كاهنة عباس - حين يتأنث العالم..

حين يتأنث العالم يفصح عن أسراره ، ليبوح بشقائه وهوسه ومظالمه ، فيخف الصراع والتناحر وتنساب بين الدروب والأزقة حركة متناغمة تجمع بين النقيضين، فيهفت الصراخ ويختفي البكاء والنحيب وتنسجم الأجواء يحملها الريح، إذ يصبح الإنسان واحدا بعد أن كان ينتمي إلى جنسين مختلفين.
و قد يوحي تأنيث العالم بسلطة الماء وما يكتنفه من صمت ، أي إلى كل ما لا يدرك وما لا يرى مع ما يفترضه من مرونة وانتظار، لأنه الأصل والعمق لا يحتاج إلى من يرسخه ولا إلى من يؤسسه أو يسميه ،فهو مصدر الحياة مستغن عن القهر والظلم .
فتأنيث العالم لا يحتاج إلى اللغة ولا الفكر ،ولا إلى من يمثلهما ، لأنه لا يلتجأ إلى التجريد لاكتشاف الحقيقة و امتلاكها ، فلا التفوق يعنيه ولا الهيمنة ولا التحكم في تفاصيل الأشياء ولا في تسييرها.
حين يتأنث العالم ، تبرز في الأفق عهود لزمن مغاير تصاحبها إمكانيات أخرى للوجود، ليست مهوسة بالسيطرة باعتبارها الصيغة المثلى لتحقيق الذات والوجود .
حين يتأنث العالم يختفي هرع الإخصاء والعجز والانهيار وما يصاحبها من أسطورة القوة والقدرة المستمرة على السيطرة والتغيير ،ويختفي معها هوس الاغتصاب والاستعمار والتسلط والاستيلاء باعتبارها مصدر للمتعة والتلذذ بإذعان الطرف الآخر.
حين يتأنث العالم يحتفل بالذكورة ويتقبلها لأنها الوجه لكل ما وجد وسيوجد، الحياة بمنطق التوغل والمغامرة والولوج ،و لان العالم لا يتجزأ إلى صفات وقدرات وصراعات وتصنيفات ذكورية وأنثوية وإلا لانهار لتوه ،بل هو توازن رهيف يخترقه من حين إلى آخر العنف، دون قيامه على التفرقة بين الضعف والقوة ،إنه بعيد كل البعد عن تصوراتنا و قيمنا وما نعتبره خيرا أو شرا.
تأنيث العالم قد يغير المعادلات ،بأن لا يفرض القانون بالقوة لأنها لا تمثل الحق والعدل .
تأنيث العالم يجعله يحتكم إلى الطاقة المبدعة ، لا إلى الدمار الذي ما انفك يشيد مدنا تقوم على الخوف والاضطهاد .
تأنيث العالم لا يعني أن تتحرر المرأة من قهر الرجل وسلطته فقط ، بل تعني أيضا أن تسترد ما ضاع منها من شاعرية وأن تقول العالم بكل ما أوتيت من وجدان ورأفة وسخاء ومحبة وتضحية وعطاء ...أن تقوله بلغتها الغابرة تلك التي تفقه ما يتجاوز الكلام وما يخترقه من إحساس .
أن يتأنث العالم معناه أن يسترد توازنه الرهيف بإدراك أنه قد يقوم على ريشة تائهة في مهب الريح ، وأن الماء رقيق، والريح لا ترى، وأن النار سرعان ما تتحول إلى دخان فتتبخر ، وأن القوة والضعف متلازمان ومترابطان ، تجمعهما جدلية لا تنتهي ......
حضارة كاملة نبعت من التوحد والأحادية لما رواه الرجل على نفسه من حكايات وقصص أوهمته ببطولة مستمرة، حضارة لم يتكلم فيها غيره ،ولم يبدع فيها غيره، ولم يؤسس فيها غيره، ولم يؤرخ فيها غيره ، بحثا عن حقيقة هو أول من سعى إلى إخفائها حتى يبحث عنها .
كاهنة عباس .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى