أمل الكردفاني - ترهات هي الحياة.. نص غير مجنس

✍ جلست أمام المرآة كعادتي كل ثلاثة اسابيع ؛ تزيد أو تنقص ، مرآة كبيرة ، وكرسي الحلاقة صغير وبه قاعدة للقدمين. الحلاق هذا لم يحلق لي من قبل لكن يبدو ان حلاقتي صارت مشهورة لجميع العاملين بالمحل ؛ فأنا احلق صلعة على الزيرو ، بالموس ... ولو وجدت طريقة لنزع فروة رأسي لما ترددت ، بحثت طويلا عن كريم لتخليص رأسي من الشعر نهائيا وبصورة حاسمة توفر لي ستين جنيها كل ثلاثة اسابيع. لكن بحثي فشل ، هناك عشرات من الطرق لاطالة الشعر او تنعيمه او زراعته ، لكنهم لم يخترعوا حتى الان شيئا لإبادته...ربما لأن الصناعات والاختراعات تعتمد على الطلب ، فكل شيء خاضع لقانون العرض والطلب في ظل الرأسمالية التوتاليتارية التي تقضي على الأخضر واليابس ثم تتقيأهما بشكل جديد وبطعم مختلف لتسرق جيوبنا.
جلست أمام المرأة وغالبا ما اكره التحديق الى وجهي ، وجه غير متناسق ، وغير مفهوم ، حتى الآن لم اعرف ان كان وجها طفوليا ام كهوليا ؛ جميلا أم قبيحا ، لكنه في كل الأحوال ممل جدا ، وجه ممل مثل تمثال في معبد مهجور ، وبحسب المزاج وبحسب الحالة النفسية يتغير ، ينتفخ تارة ، ينحل تارة أخرى ، ينعم ويخشوشن ، مثل السحابة التي لا تفتأ تغير من تقاليعها فوق السماء.
جلست ووقف الحلاق خلفي ؛ حلاق في اواخر الثلاثين من عمره ، اسمر ونحيل ، ذو وجه طويل كخطيب اليسا ، لا اعرف ان كان اثيوبيا ام ارتريا ، لكنه أحدهما بكل تأكيد... بدأ في عمله ببطء ، كان يحلق ببطء شديد ، خلافا للكثير من الحلاقين الذين يميلون الى الانجاز السريع ، لكن لا زبائن غيري وربما كان هذا هو السبب ، بدأ بماكينة الحلاقة وجز الصوف الخروفي الكئيب الذي توزعت فيه سبيبات بيض تثير كآبتي دائما والسبب معروف ؛ فهي تسألني دائما بسخرية: كم لبثنا... اجيبها... فلتذهبي الى الجحيم. الأنف ينكمش في الشتاء ويكبر في الصيف ... انف افريقي دون منازع ، كشعري تماما ، انف يمنحني هوية انكرها كما ينكرها الكثيرون ، لننساق وراء هوية اللغة. هوية الجينات أم هوية الثقافة؟ كل يتخذ إلهه هواه. صبوا نحو هذا او ميلا نحو ذاك. من عانى من اضطهاد الزنج ينكر افريقيته ومن عاني من اضطهاد العروبيين ينكر عروبته ، ومن عانى من الاثنين يلعنهما سويا. ليقف في الأعراف ، ولكن بسخط.
نعم كل شيء ينطلق من الهوى وليس من الحقيقة ، كل مواقفنا تنطلق من الهوى وليس من تقييم منطقي ، من يؤمنون بالتطورية ومن يؤمنون بالخلق ، ومن يعتنقون البنيوية ومن يرفضون التفكيكية ، من يقفون مع الديموقراطية ومن يلعنونها ،..الخ.. فكل شيء لو غصنا في أحشائه لاكتشفنا وهنه الشديد...ولو بالغنا في الغوص تحت الأعماق فسنكتشف أنه لا شيء. حتى تلك القضايا الكبرى التي ساقت البشرية عبر تاريخها نحو ما هي عليه اليوم.
الحلاق يحلق ببطء شديد... لاحظت انه يتعامل مع الرأس بأصابع رشيقة... لم يطلب مني أبدا ان ارفع رأسي او أحنيه ، كان ينظر عبر المرآة طويلا الى الشارب الخفيف ، أو يظل يفرك عيني بالمنشفة طويلا ، أو يعيد حلق ما قام بحلقه أساسا ، كان وكأنه لا يريد ان ينتهي ، مرت قرابة ساعة وهو غير مقتنع ، انا اقتنعت لكن يبدو أنه لم يقتنع ، يعود ويحك صلعتي بالموس ، ينظر طويلا الى قفاي ؛ فيحرثه بالموس ثم يرجع الى فودي ثم يصعد الى النافوخ ، ثم يعيد تشذيب اللحية ونزع سبيبات لا ترى بالعين المجردة.... استمر هذا الأمر بشكل ممل جدا ؛ عاد الى النافوخ وبدأ الحفر... ادركت حينها حقيقة كانت غائبة عني ، فهذا الحلاق مصاب بالوسواس القهري ... نعم ... هذا مؤكد بلا أدنى شك... ولو انتظرته حتى يشبع وسواسه هذا فسأنتظر طويلا جدا... ولذلك قلت له بحسم: شكرا... هذا يكفي يا صديق.... وبدا وكأنه تخلص من عبء ثقيل ، فاتجه الى زجاجة الكولونيا ليطهر بها اي جرح ربما تكون الموس قد احدثته ؛ لكنني شكراه وطلبت منه نزع المريلة السخيفة الخانقة....
خرجت وتنفست الصعداء.... تحسن شكل الوجه قليلا... لا اعرف كيف لكنني هكذا شعرت ، أدرك انه شعور خادع ، وهذا شائع لدى الناس ؛ فالفتيات مثلا قد يضعن مساحيق كثيرة كالمهرج ؛ ومع ذلك يشعرن بأن وضعهن قد تحسن قليلا ، هناك من يرتدي بذة صفراء وربطة عنق حمراء في الصيف الحارق ويركب الرقشة وهو يشعر بأن شكله محترم جدا..... ومن ثقافة مجتمعنا أنه في المسائل الخطيرة يرتدي الرجال عمائمهم ، في قضية قتل مثلا ، جاء أهل المجني عليه كلهم للمحكمة وهم يرتدون العمائم البيضاء ، فالعمامة تعني أن الأمر جاد وخطر ، تعني أن للقتيل عزوة وقبيلة من رجال كبار ، وعندما يتزوج الشاب يتحول الى لبس الجلباب والعمامة ؛ تعبيرا عن الانتقال من حالة الصعلكة والضياع الى حالة الرجولة والاستقرار وتحمل المسؤولية (رغم ان الزواج غالبا لا يدوم طويلا عند الأجيال الجديدة خاصة)...لكن كل شيء كما قلت يضحى وهميا ومحلا للتهكم والسخرية ان حاولنا تخليصه من وهميته ورده الى حقيقته.
غادرت المحل والحلاق ينظر الى نفسه في المرآة ... لو بدأ حلق شاربه فلن يتوقف أبدا.... اتحدث عن تجربة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى