ يسرع به، رأى أمما غفيرة من رجال ونساء، علية قوم وسفلة، حكاما ومحكومين ممن سبق لهم ركوب ظلالهم صعودا إلى الجبل، استقبلوه وهم سادرون فيما هم فيه، وكل منهم تحدوه الرغبة في اغتنام أكبر قدر من الحكمة تفوق حكمة الشيوخ، والحكام والموظفين، ورجال الأعمال، والصحفيين وحتى رجال الدين، والمجانين الذين هم في نعيم، كان الجبل يعطي حكمته التي لا يملك إلا إياها، إن استكمال كل منهم لرحلته هي عدم العودة لدنيا سبق أن جرب فيها قدرا من حكمة، أو طيش، كان هذا الجبل يتكون من مرايا متراكمة، وعلى كل واحد أن يأخذ مرآته، كانوا جميعا يرفضون النظر كل في مرآته، ويرفض مع ذلك العودة من حيث جاء ..

هل لمحت رجلا حائرا مشغول البال، ثقب الرصاص جسده، ويمشى فوق الجبل مترنحا يأتي من ذلك المدعو التاريخ؟!

يبدو أنني بالفعل رأيت هذا الرجل ..

ألا يعي التاريخ أنه أعمى لا يحب السير إلا في طريق في اتجاهين مزدحمين بسيارات مسرعة يركبها أناس متعجلون؟

سأغيظ التاريخ بعدم الثرثرة، ولن أكون ببغاء يردد ما قاله عن الرجل في سطرين أو حتى في عشرين سطرا ..

كان الرجل هو شاهين بك كبير المماليك الألفية، وجدته رغم مشيته المترنحة راضيا عن نفسه، مقتنعا بأن محمد علي باشا لن يسرق مكانته، حين تلقى دعوة الباشا لزيارته في القلعة بشيء من التردد في البداية، ولكنه حسم موقفه بقبولها، وقف إلى تلك المرآة – المهداة له من أحد الأمراء البلجيكيين – وكان يفضلها على كل المرايا الموجودة بقصره بالأزبكية لصفاء سطحها، وضبط صورتها التي تعكسها فلا تشوه أنفا أو شفاه أو وجها، كما تعطيها تعطيك بلا زيادة أو نقصان لا في الملامح، ولا في القياس طولا أو عرضا، تذكر دعوة محمد علي باشا فانفتح خط الشفتين عن نصف ابتسامة، أحكم ربط حزام السيف إلى خصره، ورفع وجهه إلى المرآة ليقابل نفسه فيها، رمشت عيناه في أول الأمر، كأن غبارا دخلهما، ثم مرّتهما، كانت صفحة المرآة فارغة من شاهين بك الآخر الذي طالعه كثيرا من قبل، وهو يقابلها فوق هذا البساط الفارسي، وفى مسافة تبعد عنها ابتعاد رأسا مركوبه القريبان من الحائط بمقدار شبر واحد، مد يده لتمسك إطارها مبتعدا عن واجهتها إلى يمينها، سمع صوت سنابك حصان يأتيه منها، همس ” ماذا ألم بي؟! اليوم لا بد أن أكون في كامل لياقتي وصفاء الذهن”.

البصر لا علة فيه، يستطيع شاهين بك التهديف بالقوس والسهم على بعد خمسين قدما، وهو يركب الحصان ليصيب تفاحة على رأس خادم من خدامه، لاحقه صوت توقيع سنابك الحصان على أرضية من الصخر “طق طق طق طق طق”، رفع رأسه إليها، وجد حصانه الأثير على صفحتها، ولم يجد شاهين بك يركبه، الطريق يعرفه من الأزبكية إلى القلعة، من شارع يسلمه إلى عطفة تؤدى لزقاق ثم ينفتح المجال أمامه حتى وصل إلى القلعة، وجدها ماثلة في مكانها، بموقعها المنيع، وأسوارها العالية، وأبراجها الشاهقة وأبوابها الضخمة، كان الحصان الآن يقف على حدود وسع ميدان الرميلة، على غير توقع هطلت ثلوج بيضاء غطت القلعة بأسوارها، وبعض الحدادي تحوم وتأتى نحوه صائتة حتى أنه ابتعد برأسه ليتفاداها “ما الحكاية شاهين بك؟! هل هذا سحر؟”.

جاء إليه الحصان عقب تساؤلاته من عمق المرآة كأنه سوف يخرج منها “ليس سحرا أيها المملوكي، احرص على أن تبقى على قيد الحياة”.

دخل غلام من غلمانه يحمل عباءة ثمينة مطرزة بخيوط الذهب على يديه، تنحنح وهو يضعها على طاولة مسدسة الأضلاع من الخشب المحفور، التفت شاهين بك ونادى بصوته الواثق “تعال غلام”.

طأطأ الغلام رأسه متقدما “قف أمام المرآة.. ماذا ترى؟”.

كتم الغلام ضحكة حينما واجهته خلقته في المرآة، حاذاه شاهين بك واقفا معه كتفا بكتف، قال له “أتراني معك في هذه المرآة؟”.

همس الغلام “أريد منك أمانا سيدي قبل أن أتكلم”.

ارتفع صوت شاهين بك “هل تراني؟ هل يستحق ما تراه عهدا بالأمان؟”.

أمسك شاهين بك بمقبض السيف، وهو يعاني هزيمة لم يجربها من قبل أمام جرأة الغلام وهو كأنه منوم يسبل عينيه، ويقتحمه الكلام الخارج من فم الغلام كأنه يواجه وحده جيشا من ثلاثين ألفا “أرى راكبا ومركوبا، ناهبا ومنهوبا، مغتصبا ومغتصبين، حقراء يتحكمون في رعايا!”.

” اسكت وإلا قطعت لسانك”.

” سيدي.. المرآة توحي إليّ، وصفحتها فضة تتلألأ وليس فيها خيالات مجسدة، هي فراغ، وهذا أمر عجيب!”.

أبعد شاهين بك غلامه بغلظة، وأمره أن يخرج حالا “يكفى خزعبلات”.

شاهين بك كاذب رأى مصيره مجسدا في تلك المذبحة التي سوف تدور وقائعها الدموية بمقدار قطعه للمسافة بين قصره وبين صعوده للقلعة، خرج من المذبحة لا خدش فيه، وترك للباشا الكبير ظنا يجعله آمنا حتى يصاب عقله بالخرف، واحتفظ هو بدوام البقاء، ونظرة فارغة تملأ مساحة سطح المرآة، منتظرا يوما يخرج فيه منها هادئا كامنا مع تبدل الأمكنة، مستمتعا بعاديات الزمان في مآسيه وفكاهاته، فهو يعرف أنه حاضر دائما وأن سطح المرآة قابل للكسر..


محسن يونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى