دريني خشبة - 5 - الدكتور طه حسين والشعر المرسل.. اكتشاف عجيب في كتابه الأخير على هامش السيرة (الجزء الثالث)

مصادفة عجيبة. . .

مصادفة وقعت عليها وأنا أقرأ الجزء الثالث من كتاب (على هامش السيرة) للدكتور طه حسين. . .

وقبل أن أسوق للقراء خبر هذه المصادفة أقرر أنني كنت أقرأ طه حسين هذه المرة (بنية سيئة!). . . نية سيئة جداً. . . بل هي أسوأ النيات جميعاً، وليؤول صديقي الفاضل (. . .) هذا الكلام على الوجه الذي يرضيه، فنحن في غنى عن أن نقاسمه أن كلامه الذي كتبه عنا بصدد شهرزاد لم يكن السبب في نقدنا للمستشار الفني، وصاحب كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) حين أخذنا عليه عدم اهتمامه بإحياء الترجمة في مصر، أو بتنشيطها على الوجه الأكمل الذي تقتضيه نهضتنا، برغم ما أثبته في كتابه الذي ذكرنا من أن كل نهضة فكرية أو أدبية تحاول إيجادها في مصر خاصة، وفي الشرق العربي عامة، إنما ينبغي أن تقوم قبل كل شيء على الترجمة. . . لما كتبنا ذلك لم يهتم الدكتور ولم يلق باله. . . ومع أن اللهجة التي كتبنا بها كانت مما يحتمل أن يؤاخذ عليها كاتبها في ظروفه الخاصة التي تشبه ظروفنا، فإن الدكتور أغضى ولم يحفل بشيء، وإن يكن قد شرع يمد إدارة الترجمة بوزارة المعارف بالأذكياء المقتدرين الأكفاء. وقد خيل إلينا أن الدكتور لم يقرأ ما كتبناه، فهيأ لنا غرورنا (والعياذ بالله!) أن عدم القراءة أوجع لنا من القراءة مع الإغضاء. . .

لهذا، أو لبعضه، قلت إنني كنت أقرأ الجزء الثالث من هامش السيرة بنية سيئة جداً. . . نية الناقد الذي تأثر بطريقة النقد الحديثة في مصر. . . النقد الذي يتسقط الهفوات، ويعد الغلطات، ويحصى الهنات. . . النقد الذي لا يملك أعصابه، بل يرسلها في ما ينقد إرسالاً. . .

ومضيت في القراءة. . .

فهذه عشرون صفحة ليس فيها شيء! أقصد أن ليس فيها هفوات ولا غلطات، ولا هنات هينات! وإن كان كل ما كتب فيها كان حسبه من هذه الصفحات العشرين عشر صفحات أو خمس عشرة صفحة. . .

لا. . . ليس هذا عيباً. . . لأنك إن عددته عيباً فستضحك منك قراءك. . . ابحث عن شيء آخر. . . فالأسلوب جميل خلاب، والقصص مسترسل رائع، وحسب هذه الصفحات العشرين أو الثلاثين ما فيها من ذاك جميعه، فذاك جميعه هو الأدب. . . والأدب القصصي بنوع خاص

ما هذا؟ الدكتور طه حسين ينطق ناساً من عرب الجاهلية بما هو من القرآن، أو ما يقرب أن يكون من القرآن، ولما ينزل القرآن بعد؟! ما هذا الذي يقوله نسطاس لورقة بن نوفل: وظل الصبي يتيما عائلا ضالا. . . أليس في هذا الكلام (رائحة!) من القرآن في سورة الضحى؟. . . ومثل هذا شائع في الفصول التي تسبق مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. . . وعلى ذكر (صلى الله عليه وسلم) هذه. . . لماذا آثر الدكتور أن يختصرها هذا الاختصار الذي يذهب بجمالها. . . (تلك الكلمة حلوة المجرى على اللسان، حسنة الموقع في القلب، خالدة في الدهر ما بقي الدهر)! لماذا يختصرها الدكتور هذا الاختصار صلعم؟ لماذا لا يقولها كما يجب أن تقال عظيمة كريمة رخيمة! كما قالها بعد ذلك مرتين أو نحوهما

لا. لا. . . ولا هذه أيضاً. . . إنما يجب أن تترك فصل نسطاس وورقة فلا تعيبه بشيء، لأنه من أروع فصول هذا لجزء الثالث، وإن يكن أروع منه هذا الفصل الذي انعقدت فيه أواصر الصداقة بين عمرو بن هشام - أو أبو جهل كما سوف يذكر لك - وبين أبو مرة، أو زعيم الأبالسة. . . ونقول أبو جهل وأبو مرة في موضع الجر عامدين كما تعمدهما المؤلف، وندع التأويل لكل قارئ لبيب. . .

بل قل إن أردت أن تنقد الهامش بشيء إن انتقال الدكتور من الرواية إلى التاريخ، ومن القصص الشائق إلى التحقيق العلمي بعد الصفحة الثانية والثمانين هو عمل لا يتفق وما أعلنه وأذاع به من أنه لم يكتب كتابه للمؤرخين. وقل إن الدكتور هيكل قد ذهب بالتحقيق العلمي كما ذهب الدكتور طه بإحياء السيرة وتجديدها، فما باله يحاول أن يكتب للعلماء الذين لا يصدقون مطلقاً، أن ساق حمزة رضي الله عنه قطرت دماً حينما مستها الفأس خطأ بعد دفنه بسنين عددا. . .؟ ثم هذا الحديث الحلو عن زيد بن حارثه الذي يحيك في الصدر منه شيء غير قليل. . .

ولكن لا. . . فالدكتور لا يكتب للعلماء ولا للتحقيق العلمي ولكنه يقص علينا أحسن القصص وأبرعه وأروعه

إذا. . . فقل إن بالهامش أحاديث مكررة. . . إذ يحدثنا الدكتور عن سيد الشهداء حمزة عم النبي حديثاً حلواً طويلاً (ص 111)، ثم يعود فيحدثنا عن حديثاً طويلاً كذلك، بعبارات هي نفسها عباراته الأولى تقريباً في فضله عن (نزيل حمص) ص 179. وهكذا فعل في غير موضع من هذا الهامش. ولكن كيف تنكر أن هذه حسنة وليست سيئة؛ فالحديث الأول كن أكثره عن حمزة، أما الثاني فأكثره عن وحشي. مع هذا فالحديث عن الرسول وعن وأصحابه هو أعذب ما يتحدث به مسلم لمسلم، ولن يضر الدكتور شيئاً، ولن ينقص من كتابه شيئاً كذلك أن تفيض أعداد (الرسالة) الممتازة بمعظم أنباء ما تحدث إلينا به. إذ حسبنا أننا نقرأها اليوم بقلم طه حسين مبتكر هذا الأدب الديني والقصصي في مصر. . . الرجل الذي برهن بكتابه هذا على أن تصريفه لأمور وزارة المعارف لم يصرفه عن رسالته الأولى التي هي الإنتاج الأدبي القيم، كما وهم من وهم. وحسبه أن يخرج في أقل من سنة كتابين من هذا النسق القصصي الممتاز وأرجو أن يخرج الثالث قبل أن يتصرم العام، وهذا الثالث - إن لاق أن نذيع سراً ائتمننا عليه طه حسين - هو (أضياف شهرزاد)، الذي أوشك أن يفرغ منه، أو هو قد فرغ منه بالفعل. . .

ولكن الكتاب كله يوشك أن ينتهي دون أن تذكر لنا علاقة هامش السيرة بالشعر المرسل. . . فأقول. . . سوف أذكر لك تلك العلاقة بعد أن تتدبر معي هذه الأرقام، وهي التي يتألف منها معظم فهرس الكتاب:

(111 - 125 - 139، ثم 151 - 165 - 179 - 193 - 207 - 221 - 235؟؟)

فإذا قلت وما علاقة هذا بذاك، قلت لك: اطرح أي رقم سابق من أي رقم لاحق من هذه الأرقام، فإنك تحصل على الرقم (14؟) فما معنى هذا؟ أليس يعني أن الدكتور طه يؤلف وفي يده (ترمومتر) وإلا فما معناه أن يستغرق كل فصل من فصول كتابه أربع عشر صفحة بالتمام والكمال لا يزيد عليها ولا ينقص منها؟! أليس هذا تأليف ميكانيكياً؟ فإن قلت إن هذا ليس من النقد في شيء. . . بل إن هذا هو العبث، وإنك جعلت عنوان مقالك (الدكتور طه حسين والشعر المرسل) وأنت إلى الآن لم تذكر لنا من أمر الدكتور طه حسين والشعر المرسل شيء. . . قلت لك. . . إن هذا هو أسلوب النقد في مصر اليوم، ولن أذكر لك شيئاً من أمر الشعر المرسل في هامش السيرة حتى تقرأ تلك القطعة الشائقة التي أختارها لك لترى رأيك فيها، ولتعترف معي بأن الدكتور طه حسين هو كاتب من أرق كتابنا وأسلسهم، وأقواهم بياناً: إقرأ إذن:

(أقبلت تسعي رويداً رويداً مثلما يسعى النسيم العليل، لا يمس الأرض وقع خطاها، فهي كالروح سرى في الفضاء، نشر الليل عليها جناحاً فهي سر في ضمير الظلام، وهبت للروض بعض شذاها فجزاها بثناء جميل، ومضى ينشر عنها عبيره مستثيراً كامنات الشجون، فإذا الجدول نشوان يبدي من هواه ما طواه الزمان، ردت الذكرى عليه أساه ودعا الشوق إليه الحنين، فهو طوراً شاحب قد يراه من قديم الوجد مثل الهزال، صحب الأيام يشكو إليها بثه لو أسعدته الشكاة، وهو طوراً صاخب قد عراه من طريف الحب مثل الجنون، جاش حتى أضحك الأرض منه عن رياض بهجة للعيون، ونفوس العاشقين كرات يعبث اليأس بها والرجاء، كحياة الدهر تأتي عليها ظلمت الليل وضوء النهار.)

هذا يا أخي هو ما أردت أن ألفتك إليه من بيان الدكتور طه، الذي ربما تكون قد سمعت عنه أنه ينظم الشعر، ولكنك لم تقرأ له شعراً قط. . . ومن يدري. . . فربما تكون قد قرأت له شعراً في غير كتاب من كتبه، ولكنك مررت به وأنت لا تدري أنه شعر، كما كنت عسيت أن تقرأ - على هامش السيرة - كله، من غير أن تتنبه إلى أنك قد قرأت فيها شعراً. . . وشعراً مرسلاً. . . هو هذا الشعر الذي نقلناه لك هنا. . . والذي كان السبب في هذه المقدمة التي لم يكن لها (داعي!) كما نقول في كلامنا الدارج. . .

حقيقة لم يكن لمقدمتنا الطويلة التي سقناها (داعي!) مطلقاً. . . فنحن كما يعرف القراء من تلاميذ الدكتور المعجبين به، الأوفياء له. . . وليس حقاً أننا كنا نقرأ على هامش السيرة بسوء نية. . . وليس حقاً أن الدكتور يغضب من أحد إذا نقده في حدود النقد المعقول، فلا يعمد إلى الهنات الهينات فيجعل من (حبتها قبة) أو من نمالها جمالاً. . . ولا يقول كما تندرنا مثلاً. . . اطرح أي عدد سابق من أي عدد لأحق من هذه الأرقام، فأنك تحصل على الرقم 14 في كل الحالات! فما بال الدكتور طه يكتب عشرة فصول، فلا يزيد على أحدها ولا ينقص عن أربع عشرة صفحة؟ أليس يؤلف الدكتور طه وفي يده ترمومتر؟!

ليس حقاً إذن أي شيء من ذلك كان. . . ولكنا تعمدنا أن نمط هذه المقدمة مطاً، وأن ندس على القارئ هذا النموذج الذي اخترناه له اختياراً جاء عن طريق المصادفة ولم يأت عن طريق العمد. . . أردنا أن ندس هذا النموذج من بيان الدكتور المشرق، وأسلوبه المبين، وعباراته الشائقة. . . فلا يتنبه القارئ إلى أننا إنما وضعنا بين يديه شعراً. . . وشعراً مرسلاً. . . مما قاله عنه شاعرنا الكبير الذين نحبه ونمجده - الأستاذ العقاد - إنه ينبو في الأذن ولا يخف على السمع. . .

وقد لا يكون القارئ شاعراً فيعرف كيف يكون شعراً هذا الكلام الذي نقلناه من هامش السيرة (ج 3 ص 127) ولهذا فلا بأس من أن نعيد له هذا الكلام نفسه من نظامه الشعري الذي تعوده الناس:

أقبلت تسعى رويداً رويداً
مثلما يسعى النسيم العيلْ
لا يمس الأرض وقعُ خطاها
فهي كالروح سرى في الفضاء
نشر الليل عليها جناحا
فهي سر في ضمير الظلامْ
وَهبتْ للروض بعض شذاها
فجزاها بثناء جميلْ
ومضي ينشر فيه عبيراً
مستثيراً كامنات الشجونْ
فإذا الجدول نشوان يُبْدي
من هواه ما طواه الزمانْ
ردّت الذكرى عليه أساه ودعا الشوق إليه الحنينْ
فهو طوراً شاحب قد يراه

من قديم الوجد مثلَ الهزالْ

صحب الأيام يشكو إليها

بثه لو أسعدته الشكاه
وهو طوراً صاخب قد عراه
من طريف الحب مثل الجنونْ
جاش حتى أضحك الأرض منه
عن رياض بهجةً للعيون
ونفوس العاشقين كراتٌ
يعبث اليأس بها والرجاء
كحياة الدهر تأتي عليها
ظلمة الليل وضوء النهارْ!

فهذا إذن هو من نظم الدكتور طه حسين من الشعر المرسل الذي أورده في آخر كتبه - على هامش السيرة - الجزء الثالث - الصادر في أول نوفمبر سنة 1943، أي في الوقت الذي كنا نحسب ألف حساب ونحن ننشر فصولنا داعين شعراءنا لإجراء تجاربهم في هذا الشعر عسى أن يوفق أحدهم أو أكثر من واحد منهم إلى أسلوب رائع بخلو من العيوب التي يأخذها عليه النقاد المحترمون

ونحن لا يسعنا إلا أن نبدي أكبر إعجابنا بهذا المجهود المشترك الذي ساهم به زعيم النهضة الأدبية في مصر، وعميد الأدب العربي، في الثورة على القديم الذي ندعو إلى الثورة عليه وإن كنا نهتف بجميع شعرائنا أن في وسعهم أن يعطونا شعراً مرسلاً أجود بكثير جداً مما عرضنا عليهم من شعر الأستاذ أبي حديد ومن هذا الشعر الذي نقدمه إليهم اليوم فخورين من شعر الدكتور طه حسين

وبعد. . .

فأحسب أن الدكتور طه قد أعلن رأيه الآن بطريقة فعلية في الشعر المرسل، وأنه في جانبنا من قبل أن نبدأ دعوتنا. . . ونحن نقول هذا حتى لا يقعد أحد من أصدقائنا الشعراء الذين وعدوا بإجراء تجاربهم في هذا الشعر، متأثرين برأي الأستاذ العقاد، عن القيام بهذه التجارب، وذلك لما للأستاذ الكبير من أثر عميق في قلوبهم ولأن أكثرهم شعراء من مدرسته

وبقيت ملاحظة؛ فلقد كتب الدكتور طه شعره كأنه نثر فلم يوزعه شطراً شطراً كما فعلنا، ولا شك في أن غرضه من ذلك هو ألا ينبه القارئ إلى أنه يقرأ شعراً فينفر. خصوصاً إذا علم أنه يقرأ شعراً مرسلاً. . .

ولقد كنت ذكرت للقراء في إحدى مقالاتي ألا يقفوا عند آخر كل شطر، بل رجوتهم أن يصلوا القراءة حتى لا يعز عليهم الفقيد العزيز - الذي هو القافية، ويسرني بهذه المناسبة أن أقرر أن الأستاذ أبا حديد كان قد اقترح لي أن يكتب الشعر المرسل بهذه الطريقة الذي كتبه بها الدكتور طه. . . فهل هو توارد في الخواطر؟ أم أن الصديقين العزيزين كانا قد خاضا معاً مثل هذا الحديث من قبل؟!

هذا ولقد قرأنا لأستاذنا الزيات رأيه في الشعر المرسل في السنة الثانية من (الرسالة) العدد (37)، ولعله يلاحظ أن صديقه طه قد حرص في نظمه ذاك على كل المقترحات التي أشار بها صديقه الزيات منذ عشر سنوات.

دريني خشبة


مجلة الرسالة - العدد 543
بتاريخ: 29 - 11 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى