سليمان فياض - الكلـب عنتـر.. قصة قصيرة

الكلب عنتر رابض على شيزلونج، في الركن تمامًا، جهة الباب، على يمين الداخل. شعره قطيفة سوداء، جرمه كمهر، منحنيات جسده أجزاء دوائر رائعة الجمال. ساقاه الخلفيتان تحته، والأماميتان ممدودتان أمامه، ورأسه منحنية بينهما. عيناه منطبقتان ومنفتحتان في آن، يبدو غافيًا ويقظًا، نائمًا وغير نائم. شفتاه مواربتان، تكشفان خلفهما أنيابًا مفلجة.
كساء الشيزلونج قطيفة أحمر اللون، داكن القدم، يتعاكس اتجاه وبره، بلون يميل إلى القتامة، وبلون يميل إلى الحمرة الفاتحة. ومأمور السجن ينظر إلى عنتر برضا وسعادة. عنتر كلب أمثل. عبد أطوع من أي بشر، يشع ضوءًا أسود.
انفتح الباب ودفع. انفرجت عينا الكلب عنتر وشفتاه. في ذات اللحظة. ظهر الضابط أيمن، الرائد الأول والأقدم. تضاغطت شفتا المأمور، وانفرجتا في همسة، في نبرة تضاغط لا تكاد تسمع.
في ذات اللحظة، زام عنتر، فالتفت الضابط أيمن يمنة. بعرف أن عنتر في مكانه رابض، وأن زومه. ونبرة شفتي المأمور سوف يحدثان في ذات اللحظة. يأمنه ويخافه، ذلك الخوف الكامن في القلب. يخشى حدوث هذه اللحظة . تقدم أيمن. توقف. طرق الكعب بالكعب. حيا بجمع كف مفرودة مرتجفة. أكد بالصوت وحده:
ـ تمام يا أفندم.
دار المأمور بكرسيه. تأرجح في ربع دورة، مرة، مرتين، في المرة الثالثة قال:
ـ أعرف. لم يعترف. اجلس.
على طرف المقعد المواجه جلس أيمن. لم يأمن أن يعطي ظهره لعنتر. نظر المأمور إلى عنتر، ليسمع أيضًا، أكد:
ـ لم يعترف. كنت أعرف أنه..
بنبرة إشفاق، واعتذار، قال أيمن:
ـ جربنا معه كل وسيلة.. برميل الماء. الكي. الجلد. الـ..
قاطعه المأمور، ناظرًا إلى عنتر:
ـ لم يبق لعباس إذن، سوي.. عنتر.
في التو، في اللحظة، شب عنتر بساقيه الأماميتين، شارعًا رأسه. زام زومة أعلى قليلا. ارتجف أيمن. هب واقفًا، تذبذب صوته برعدة.
ـ لكن يا أفندم.
توقفت دورة الكرسي بالمأمور. وقف. قال:
ـ لا تخف.. لن يقتله عنتر. شبع عنتر اليوم، لحمًا، ودمًا، وعظمًا، وحلوى. سيخيفه فقط. سيرى كيف يعترف. اعترف أعتي منه وأصلب.. عندما.. داعبهم عنتر.
تضاحك، وغادر مكتبه. إذ كان يفعل. قفز عنتر. اهتزت لثقله أرض خشبية، مفلجة، رطبة، بالغة القدم. وسمع أيمن نبض قلبه، في عرق الرقبة، أسفل الفك، قرب الأذن اليسرى، يرف كعصب بحاجب العين.
على طول ردهة، إثر ردهة، في طابق، إثر طابق، كانت تزعق صيحة:
"سعادة سعيد بك المأمور".
وتشق الصيحة طريقها في صدى يتردد: سعادة سعيد بك المأمور. سعادة سعيد بك المأمور.
على أبواب العنابر، الزنازين، كانت الكلمة تتوالى، تتردد نفس الكلمة، باستهوال مفزع: السيد عنتر. عنتر. عنتر. والمأمور بسير، يسبقه عنتر، والعصا تطرق جانب سروال منفوش، كأنه أجوف، وأيمن يتبعه، متأخرًا عنه خطوة. والوجوه، في فتحات الأبواب، العنابر، الزنازين، ترى. في العيون خوف متسائل: على من دورك اليوم يا عنتر؟
* * *
عند الباب، باب حديدي صدئ، مصمت، أصم، بأعلاه كوة مربعة، توقف عنتر. كأنه يعرف أنه سيقف عند هذا الباب. ثنى عنتر جزءا منه مرتكزًا على ساقيه الخلفيتين، ساقاه الأماميتان مشدودتان تحت عنقه كعمودين من رخام أسود. تركزت عينا عنتر على الباب، تشعان براءة وشماتة، وحمرة، وضحكًا خفيًا. أطل وجه مفزع عبر قضبان ثلاثة بالكوة، من وراء الباب. نظر المأمور لأيمن ليفتح الباب. تردد أيمن والمفتاح بيده. تحركت تفاحة آدم برقبته. مد المأمور يده، ناظرًا بلوم، بسخرية لأيمن، في رثاء لضعفه. نتش المأمور المفتاح، ودفعه بالباب. زام عنتر، عن أنياب مفلجة، شالحًا شفتيه أعلى وأسفل. تراجع الوجه المفزع واختفى. وانفتح الباب. ونهض عنتر. دخل بهدوء كمن يتمخطر، تتأود كل منحنياته لوطئه، ويلتمع شعره الأسود. جاوز عنتر مدخل الباب، وجذب المأمور الباب خلفه، وأدار المفتاح بالثقب دورة، فدورة، وسحبه، ووضعه في جيبه. وقدم مخبر كرسيًا جلديًّا وثيرًا. فجلس المأمور. وضع ساقًا على ساق، بوضع أفقي، وراح يوقع بعصاه في ترقب على حذاء قدمه فوق الرقبة. ينظر إلى الباب، وأيمن واقف، والمخبرون والسجانون على مبعدة، على الجانبين بالردهة. يتخيل، كأنه يرى. ما يحدث.
* * *
جاوز عنتر مدخل الباب. وانصفق الباب، وتراجع عباس حتى التصق ظهره بالجدار، تقلص، توتر، انشد. تصلب كل عصب، عضل، عرق، في عباس. وتركزت عيناه على عنتر: قاتله الجميل، الأسود، مهر فائق الروعة. له وجود الموت وحضوره، وعنتر رابض على ساقيه الخلفيتين، ينظر بهدوء إلى عباس، يزوم كمن يضحك بين لحظة وأخرى. تفصد عرق عباس وغمر جسده. تقلصت شفتا عباس، واصفرتا، وجف ريقه في حلقه. نهض عنتر. تقدم خطوة، بهدوء بالغ، تحفز عباس. لكن عنتر عاد يربض، ينظر بهدوء إلى عباس. يزوم كمن يضحك بين لحظة وأخرى. دبت قشعريرة حمى في جسد عباس. همس في سره لن أستسلم. نهض عنتر. تقدم خطوة، بهدوء تحفز عباس. لكن عنتر عاد يربض. وينظر ويزوم. ثم يصمت.
قال المأمور لأيمن في الردهة:
ـ لم تنته المداعبة بعد. عنتر يجيد اللعبة.
على جانبي الردهة. في الردهة. الصمت سائد. العيون مشدودة. الآذان تنتظر صوتين: إنسان يصرخ، وحيوان يزأر.
* * *
طالت اللحظة على عباس. واللعبة تتكرر، بين ثانية وأخرى. جاوز عنتر منتصف الغرفة، صار ما بينهما وثبة. انفجر عباس. زأر في تحد. فوجئ عنتر بالزأرة، نظر بدهشة، تردد للحظة، جزءًا خاطفًا من الثانية، لعباس جسم هائل: بشرة شقراء، عيناه بلون مياه البحر، تحوط زرقتها شعيرات محمرة. لا يقل كمال جسده فتنة عن جمال عنتر. وثب عنتر. حاد عباس عن وضعه يسرة. ارتطم عنتر بالجدار. أصاب الصخر المصمت رأسه. سقط، نهض، وثب، داوره عباس. داوره عنتر. وثب، ضربه عباس بساعده تحت أذنه، سقط عنتر واقفًا. قبل أن يفيق عنتر من الضربة، وثب عباس فوق ظهر عنتر. ركبه. شد فخذيه حول جسد عنتر. امتدت يسراه في ذات اللحظة، وضمت عنق عنتر بين الذراع والساعد، جذبته إلى أعلى. سقط عنتر بعباس. أخذا يتقلبان لا تكاد العين ترى من هو أعلى ومن هو أسفل. يواصل عباس ضرب عنتر في وجهه، في عينيه تحت أذنيه، في فمه، في شفتيه بقبضة يمناه. يواصل عنتر، خمش عباس بأظاعره، تشرحه الأظافر في ساقيه، وفخذيه، وساعده الأيمن، غرس أنيابه في قبضة عباس. صارت الأرض لزجة بدم إنسان وحيوان. لأصوات الصراع الوحشي أصداء تصطدم بالجدران. ترتد مدوية من حديد الباب، تنفذ عالية من حديد الباب.
* * *
المأمور واقف يصيح:
ـ المجنون. سيقتله عنتر.
أيمن واقف مصفر الوجه يصرخ:
ـ المفتاح من فضلك. سيسألوننا عن موته.
يلتفت له المأمور. يصرخ فيه بفرحة:
ـ اخرس. لم يخلق من يتحدي عنتر.
المخبرون، السجانون، يرتجفون خوفًا، انتظارًا لصمت مطبق. لرؤية بركة دم، صرع فيها عباس، واختلط لحمه بعظمه. أو أجراس سيارة إسعاف، قد تلحق وقد لا تلحق. فجأة. خمد الصوت. كل صوت. زئيران خرسا.
* * *
يستلقي عنتر منقصف الرقبة، في بركة دم، حوله بقع دم، أسود، أحمر، على الأرض، على الجدران، نثار دم، عند السقف، وعلى السقف، على لمبة مصباح مطفأ، ملتصق بالسقف. وعباس جالس، تضرج ذراعاه، ساقاه، فخذاه، دمًا. ينظر بفرح وحزن إلى عنتر. الشعر الأسود القطيفي، صار خصلا مخضبة. الجسد الجميل الكامل تهدل. صار عنتر شيئًا، عينا عنتر تنظران إليه. عتاب بلا لوم، بلا فزع. مد عباس يده اليسرى، وأطبق جفني عنتر.
نهض عباس واقفا. نظر إلى الباب. اتجه إليه، ودق الباب بكفيه، كمن يطلب النجدة.
* * *
ذعر المأمور، فعنتر قد صمت. لم يصح صيحة ظفر، ويدان، لا قبل لعنتر بهما، تدقان الباب. شحب وجه المأمور. سقط المفتاح من يده. وانحط جالسًا. انحنى أيمن، أخذ المفتاح، دفعه في الباب، أداره مرتين. كان عباس واقفًا يحمل عنتر على ساعديه كفقيد عزيز، تقدم به، عابرًا الباب.
* * *
على الجانبين يسود الصمت. يكسو الفرح والرهبة والدهشة، والزهو، وجوه المخبرين، والسجانين.
بجلال، وضع عباس عنتر، على ساقي المأمور. بفرح غامر، نظر أيمن إلى عباس. همس له:
ـ عد أنت إلى زنزانتك. سيأتي الإسعاف.
انفجرت الردهة بالصياح، بالضحك، بالدهشة. ارتفع صوت، انفجر صارخًا: قتل عنتر. قتل عنتر. ترددت الصيحة في الردهات، في كوي العنابر، الزنازين: قتل عنتر. قتل عنتر.
* * *
انفتح باب غرفة المأمور. دخل ببطء. توقف، دخل اثنان يحملان عنتر. تقدما نحو الشيزلونج القطيفي. قال المأمور لهما:
ـ برفق. برفق.
وضع الاثنان عنتر، برفق، على الشيزلونج. غادرا الغرفة. أغلقا الباب. بقي المأمور وحيدًا مع عنتر. تقدم منه، نظر إليه. تحدرت دموعه في صمت، على خديه، وسترته.


(1987 مجموعة وفاة عامل مطبعة)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى