محمد خليفة التونسي - الزندقة في عهد المهدي العباسي - 4 -

ولقد حاول الفرس مراراً الاستقلال عن العرب وطرح حكمهم ودينهم منذ ملكوهم، وقد اختفت هذه المحاولات أولا بعد خيبتهم فيها - كما قدمنا - ثم عادت إلى الظهور في أواخر الدولة الأموية. والقارئ لتاريخ عمر وعثمان وعلي والدولة الأموية في الكتب المبسوطة كتاريخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري والكامل لابن الأثير وكتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون وغير ذلك تهوله كثرة انتفاضات الفرس على العرب في البلاد الفارسية، ومما يدل على أن الاستقلال كان وسواسا لازبا في عقول سادة الفرس.

وما أظن أبا مسلم إلا بطلا فارسيا كان يرمي إلى هدم السلطان العربي والإسلام، وما لسبب غير ذلك حول أبو مسلم الملك عن العلويين إلى العباسيين بأن العلويين أحق منهم بالخلافة مادام الأمر أمر قرابة من النبي. وما ثار بعده تلميذه سنباذ وثارت الراوندية إلا لهذا الغرض، وما أبري البرامكة من الطمع في هذا الاستقلال مما دعا الرشيد إلى نكبتهم، وما استعان العباسيون بهم إلا وهم يحذرونهم، ويتخلصون منهم في الآونة المناسبة، ولا أهملوا العرب إلا بعد أن يئسوا منهم، ومع ذلك قربوا العرب وأنهضوهم حين خافوا نزوات الفرس ليضربوا هؤلاء بأولئك، وأولئك بهؤلاء حذرا من الفريقين. وما كان النزاع بين الأمين والمأمون إلا نزاعا بين الفريقين، ولا كانت استعانة المعتصم ومن بعده بالترك إلا عن سوء ظن بهما معا مما أدى إلى ازدياد نفوذ الترك على نفوذهما.

غير أن الفرس لم ينوا في طلب الاستقلال حتى ظفروا به على يد الدولة البويهية (334 - 447 هـ) فقد أكثر العباسيون طوال القرن الثالث الهجري من إقطاع الفرس ولايات المشرق طعمه لهم ولأخلافهم، وهب دهاة الفرس ينشئون في فارس إمارت وطنية، ولكنهم حينما استعادوا بعض أملاكهم وجدوا الإسلام قد أتى على المجوسية، واللغة العربي كادت تهزم الفارسية، فأنابوا إلى الخلفية لأنه الحاكم الشرعي الذي تحب طاعته، ودعوا إلى نصرته استدراجا للعامة تحت سلطانهم، ومع غلبة الإسلام على مجوسيتهم لم يقض على عصبيتهم، فلما استقلوا بالولايات شرعوا في تجديد لغتهم ونقل ثقافة العربية إليها فنجحو في تجديدها كثيرا وخابوا في نقل الثقافة إليها لأنها كانت قد انحطت بإهمالها زمنا طويلا.

ولقد كان الفرس البويهيون يحكمون بلاد الخلافة حتى بغداد عاصمة الدولة العباسية.

ويعنينا هنا أمر آخر أهم من كل ما تقدم هو أن العصبية الفارسية حملت الفرس على أن يحافظوا على كل ما هو فارسي، ويؤثروه على كل ما هو عربي ومن ذلك ديانتهم المجوسية القديمة التي تفرقت إلى نحل مختلفة قبل ظهور الإسلام.

ما من شك في أن كثيرا منهم قد دخلوا في الإسلام مخلصين واعتنقوه عن إيمان، واستطاعوا إلى حد بعيد أن يتخلوا عن ديانتهم القديمة، ولكن مما لا شك فيه أن كثير منهم أيضاً أبطنوا المجوسية وأظهروا الإسلام وأسباب ذلك كثيرة لا يعنينا هنا الكلام فيها. وما من شك في أن كثيرين دخلوا في الإسلام مخلصين ولكنهم لم يستطيعوا التخلي عن الميراث الذي تركته في عقولهم الديانة القديمة، وما من شك في أن كثيرا منهم لم يكونوا يؤمنون بالإسلام ولا بالديانة القديمة في قلوبهم ولكنهم تمسكوا بالديانة القديمة لأنها ميراث لهم قديم يدفعهم وقوف العرب بمفاخرهم أمامهم إلى التمسك به، فقد اعتبر العرب أنفسهم جيلا يمتاز على سائر الأجيال، ووضعوا أنفسهم في موضع سام، ووضعوا كل من عداهم في موضع وضيع، وسموا أنفسهم العرب، وسموا كل من عداهم العجم، وأظهروا مفاخرهم يتحدون بها العجم جميعا، وبرز لهم العجم فتحدوهم بمفاخرهم، وكثر احتكاك هؤلاء بهؤلاء في كل مكان وامتدت الملاحاة والمفاخرة حتى عاب العجم على العرب مثلا إمساك خطبائهم بالعصا، ورد ممن كانوا في صف العرب عليهم ذلك فعدوه مفخرة، وكثرت مجالس المناظرة بين العرب والموالي ولا سيما الفرس للأسباب السابقة، ولما كان للفرس من سلطان في أيام العباسيين وكان الفريقان يتبادلان الاحتقار والتفاخر، وظهر ذلك على ألسنة الشعراء والعلماء، فألف كثير من الفرس الكتب في مثالب العرب، وأول من شجع على ذلك الخلفاء والأمراء والعرب أنفسهم، فنحن نعلم أن العصبيات القبلية العربية التي نجح النبي في إسكانها قد بدأت تظهر بعده ولا سيما في الدولة الأموية، واستدعى هذا أن يطلب الخلفاء وأتباعهم من علماء الأنساب تأليف الكتب في مثالب القبائل العربية التي كانت تناهضهم، وكتب المفاخر في مفاخر القبائل التي تناصرها، فلما برزت الشعوبية لمناهضة العربية وجدت في كتب المثالب أصولا تحتذيها في الطعن على العرب متفرقين ومجتمعين، وإنا نجد في كتب التراجم أسماء كتب في مثالب العرب عامتهم أو قبائلهم لكبراء والأدباء والعلماء.

وقد شارك كثير من الشعراء الموالي قومهم في ذكر مثالب العرب والتندر بهم حتى في مجالس الخلفاء والأمراء العرب، ومن ذلك ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني، قال: (دخل أعرابي على مجزاة بن ثور السدوسي، وبشار عنده، وعليه بزة الشعراء، فقال الأعرابي: من الرجل؟ فقالوا: رجل شاعر. فقال أمولي أم عربي؟ قالوا: بل مولي. فقال الأعرابي: وما للموالي والشعر؛ فغضب بشار، وسكت هنيهة، ثم قال: أتأذن لي يا أبا ثور؟ قال: قل ما شئت يا أبا معاذ) فأنشأ يقول:

خليلي لا أنام على اقتسار ... ولا آبي على مولي وجار
سأخبر فاخر الأعراب عني ... وعنه حين تأذن بالفخار
أحين كسيت بعد العرى خزَّاً ... ونادمت الكرام على العقار
تفاخر يا ابن راعية وراعٍ ... بني الأحرار؟ حسبك من خسار!
وكنت إذا ظمئت إلى قراح ... شَرِكتَ الكلب في ولغ الإطار
تريغ بخطبة كسر الموالي ... وينسيك المكارم صيد فار
وتغدو للقنافذ تَّدريها ... ولم تعقل بدراَّج الديار
وتتشح الشَّمال للابسيها ... وترعى الضأن بالبلد القفار
مقامك بيننا دنس علينا ... فليتك غائب في حرَّ نار

فقال مجزأة للأعرابي: (قبحك اللَّه! فأنت كسبت الشر لنفسك وأمثالك).

ولقد حذا أبو نواس حذو بشار في التعصب للشعوبية والطعن على العرب، وديوانه حافل بالسخر منهم. وما افتتاحه قصائده بمدح الخمردون مناجاة الديار إلا تعصب للشعوبية وليس تجديداً كما زعم أكثر من أرخوا عصره أو كتبوا فيه، فأطنبوا في الإشادة به، وفواتح قصائده تنبئ عن سخره من مناجاة الديار أو بوجه أعم من العرب جميعا، وإليك مثلا من عشرات الأمثلة قوله:

عاج الشقي على ربع يسائله ... وعُجْبتُ أِسأل عن خمارة البلد

يبكي على طلل الماضين من أسد ... لادر درك! قل لي: (من بنو أسد ومن تميم ومن قيس ولِفٌّهماَ؟ ... ليس الأعاريب عند الله من أحد!)

فقوله: (ليس الأعاريب عند الله من أحد) طعن صريح في العرب جميعا: ولو مضينا في الاستشهاد بشعره على ما تقول لضاق المكان، وما دمنا بصدد الموضوع خاص فلنضرب صفحا عن الشواهد، وحسبنا هذا الشاهد.

فهذا الطعن الصريح وغبره وليد العصبية الفارسية عند أبي نواس ومن عاصره من الموالي، وكان عصرهم عصر انتصار للفرس على العرب، فتمكنوا في التصريح برأيهم حتى في بلاط الخلفاء والأمراء العرب، ووافق ذلك ميلا في مزاج أبي نواس وأمثاله المستهترين الذين لا يحفلون بسنن العرف والأخلاق فجروا في هذا المضمار شوطا بعيدا.

وأصرح من بشار وأبي نواس قول الموبد:

(أنا ابن المكارم من آل جم ... وطالب إرث ملوك العجم
فقل لبني هاشم أجمعين: ... هلموا إلى الخلع قبل الندم
وعودوا إلى أرضكم بالحجاز ... وأكل الضباب ورعي الغنم)

وقول أبي سعيد الرستمي:

(بهاليل غر من ذؤابة فارس ... إذا انتسبوا لا من عرينة أو عُكْلِ
هموا راضة الدنيا وسادة أهلها ... إذا افتخروا لاراضة الشاة والإبل

ودون أولئك أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي الذي أسلم على يد أستاذه الشريف الرضي فحسن إسلامه، وظل بعد إسلامه حتى مات دون أن يظهر منه ما يدل على حنينه إلى ديانته القديمة (المجوسية)؛ فهو - على الرغم من إسلامه، وصلته القوية بالشريف الرضي - لم ينس أنه فارسي، وأن قومه الفرس كان لهم مجد أعظم حتى من مجد العرب، وأن ليس للعرب فضل إلا الدين، وإليك أبياته المشهورة التي تغنى في زماننا:

(أعجبت بي بين نادي قومها ... (أم سعد) فمضت تسأل بي
سرها ما علمت من خلقي ... فأرادت علمها ما حسبي
لا تخالي نسبا يخفضني ... أنا من يرضيك عند النسب
قومي استولوا على الدهر فتى ... ومشوا فوق رءوس الحقب
عمموا بالشمس هاماتهم ... وبنوا أبياتهم بالشهب
وأبي (كسرى) على إيوانه ... أين في الناس أب مثل أبي؟
سورة الملك القدامى وعلى ... شرف الإسلام لي والأدب
قد قبست المجد من خير أب ... وقبست الدين من خير نبي
وضممت الفخر من أطرافه ... سودد الفرس ودين العرب)

هذه صورة موجزة للشعوبية وبعض آثارها وأسبابها، ولقد دفعت الشعوبية العجم جميعا ولا سيما الفرس على المحافظة على كل ما تستطاع المحافظة عليه من تراث فارس حتى المجوسية، وقد أشرنا في هذا المقال إلى الصلة بين الشعوبية والمجوسية، وسنفصل إن شاء في المقال الآتي القول في هذه الصلة، والقول في المذاهب المجوسية التي أظهرها الزنادقة أيام المهدي العباسي. وبيان أصولها القديمة عند الفرس القدماء، لنعرف صلة مذاهب الزنادقة المحمرة والمبيضة بالمجوسية القديمة التي دان بها أهل فارس قديما، ثم تفرقت مذاهب مختلفة، وتطورت أطوارا جديدة على يد دعاتهم ذرادشترا وماني ومزدك.

محمد خليفة التونسي

مجلة الرسالة - العدد 645
بتاريخ: 12 - 11 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى