حيدر عاشور - كواليس.. قصة قصيرة

هوس جنوني يسحبها نحو رجل منحته حياتها بأكملها، وأي حياة... حياة أن تكون أو لا تكون...أين تبحثين عنه وسط هذا الخراب من المتسكعين على أرصفة الميدان. ترعبها أصوات البائعة وهم (يدللون) على بضاعتهم بتداخل مثير.
- قميص وبنطلون لزعيم عراقي.
- حذاء مسؤول كان كبيرا في السلطة السابقة .
- رتب عسكرية وميداليات فضية وذهبية .
هذه الأصوات تثير هوسها وتخيفها، وكأنها تنادي عليها للانتباه أو مجرد الرؤية ، لكنها سارت بوسطهم بشكل مستقيم كلما تقترب خطوة يُفسح لها خطوتان وكأنها قائد عسكري وسط رعية لم يخطر ببالهم أبدا أن تمر من أمامهم امرأة بهذا الشكل المستوفي لشروط الجمال والأناقة. لتدخل في أجواء شارع المتنبي .
ها هو الشارع الذي طالما حلمت بالذهاب إليه لسنين طوال... يا الهي انه مزدحم بأناس يختلفون عما قبلهم، هذا الأستاذ معي بالجامعة وتلك السيدة أشاهدها دائما في التلفاز وهذا محامٍ كبير، دائما صوته وجسمه متلائمان انه يجهر بصوته عن أي حدث ويحيله إلى قضية قانونية. ما هذا الكم الهائل من الكتب التي تفترش الأرض ,عناوينها مثيرة ... ولكنني جئت لهدف محدد أن أجده حيا فالموت في بلدي لم يعد قضية في كل لحظة تسمع رعدا سماويا في قلب الصيف ليقول لك احدهم لا تخف أنها سيارة مفخخة قد انفجرت وأخذت معها أرواحا لا تعد ولا تحصى لأن عصفها قد ينقلك من منطقة إلى أخرى لترحل دون الم وتدفن أعضاؤك وبقاياك مشتركة مع الآخرين.
قالوا لي إن المقهى الذي يعشق الجلوس فيها نهاية هذا الشارع المعرفي الجميل ... صوت عال يمسك كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني ويعلن بيعه لجمهرة من الواقفين أمام مكتبته وهو يعلوهم بكرسي.. وقفت أتأمل هذا الحدث الجديد على بصيرتي ،هذا يزيد ألفا والأخر نصفا وهكذا اكتشفت أول مرة في حياتي هناك مزايدات علنية لبيع الكتب الثمينة والنادرة وهو يعرِّف بمؤلفها ودار نشرها... أتمنى أن التقي أستاذي ليعرفني أكثر على هذا الشارع وخفاياه. ها هي المقهى مليئة بالمثقفين كيف لي الجرأة على الدخول ،إذن علي إن اسأل .
- أستاذ من فضلك ممكن أن تسال صاحب المقهى عن الراشد اللطيف.
- بكل سرور.
ولكنني شعرت بالرهبة وأنا أمد بصري لطول الشارع الملغوم بالمتواجدين من المثقفين الذين يتهامسون عن أسرار الأدب والصحافة على مختلف مشاربهم.. أين أنا من هؤلاء ؟ ساعية وراء أستاذ هرم يعتقد انه يضحك علي من خلال المبالغ التي يأخذها مني إزاء عمل كتابي.. كيف لي أن أثق به... يا الهي حلم حياتي بين يديه ، مصيري ،مستقبلي الأكاديمي ... قاطعها صوت :
- الأستاذ محمد الفخري صديق الراشد والوحيد الذي يعرف أين هو الآن.
- أهلا وسهلا .
- أهلا ... أجابها محمد الفخري، وهو ينظر إليها بتمعن من رأسها إلى أخمص قدميها وهو يمسح كل دقيقة انفه بحساسية مفرطة تدل على تأثيرات ليلة أمس.
- هل أنت من أقربائه ؟
- نعم ، ولكن ليس بالضبط وإنما من محافظته .أرجوك أستاذ أين أجده .. فانا في حاجة ماسة إليه .
- انه يعاني مرضا منذ فترة وهو راقد في غرفته.
- أين هي غرفته وهل باستطاعتي زيارته أستاذ ؟
- بالتأكيد المكان قريبا جدا ولكنه في حالة صحية متأزمة.
بدأ خيالي يطرح أسئلة وانتابني شعور بالغريزة الحسية التي يناور بها بنظراته وحركاته المرتجفة المستعجلة للإطاحة بالفريسة من أول نظرة .وتمت إجابتي بكياسة ودماثة
- ممكن يوم غد الساعة العاشرة صباحا في الكلية لأنني تأخرت كثيرا هذا اليوم إضافة إلى دخولي هذه المنطقة من بدايتها أشاهد أناسا غرباء يختلفون تماما عن المتواجدين في هذا الشارع الذي وهب حياته للمثقفين.
تفاجأ من طرحي ووقف شاخصا بصره نحوي ويتنهد .
- وليكن، لكِ ذلك انك على حق.
- ما هي أعراض الراشد يا أستاذ ؟
- حرارة، ونحول، ويأس، وإفلاس، وكآبة وغيرها من مفردات الانفلات لشخص يهرب من كل شيء ليجد نفسه وسط الوهم رغم كبر قامته الإبداعية.
رجوعي كان سهلا جدا مع هذا السيل العارم من مريدي الثقافة على أشكالها ، وانفتحت باب القدر لي حين جاء صاحبي بالموعد المشهود الأستاذ محمد الفخري الذي استوعبته وعرفت نيته الغرائزية وكان ينتظر وصولي بفارق الصبر وحين اقتربت منه تغلغل الشك والقلق في صدري
- ها قد وصلنا الفرع الذي يسكن فيه الراشد .
- أين الاستاذ ، هذا شارع مظلم ومخيف وهناك أصوات معارك في ظلمته .
- الناس هنا يعرفونني جيدا وما هذه الأصوات إلا بعض المحتسين والمبتزين ومفرغي جيوب العاملين في بغداد والقانطين هنا من اجل المرأة والخمر ... لا تخافي طالما أنا إلى جانبك كلها خطوات ونصعد إلى الراشد المتشوق إلى قريبته .
- احذر إن تخدعني فانا إنسانة محترمة ومن عائلة معروفة في الحسب والنسب .
- لا تخافي . حذرني الراشد أيضا بنفس التعريفات!
صعدنا سلما ضيقا والظلام دامس حتى وقفنا إزاء باب مفتوح على مصراعيه ودخلنا إلى باحة مغلقة تحتوي على ثلاث غرف مقفلة والرابعة بها إنارة بسيطة .. تراجعت قليلا ووقفت بجانب الباب بغية الهروب وقد سبقني إلى الغرفة بسرعة غريبة وأخذت استرق السمع انفتحت أسارير نفسي وشعرت فجأة بالقوة تسري في جسدي وأنا اسمع صوته الجوهري يقول :
- من قال لك ان تأتي بفتاة إلى غرفتي ؟
- أنها تعرفك جيدا وهي ناقة بيضاء وترغب بي .
- تعرف بأنني مريض ولا أستطيع مغادرة الغرفة ، انك إنسان غريب الأطوار وجائع دائما للنساء كيف يقبلن بك لا ادري.
هنا تأكدت من مكان أستاذي وعرفت نية صاحبه القبيحة ومن فوري دخلت الغرفة .
- سلامات أستاذ راشد سلامات .
- من؟ زينب عاتي ؟أهلا بك تفضلي...غادر أنت أيها (............) لا أريد إن اسميك أكثر بأقبح الأسماء لكونك الصديق الوحيد القريب على قلبي.
خرج دون ان ينبس بأي كلمة وهو يلتفت حول نفسه ويردد قوله:
- صديقي هل أعود في المساء .
- نعم أين ستذهب كي تنام وأنت لاتملك شيئا...اجلسي يا زينب ، كيف وصلتِ إلى هنا هذا مستحيل..هذا شارع لا تسلم فيه أي فتاة هل أنت بخير.
- نعم بفضل أستاذ محمد...أستاذ جلبت لك بعض الأدوية بعد أن وصفت لي حالتك أستاذ محمد الفخري تناوله حالا، وستصبح بحال جيدة .
تجولت عيناي على أركان الغرفة المبعثرة فيها كل شيء حتى الكرسي الخشبي الذي اجلس عليه كان مكتظا بالكتب والمجلات وقرب الباب مجموعة قناني لأحصر لها ونفايات وأعقاب سكائر وكأن المكان لم ينظف من زمن،رفعت رأسي لأشاهد مروحة قد غير لونها من شدة الأوساخ عليها ... قلت في نفسي وأنا أشاهد الأستاذ الذي بدأ يتناول الدواء:عليّ مساعدته وكسبه أكثر إلى جانبي فنهضت من فوري وبدأت ارتب أشياءه،فجاءني صوته.
- ماذا تفعلين ؟
- أنا امرأة وعليّ تنظيفها .
- أرجوك اتركي كل شيء بمكانه ، هذه الغرفة التي تشاهدينها لأول مرة خرجت الكثير من الأساتذة وهم مرموقون حاليا وأعلام في الثقافة والأدب بل أصحاب مناصب حساسة في الدولة.
شدني الفضول لهذا الكم الهائل من الكتب المتناثرة في كل أرجاء الغرفة وعلى شكل دائري حين تنظر إليها وأنت واقف بعضها مفتوح والأخرى موضوع عليها إشارات تصفح .... ولكن أين أجد غايتي ليطمئن قلبي وسط هذه المجموعة الكبيرة من (الفايلات) ... رسالة ماجستير وأخرى دكتوراه في فن التشكيل ،هذا اسم رئيس جامعتنا ... هذا اسم شخص اعرفه وهو أشبه بفرعون عصره في العلم والثقافة هذه كلها أسماء أعلام إذن أنا لست الوحيدة التي استعين به وعليّ إن أجد رسالتي في الدكتوراه جاءني صوته :
- أرجوك لا تحركي أي شيء في الغرفة .
- لكن ما هذه القناني الكثيرة التي توازي مكتبتك المتناثرة .
- لا عليك اتركي أي شيء ودعيني أوصلك إلى أخر الشارع ليعرفك أصدقائي بأنك من أقربائي.
- قلت للأستاذ محمد الفخري بأنك من أقربائي .
- أتركي هذا في الوقت الحاضر ودعيني أوصلك.
وحين هم بالوقوف كانت عيني لا تفارق مجموعة (الفايلات ) وحاولت إن اخذ بعضها بطريقة السرقة البريئة ولكن خفت على نفسي من المستقبل.. آه إنه لا يقوى على القيام من فراشه البائس الذي كان عبارة عن بساط خفيف ووسادة رثة ورائحة تختلط بين رائحة الدخان وقناني الشرب.. وفعلا أخذت مجموعة من (الفايلات)عسى إن أجد رسالتي بينهن .... جاءتني الشجاعة في توديعه دون أن يوصلني ، وأترجل كأي رجل ورجعت من فوري إلى الكلية والساعة تقارب الواحدة ظهرا إذن قضيت مشواري بثلاث ساعات وبدأت أتصفح (الفايلات) .. يا الهي هذه رسائل الماجستير لا أشخاص اعرفهم وأساتذتي في الكلية وأخيرا هذه رسالة الماجستير التي تخصني ولكن أين رسالة الدكتوراه ... صدمة وقعت بها ... وحيرة كونية بين إن أكون أو لا أكون فضيحة عالقة بيني وبينه بعد أن عرفت الكثير من أسرار الكذابين من أساتذة الرسائل المكتوبة بالنيابة مقابل اجر زهيد لهذا العملاق الكبير والمفكر المندثر بين أكوام الكتب والقناني . هؤلاء يعرفون قيمته العلمية ولا أجد من يذكره حتى ولو في كلام طيب وتذكرت مرة جاء اسمه فقال احدهم : هذا شاعر سكير ومتصعلك والغريب إن المتصعلك السكير قد منحه شهادتي الماجستير والدكتوراه ويذكره بمنطق متعالٍ .
عليّ ان أزوره قبل أن يفارق الحياة وان أكون بقربه كل يوم انه إنسان مثالي ونادر ولكنه فقير جدا ... وهذه (الفايلات) يجب إعادتها إليه وليكن هدفي رسالتي فقط في الدكتوراه .
خرجت في صباح تموزي جميل وأنا اعلم أين ذاهبة ومعي كل ما يحتاجه من طعام وأدوية وبعض الخضروات والفاكهة وصلت إليه دون الاستعانة بأحد وكالعادة البابان مفتوحتان دخلت عليه وجدته في حالة يرثى لها ومصيره قائم للموت وعليّ إحياؤه مهما كلفني الأمر ... أمسكت رأسه .
- أيها العالم والصديق المبدع :أنا زينب عاتي سأكون في خدمتك ...
نهض بتمهل ورفع رأسه وقال:
- أهلا زينب شعرت بك قريبة مني بعد زيارتك الأولى بل مغامرتك الفريدة من نوعها لإنسانة تحب الحياة مثلك.
- هذا علاج وبعض ما تحب .
- شكرا أيتها الرائعة .
- هل ارتب أشياءك، غرفتك بائسة جدا؟
- اتركيها فانا اعلم بأشيائي تعلمت على هذه الفوضى منذ أكثر من عشرين سنة ، أعيش وحدي واكل وحدي واقرأ واكتب وحدي وقد تحولت الأشياء هنا إلى مضامين مابين السياسة والفكر والأدب والفن والكل يبحث عن مضمونه كما أنت غامرتِ من اجل مضمونك وهذا من حقك .
- وضح لي أستاذ راشد أنا لا افهم ما تقول .
نهض بتمهل وهو يرسم على شفتيه ابتسامة غريبة وحدق بنظرة فاحصة باتجاه (الفايلات) عرفت من فوري انه علم بما عرفت وأخذت فأرجعتها جميعها إلا رسالة الماجستير التي تخصني ولم يعقب على ذلك واستمر الحال حتى أعاد جزءا من صحته وأصبحنا نلتقي كل يوم ونذهب إلى الصحف لجلب مكافآته ويعرفني بأصدقائه ويطلق علي لقب الدكتورة زينب ولكن أين جهدي لم اترك ركنا من أركان غرفته إلا وبحثت به حتى فاجأني بقوله .
- زينب أنت تعرفتِ على أسرار احتفظت بها لسنين وأنا أيامي تعد بالتنازل بسبب المرض الملم بي وقد جعلت منك أستاذة حقيقية وأنت تبحثين بين أوراقي وها أنت بدأت تعتمدين على نفسك ... سأذهب بعد أيام إلى محافظتي واترك لك مكتبتي فقط وهذا (الفايل) الذي يحوي بقايا رسالة الدكتوراه التي تبحثين عنها حاولي جهد إمكانك أن تحبي البحث والقراءة واعتمدي على نفسك وكوني (زينب عاتي) لا راشد اللطيف.
لم أتمالك نفسي وأخذت ابكي بصمت وأنا مبهورة به على سعة صدره وقوة تحمله ولكنني لم اتركه أبدا فاليوم الذي لا يأتي به اذهب إليه في غرفته,, والمفاجأة بعد شهور من رعايتي له واقتراب مناقشة رسالة الدكتوراه كان حذرا وشديدا معي حتى علمني ... صنعني بصناعته وامتثلت أمام لجنة مناقشة رسالتي والغريب اغلب اللجنة قرأت أسماءهم في غرفة الراشد وأرغمني على إخفائها وهم يمنحونني شهادة الدكتوراه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى