رسائل الأدباء رسالة من الأستاذ كمال بسيوني إلى أستاذ من أساتذة الأدب في جامعة فؤاد الأول - 2-

: 16 - 04 - 1951

الكتاب الثاني

صديقي العزيز. . .

رأيتني أزدرى الشعر وأصف الشعراء بالجهل والسذاجة. فأحفظك هذا الوصف، وغاظك هذا الازدراء. فهببت تذود عن الشعر والشعراء. ولكنك لم تسلك في هذا الدفاع طريقا سواء، وإنما التوت بك السبل فخلطت وأفسدت الأمر على نفسك وعلى الشعر والشعراء، ذلك أنك قد زعمت أن الشعر متنوع مختلف. منه ما يعتمد على الواقع، ومنه ما يعتمد على الخيال، ومنه ما يعتمد على الواقع والخيال جميعها، وأنك أنت لا تؤثر هذا الشعر الذي يسترسل فيه صاحبه مع الخيال، ويسرف في ذلك فيتورط في المبالغات وألوان الغلو، وإنما تؤثر هذا الشعر الذي لاحظ فيه للخيال ولا الاختراع، وإنما هو وصف صادق مطابق للحق الواقع، وأن مذهبك في ذلك مذهب العرب الأوائل الذين قال قائلهم:

وإن احسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا

وإذن فأنا مسرف مبالغ حين أزعم أن الشعر جهل وسذاجة لأنه يعتمد على الخيال ولا يعنى بالحقائق، وأين يقع شعر أبي العلاء من الخيال؟ بل أين تقع حكم المتنبي وحكم أبي تمام من الخيال؟ وعلى هذا النحو مضيت في دفاعك عن الشعر والشعراء، فأفسدت الأمر - كما قلنا - على نفسك وعلى الشعر والشعراء. ذلك أن ما تسميه شعرا يعتمد على الحق الواقع ليس من الشعر في شيء، وإنما هو من النظم في كل شيء. . وإذن فمن الخير لي ولك أن نتفق على تعريف الشعر حتى لا أسمي نظما ما تسميه شعرا، ولا تسمي شعرا ما اسميه نظما.

وأنا حين أعرض لتعريف الشعر لا أحب أن أتحذق وأتكلف، وأضع لك جملا غريبة كأنني أحدد أصلا من أصول الفلسفة العليا، أو كأني استنزل وحيا من السماء، ولست في الوقت نفسه أريد أن أخترع أو أن أبتكر، وإنما أريد أن آخذ الأشياء كما هي، وأتمثلها كما يتمثلها المستنيرون من الناس. وأظنك معي في أن الشعر والنظم كلاهما كلام موزون مقفي، ولكن الشعر يمتاز عن النظم أنه يصدر عن الشاعر كما يصدر التغريد عن الطائر الغرد، وكما ينبعث العرف من الزهرة الأرجة، وكما ينبثق الضوء من الشمس المضيئة، فتأثير الإرادة وتأثير الروية فيه ضئيل جدا، ولعله أن يكون معدوما. أما النظم فتأثير الإرادة وتأثير الروية فيه واضح جدا، أوضح من أن نعرفه أو ندل عليه ولعله أن يكون إرادة كله، وروية كله، ومن هنا كانت العاطفة وحرارتها هي كل شيء في الشعر، ولعلي أن أقول إن الشعر عاطفة كله، ومن هنا أيضا كان العقل ونتاجه خطرا جدا على الشعر يفسده أو يكاد يفسده إفسادا لا حد له. وإذا كان الشعر عاطفة فيجب ألا تنظم هذه العاطفة نظما في الكلام، وإنما يجب أن تصور تصويرا فنيا جميلا. وكيف أعد شعرا قول القائل: أنا محزون جدا، أو أنا مسرور جدا، دون أن يصور لي حزنه أو يصور لي سروره؟ بل كيف أعد شاعرا من قال لي في كلام موزون مقفى: إنه محزون أو إنه مسرور؟ يجب إذن أن تكون العاطفة مصورة - ولكن تصوير العاطفة ليس شيئا إذا لم يكن تصويرا فنيا جميلا. وكيف أستطيع أن أطلق على إنسان اسم الشاعر والريشة تضطرب في يده والألوان تختلط في لوحته؛ والفن والجمال يحتضران بين يديه؟ يجب إذن أن تكون العاطفة مصورة تصويرا فنيا جميلا - ولكن التصوير الفني لا يعتمد على العقل والملكات المفكرة، وإنما يعتمد على الخيال والملكات الخالقة المبتكرة. وهل الاستعارة والمجاز والتشبيه إلا مظاهر من مظاهر الخيال؟ وهل هي في الوقت نفسه إلا ألوان من ألوان التصوير الكلامي الفني الجميل؟ فكيف تقول لي إذن: إن الشعر بعضه يعتمد على الواقع، وبعضه يعتمد على الخيال، وبعضه يعتمد على الواقع والخيال جميعا؟ وهل من فرق بين أن تقول لي هذا وبين أن تقول لي: إن الشعر بعضه يعتمد على التصوير وبعضه لا يعتمد عليه؟ وإذا لم يكن الشعر تصويرا فلعمري ماذا يكون؟ أيكون تحليلا كتحليل العلم أم يكون شرحا كشرح الفلسفة؟ إن أبا العلاء - يا صديقي - لم يكن شاعرا في كل ما نظم، ولكنه كان شاعرا حينا وكان ناظما حينا آخر، وكان يجيد مرة ويتورط في الرديء مرة أخرى. وإن أبا الطيب وأبا تمام لم يكونا يحشران الحكم حشرا بين أبيات القصائد، وإنما كانت حكمهما في كثير من الأحيان تكملة للصورة الفنية التي يرسمانها، وأنت إذا فتشت في هذه الحكم رأيتها مبالغات وخيالات دفعت إليها العاطفة المنفعلة دفعا، فلابد في الشعر إذن من عاطفة، ولا بد لهذه العاطفة من تصوير كلامي منظوم، ولا بد لهذا التصوير من جمال فني، ولا بد لهذا الجمال من خيال. فنحن الآن نستطيع أن نفهم أن الكلام المنثور وإن احتوى على عاطفة وتصوير وجمال فني وخيال ليس شعرا لأنه فقد النظم، وأن نفهم أن الكلام العاطفي المنظوم الذي لا تصوير فيه للعاطفة ليس شعرا لأنه لا تصوير، ومن ثم لا جمال ولا خيال، وأن نفهم أن الأفكار التي توضع في كلام موزون مقفى ليست شعرا لأن الأفكار لا تحتمل التصوير الشعري الجميل وإنما هي محتاجة إلى الدقة وإلى التشدد في الدقة وإلى أن تسمى الأشياء بأسمائها

وأنا أكتب إليك هذا وبين يدي كتاب في الأدب المقارن لزميل من زملائك أساتذة البلاغة والنقد الأدبي، وهو يعرف الأدب - ومنه الشعر طبعا - بأنه فكرة مصورة مزجاة بعاطفة. وإذا صح أن نعرف النثر بأنه فكرة فإنه يستحيل علينا أن نعرف الشعر بأنه فكرة. على أن النثر ليس فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، فقد يكون النثر فكرة محضة وقد يكون عاطفة محضة، وقد يكون فكرة مزجاة بعاطفة، وقد يكون عاطفة مزجاة بفكرة، وعلى أن هذه الفكرة ليست مصورة دائما، وإنما قد تكون مصورة مرة، وقد تكون محللة مرة أخرى، وقد تكون مشروحة مرة ثالثة وعلى هذا النحو، وكلها مع هذا نثر، ونثر فني. على أننا لا نحب أن نناقش الأستاذ الفاضل في هذا، وإنما الذي نريد أن نقوله: هو أن الشعر ليس فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، وإنما الشعر عاطفة مصورة، لأن نتاج العقل لا يحتمل التصوير الشعري، وإنما هو في حاجة إلى الدقة في التعبير. وماذا يقول الأستاذ الفاضل في هذه العواطف المصورة تصويرا فنيا جميلا، والتي لا تحمل في طياتها فكرة من الأفكار؟ أيسقطها من الأدب لأنها ليست فكرة؟ أم ماذا يصنع بها؟

على أن من الحق أن نقرر أن زميلك الفاضل قد احتاط لنفسه حين عرف الأدب بأنه فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، احتاط لنفسه احتياطا فهو يفرق بين الفكرة بمعناها العلمي المحض، والفكرة بمعناها الأدبي، ويرى أن الفرق بينهما هو الفرق بين (العالمية) و (الفردية) أو بين (الموضوعية) و (الذاتية) فالفكرة العلمية حقيقة واقعة تفرض نفسها على الناس جميعا، ولا تفقد صحتها إلا إذا قام البرهان العلمي على فسادها. أما الفكرة الأدبية فليست حقيقة واقعة وإنما هي حقيقة في رأي الشاعر. وقد يراها الناس وهما كاذبا وخيالا باطلا، فهي فردية ذاتية وليست عالمية وموضوعية. هو يريد أن يقول: إن الأدب يصف الخواطر النفسية والعواطف الإنسانية، ولكنه لم يقل هذا فيريح ويستريح، وإنما لف ودار فتعب وأتعب الناس معه ولم يصب المرمى بعد هذا التعب وهذا الاتعاب، لأن الخواطر النفسية ليست أفكارا وإن وصفها بالذاتية ووصفها بالفردية، وإنما هي خواطر، وخواطر ليس غير. ماذا أقول؟ بل أن الأدب ليس أفكارا ذاتية وأفكارا فردية ليس غير، وإنما هو ولا سيما إذ كان نثرا فنيا أفكار علمية وحقائق واقعة لم تصغ صياغة علمية جافة، وإنما صيغت صياغة أدبية جميلة أبعدتها عن جفاف العلم وجفوته. وكيف أقول إن النثر الفني أفكار ذاتية أو فردية وهو لا يرقى إلا في الأمم التي أوتقت في الحضارة وتقدمت في الحياة العقلية، وأخذت من العلم والفلسفة بنصيب لا بأس به. أنا إذن عاجز عن افهم أن الأدب فكرة مصورة مزجاة بعاطفة. وعاجز أيضا عن أن أفهم هذا الفرق بين الفكرة العلمية والفكرة الأدبية. ذلك لأني إن فهمت أن النثر فكرة فلن أفهم أن الشعر فكرة، وإن فهمت أن الفكرة الأدبية ذاتية وفردية فلن أفهم أن النثر الفني أفكار ذاتية فردية، وإذن فالأستاذ مطالب بأن يوضح لي رأيه في الأدب عامة وفي النثر خاصة وفي الشعر بنوع أخص

على أننا قد ابتسمنا حين رأيناه يكلف نفسه شططا ويرهقها عسرا لإثبات أن الأدب ومنه الشعر فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، ولعله كان يلمح أن الشعر ليس فكرة، وإنما هو عاطفة وشعور. فهو يقول إن العاطفة لا توجد وحدها بل توجد مدفوعة بفكرة، أو هي بطبيعتها تنتهي متى تملكت صاحبها إلى فكرة من الأفكار. وأنا أحب أن أناقشه في هذا الكلام، لأن العاطفة قد لا توجدها فكرة من الأفكار وقد لا تنتهي حين تتملك صاحبها إلى فكرة من الأفكار. ومن المحقق أن المخزون لا يفكر في الحزن أولا حتى يحزن، ومن المحقق أيضا أن المخزون إذا تملكه الحزن لا ينتهي حزنه إلى فكرة من الأفكار، وإنما ينتهي به إلى البكاء، وقد ينتهي به إلى العويل.

وأنا أحب أن أترك زميلك الفاضل، فأنا لا أكتب إليه هو، وإنما أكتب إليك أنت. وأكبر ظني أننا الآن قد اتفقنا على تعريف الشعر؛ فهو عاطفة مصورة تصويرا فنيا جميلا في كلام موزون مقفى، وإذا قلنا مصورة تصويرا فنيا جميلا فقد ذكرنا الخيال القومي المبتكر. فنحن إذن لم نعد الحق حين قلنا إن الشعر لغة الحس والشعور والخيال. وهذه الملكات التي تنشأ مع الفرد والجماعة وتنضج وترتقي قبل أن ينضج العقل ويرتقي التفكير. ولم نعد الحق أيضا حين قلنا إن الشعر أول مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة الحس والشعور والخيال، وأن النثر آخر مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة العقل ومظهر التفكير. ولم نعد الحق أيضا حين قلنا إن الشعر جهل وسذاجة لأنه يعتمد على الخيال الذي يمضي حيث يشاء ويصور الأشياء كما يشاء، لا كما تشاء الأشياء أو كما تشاء الطبيعة. وأنت مخطئ يا صديقي إن ظننت أني حين أصف الشعر بالجهل والسذاجة أغض من شأنه أو أحط من قدره. فوصف الشعر بالجهل والسذاجة مدح له وثناء عليه. لأن الشعر الذي يوصف بالعلم والعمق نظيم كله لا أثر فيه للشاعرية ولا للخيال. الشعر جهل وخير له أن يظل جهلا، لأنه يفقد فنيته كلما اترك الخيال المبتكر وجنح إلى الحقائق الواقعة. والشعر سذاجة وخير له أن يظل سذاجة؛ لأنه يفقد فنيته وجماله كلما ترك هذه السذاجة وجنح إلى التفكير والعمق. على أني أحب أن تطمئن ويطمئن الشعراء ويطمئن الذين يحبون الشعر ويشفقون عليه ويجدون شيئا من اللذة الفنية في قراءته وبتغنيه، فلن يستطيع هذا الحديث أن يميت الملكات الشعرية في نفوس الشعراء. ولن يستطيع هذا الحديث أن يقطع السبيل بين عشاق الشعر وبين قراءة الشعر واستظهاره، والتماس اللذة الفنية في قراءته واستظهاره. بل اذهب إلى ابعد من هذا فأزعم لهم أن الشعر إذا اضمحل في مصر في هذا العصر الذي ارتقت فيه الحياة العقلية ارتقاء كبيرا، فإنهم لن يفقدوا اللذة الفنية إذا التمسوها في النثر الفني. ففي هذا النثر يجدون حياة أدبية مشرقة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة الشعرية الجاهلة الساذجة.

وأراني قد أطلت عليك، وإن كنت لم أحدثك عن كل ما أريد أن أحدثك عنه فأنا مضطر الآن إلى أن أفرغ من هذا الحديث، وإلى وقت آخر.

كمال بسيوني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى