محي الدين هارون سيد أحمد - حريقٌ في مدينة الظل

"الرعبُ مِن أن يُؤكل الإنسان ليس إلا نتيجة رعب آخر أعم ، موجود في أعمق أعماق الحياة ... الرعب من أن يكون جسداً .. أن يوجد في هيئة جسد".
ميلان كونديرا

-1-

ثلاثة ألوان ، وخواء لوحة بيضاء بسعة الأفق ، بالفراغ الزمني الساقط في قاع التلاشي ، راودنه لينجز تلك اللوحة، والتي اختمرت فكرتها في رأسه منذ مدةٍ ليست بالقصيره.
كانت اللوحه عاديه وليست بالعمل الفني الذي يعول عليه ، مجرد ظلٍ يحدق في اللا شيء ، تشي اتكاءته البائسة بحيرة معلنة ، ربما عكست بعض الهواجس التي تعتري المرء بين فينتين ، أما بالنسبة إليه فقد كانت عملاً من صميم فن التشكيل ، بل ذهب به الأمر وبمجرد الانتهاء منها ، أن فكر جداياً في منحها اسماً يناسب الموضوع كما هي عادة الفنانين :
"الظل البائس"
"حيرة ظل"
"أسئلة ظلية " ...
بدت تلك الأسماء سطحيةً للغايه ، ولا تعبر عن موضوع اللوحة ، فكلما نظر إليها بدا له الظل كمن يبحث عن لغة أكثر إنصافاً من لغة الكلام ، وبعد براح من التفكير العميق ، أي بعد ان استنفذ كل العناوين المرجحه .. قرر أن يطلق عليها اسم :
(الظل الذي أرهقته أسئلة الوجود )
وجد ذلك وقعاً جيداً في خلده ، فاختار لها موقعاً مناسباً بأحد جدران الغرفة ، ألقى عليها نظرة بابتسامة تعبر عن رضا ، ثم غادر لشأن آخر كما جرت العادة.

-2-

- كم من الوقت لبثت؟ لا أدري !
مُجرداً هنا من كل تاريخ يخصني بذاكرة معطوبه، مُخضباً بدهانٍ مائعٍ في صدر لوحه عُلقت على كتف جدار ، كُدّس بلوحاتٍ وصور قديمه، تبدو أثيرةً لدى الرجل الذي أتى بي إلى هذه الغرفة البائسه، والمكتظة بالكتب ذات الغريب من العناوين ؛ المفسرون ، مديح الظل ، الحرب والسلم ... هذا العنوان تحديداً يثير حفيظتي ، يولد في داخلي مشاعر مبهمة ،كجسدي الذي كان يبهت تدريجياً قبل أن أغرق في سبات عميق هو آخر ما أذكر ،ثمة أشياء تحدث هنا تبدو مألوفة بالنسبة إليّ ، ولكنها باهتة في عميق الذاكرة ؛ كتلك القطط التي لا تنفك تتسكع في الجوار تهز ذيولها بغبط ، ترمقني بنظرات ساخره وكأنما كان بيينا شأنٌ قديم ،ولكنني لا أذكر شيئاً ، وعزائي في ذلك، بعض الأشخاص الذين ينفضون عن أنفسهم الركود الطويل بالخروج من صفحات الكتب ، نبلاء ولوردات ، أساتذة وشعراء منسيين, وبعض شبانٍ افتقدوا جادة الصواب، يروون لي قصصاً وحكايات تزيد ولعي بمعرفة الماضي، وإن هم في ذلك يُرسخون إدراكي بالمحيط ..
يحدث ذلك كلما غاب رفيقهم الذي لم أتعرف إليه بعد. وإذا ما حدث ونحوت مثلهم في الخروج ، تباغتني الحمى اللعينة في صحبة دوار مقيت، يغوص بي في عوالم من ذكريات ضبابية تاهت مني في مكان ما، إذا ماشئت التوغل فيها أكثر ،تزداد الحمى ،ويقرع الألم رأسي للحد الذي أكاد أفقد معه الوعي، مما يضطرني لأصد عائداً لمكاني في صدر اللوحة ، فاستعيد بذلك عافيتي وتعود أسئلتي بلا إجابات ...

-3-

كانت الأيام تزحف كالأفاعي المهاجرة في قيط الصحراء الى موتها الأبدي ، بما يكفي للتمرد على لعنة الروتين ، بينما أخذ الشعور بلذة الانجاز الذي كان يغمر الرسام كلما وقف أمام اللوحة ينخفض شيئاً فشيئاً ، حتى بات الأمر عادياً لا يثير فيه أي حماسة وكأنما لم تعد تعني له أي شيء..
وفي إحدى الأمسيات الهادئة ، بينما كان يتصفح أحدى المجلات الدورية التي تنقل أخبار العالم الغارق بالفوضى والحروب ، تناهى إلى مسامعه صوتٌ مجهول انبعث من أحد الجدران بنبرة يائسه قائلاً :
- ياااااه ، الحياة مملة جداً في انتظار إجابة ..
تجهم وجه الرسام وأخذ يتلفت يمنة ويسرة باحثاً عن مصدر الصوت ، كان متأكداً من أنه قد سمع أحدهم يتحدث ، وأن لا أحد سواه يقبع في المنزل في تلك الساعة ، و عندما وقعت عيناه على اللوحة تسمر في مكانه مفلتاً صفحات المجلة غير مستوعبٍ لما حدث ، لقد غير الظل وضعيته الأولى متكئاً بخده على قبضة ذراعه الأيسر ، ومرجئاً ذراعه اليمنى على سطح الفراغ بشكلٍ معاكس لما كان عليه ، ومع أن ذلك لم يغير من موضوع اللوحة ولم يخل بعنوانها الأصلي ، إلا أن الأمر أثار في نفسه الحنق بعد أن استنفد مخزونه الكامل من الاندهاش ،
- أليست كذلك ؟
تحدث الظل موجهاً نحوه السؤال ،
راح يفرك عن عينيه ويحملق في الظل ببلاهة وقد ساوره الخوف من غرابة الأمر ..
تمغى الظل متثائباً كمن ينفض عن نفسه آثار النعاس ثم أردف :
- اطمئن ياصديقي فلست أبغي سوى الثرثره
أجابه فزعاً :
- وا وا وا ولتكن ، ألست معفياً من ذلك؟
- ربما ، لو أنك وضعت عنواناً يجردني من روح الفضول..

-4-

أخذت الحوارات تدور بينهما بوتيرة منتظمه في شتى الامور، فتشتعل تاره وتنخفض تارةً أخرى ، إلى أن أصبح الأمر مزعجاً لدرجة كدرت معيشة الرسام وأرهقت خلوته في رحم الغرفة ، فاللوحة التي كان من المتفترض أن تكون مجرد تعبيرٍ فني ، أضحت كائناً يشاركه كل لحظاته الخاصة ، مما كان يشعره بأن الحجرة وحياته معاً لم تعد تخصه ، خاصة عندما يقحم الظل أنفه في مسائله الشخصيه ، ويمطره بوابل من الأسئلة التي عادةً ما تثير غيظه :
- ماذا ستفعل ليلة الخميس؟
- هل ستشتري كتاباً جديداً ثم تنساه بين رفقائه من الكتب ؟
- لماذا لا تخرج لملاقاة بعض الاصدقاء؟
- أليس لديك حبيبه؟
يحدث ذلك تحديداً في الليالي الموحشة التي يتخللها أرق مزمن يحول بينه وبين التقاط الأحلام ، وعندما يدير ظهره للظل متصنعاً اللا مبالاة بأحاديثه ، يصطنع الظل السكون كأنه لم يكن هناك ، إلا أن صدى الأسئلة تظل تردد ذاتها ملتصقة برأسه ، ولاتنفك تنهك مضجعه حتى يستسلم للنعاس. وفي أوقات أخرى لايلبث الظل حتى يخرج بحكايات عادةً ما يكون الرسام قد نسيها ، يخبره أن همبرت همبرت قد خرج من صفحات لوليتا القابعة بين رزمة من الروايات التي لم يكمل قراءتها ، ليحكي له عن ممارساته القميئة وشذوذه المثير للأشمئزاز ، بعد أن دخن سجارة ثم عاد لينام بين أحضان الكتاب ، ليتذكر أن الرواية لم تكن تخصه ولكنها وقعت في فخ التوقيت حتى عادت أدراجها بعد أن ملّت مزاجه المتقلب. أخبره بالأمس أنه خرج من إطار اللوحة مستغلاً نومه العميق ليتسكع في أرجاء المنزل وقد أنهكته الحمى التي ظل يقاومها طويلاً فاكتشف بعض الأعطاب هنا وهناك ، ثم طفق عائداً إلى صدر اللوحة ، بعد أن أزعجته القطط بمواءِها وقد أيقظت لديه ذكرى احتراق المدينة ، والتي بدورها أعادت إليه ذاكرته المفقودة...
انتفض الرسام متعجباً :
- أي مدينة وأي احتراق ؟
لحظة صمت تلقفها الظل بينما أخذ يجول برأسه متأملاً جدران الغرفة المكدسه باللوحات والصور ، ثم استطرد قائلاً :
- كان ذلك قبل قرون من السفر في أزقة الوهم ، وقبل أن أقيد بهذه اللوحة التي لم أكن أفهم ما الذي أتى بي إليها؟
- ولكنني من رسم هذه اللوحة ، لقد كنت محض فكرة في رأسي ، وشاءت الصدفة أن تمنّ علي برغبة في الرسم ، فكانت اللوحة وكنت أنت ..
عندها ضحك الظل كاشفاً عن صف أسنانه الذهبية التي زرعت الدهشة في خلد الرسام ، والذي بدا بدوره يشك في كونه ظلاً رسمه على حين ملل ، ثم أردف ساخراً :
- أتظن نفسك إله؟ أجزم أنك كنت حينها تحت تأثير الحالة التي تخلقها في النفس تشعبات الحياة ففاضت دواخلك بما يكفي لتستدعي لديك الرغبة في التفريغ ، وعندما أقول ذلك أعني التعبير عن شيء لم تكن تدرك كنهه شيئاً عصياً على الشرح .
- فلنفترض أنك على حق ، أتعني أنه كانت لديك حياة ؟
أطرق الظل في الصمت لوهلة باحثاً عن مدخلٍ جيد للشرح ، ثم التفت قائلاً :
-هل قرأت قصة اللوحة لأبرتو مورافيا ؟
ابتسامة ساخرة ارتسمت على شفتي الرسام فأجاب:
- أظنك تشير إلى لوحة الجنرال الكبير مارك انطونيو، والملكة كليوباترا ، والازعاج الذي كانا يسببانه للعم مرتيناتي بجدالاتهم المتكرره ، فبدلاً من أن تكون مجرد لوحة تضفي على صالة الطعام مسحة ارستقراطيه أضحت مصدر ازعاج له ..
-ليس تماماً ، ولكنني أشير إلى الحياة التي تكمن في اللوحات ، أولم تكن لشخوص تلك اللوحة حيواة سابقة؟
-يبدو ذلك مبراراً ، أما في حالتك هذه فأجدك ظلاً بلا ملامح ، فقط أخبرني ما قصة المدينة ؟

-5-

أخذ الظل بحدق في المجلة التي لم يعبأ بها الرسام منذ أول حديث جرى بينهما ، متأملاً الخراب والفوضى العارمة خلف جنديين يركلان شاباً أعزل في مظاهرة ما ، اُلتقطت كصورة للغلاف ، ثم قال:
- كان ذلك عندما كنت ظلاً لرجلٍ ذي شأنٍ عظيم ، كان قائداً للفيلق الخامس ، والذي كانت مهمته حماية المدينة من أي غزوٍ محتمل ، كنت أرتدي درعاً وأعاشر ظلال الحسنوات اللاتي يضاجعهن سيدي في لياليه الماجنة ، وبرغم كل تلك المتع المتاحة إلا أنني كنت مرهوناً بشكل حياة السيد ؛ أمتعض ، أغضب ، أبكي بلا دموع ، أمتطي ظلال الخيل وفقاً لمزاجه ، ولنقل أنه كان منتظم المزاج الى حدٍ مزعج ، إلى أن حدث وقرر أحدهم نشر الخراب في مدينتنا الهادئة ، ذات ليلة مشؤمة كانت أشبه مايكون بلوحة صاخبة لرسام غاضب ، فالسماء بظلمتها الحالكة كانت تعكس لهيب النيران المتكومة فوق المدينة ، كمخلوق كبير يلتهم المنازل والأبنية ، بفجع مفرط ، كأنها خرجت من مجاعة أو صيام طويل ، صراخ الأطفال وعويل النساء الذين اختقوا بكثافة الدخان كان يعزف كموسيقى تراجيدية على وقع الاقدام الهاربه و الانفجارت العشوائية .. يومها تجرعت الارض انهاراً من الدماء كما يكرع العابثون كؤوس النبيذ في بحثهم المضني عن اللذة ، تساءلت حينها عن مصير قومي الذين يتبعون أسيادهم العزل وهم يُقتَلون ، ترى هل سيتلاشون مع صعود أرواحهم إلى السماء؟! وبينما كنت أغوص في وحل السؤال ، قُتل سيدي بعد أن أزهق روح عشرين مخرب ، رأيت ظلالهم فرحة وكأنما أنتصر لهم ، حينها حدث مالم يكن في الحسبان ، إذ وجدتني انتزع انتزاعاً من جبين الأرض ، يملأني الهواء فأتنفس، وإذ بالعروق تنبت في جسدي بشكل مهيب ، حتى برك الدماء التي اصطبغت بلون الشمس الغائبة ، راحت تتسرب من تحت الجثث و الأقدام لتملأ تلك العروق وتمنحها الرغبة في الثائر .. كان ذلك يحدث بتلقائيه مع كل ظل سقط صاحبه صريعاً.
- كل ماسأفعله بعد اليوم سأفعله بمحض إرادتي ،
شيء ما ردد في داخلي تلك الجملة ، التقطت سيف القائد وكلي رغبة في قطف الرؤوس ، وراحت ظلال الأموات تلتقط سيوف القتلى وحرابهم كما فعلت ، لأجدني قد انتقلت من موقع التابع إلى حيز السيادة ، وعندما رأى المخربون ظلالهم تتقافز من بينهم لتنضم إلينا ، ونيران دمارهم تنفث فينا الرغبة في المزيد ، تسمرت أقدامهم ، وقد أصيبو بما يشبه الشلل ، باتوا هم الظلال ونحن الأجساد ، عندها سحقناهم دون أدنى مقاومة ، وفي الطريق إلى قصر السلطان بأجساد باهتة توارد إلى مسمعي حديث قطتين عن ثورة موؤدة ..
هالة من صمت مطرق شلت موكب الحديث لوهلة ، قذفها الرسام بسؤال من تاق للنهاية:
- قطتين !! ماذا حدث؟
- إن الحياة مملة جدا في انتظار إجابة.!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى