دريني خشبة - شعراؤنا والناقد العبقري..

لن أثور كما ثار الدكتور مندور يا حضرات القراء، ولن أسمح لأعصابي أن تتمزق على هذه الصورة المضحكة التي تعرض صاحبها لرثاء قراءه وطلبهم المغفرة له، وذلك لأنني دعوت الأدباء في مصر أن يضبطوا عواطفهم - في الصيف - وما كنت أظنهم يهملون صمامها ونحن على أبواب الشتاء

وقد قدح الدكتور مندور فينا بالذي قدح، غير أننا نثني عليه بما هو له أهل من أكرم الثناء. . . فقد سعدنا بصداقته قريباً، ودافعنا عن رجولته التي غمزها صديقنا الكاتب المعروف الذي أغضبه منا هذا الدفاع، وعزاه إلى خصومة قديمة توهمها بيننا وبينه، مع أننا أزهد الناس في الخصومات الأدبية وأحوجهم إلى معونة الأدباء بصدد الدعوة التي ندعو إليها

نثني على الدكتور مندور فنقرر أنه أعلم منا بالموضوع الذي أثرناه له ووجد فرصته فيه، فانطلق يكتب هذه الفصول القيمة التي سنقرأها وحدنا - أو مع خمسة أو عشرة على الأكثر من حضرات القراء الذين يعنيهم هذا الموضوع

الدكتور مندور يا حضرات القراء أعلم منا في موضوع أوزان الشعر الأوربي لأنها من ضمن ما تخصص حضرته فيه، ونال عليه الدرجات العلمية العلى، فهو إذا تكلم فيها، تكلم عن علم وبصيرة وخبرة

لكننا مع هذا لا نرى أن يمنعنا أحد من التكلم في أي موضوع نشاء، إلا في الطب والهندسة والصيدلة والكيمياء، وما إلى ذلك من الموضوعات التي لا تصلها بالأدب صلة، فهل أعاريض الشعر من هذا القبيل؟

سيقول الدكتور مندور، أجل، هي من هذا القبيل، بدليل أنك تكلمت في طرف ضئيل منها ومع ذاك فقد (أخطأت وأوهمت وتوهمت وضللت وضللت وموهت ولم تتحر الدقة بل ترديت في الخطأ البين في أبحاثك التي تحشدها. . .) إلى آخر هذه المجموعة الوافية من العبارات الشافية الكافية التي أسبغها علينا الدكتور الصديق محمد مندور، الذي كنا نتمنى أن نراه وهو يكتب هذا الفصل المنفعل الصاخب الظريف الذي صب حممه فوق رأسنا! وقبل أن نداعب أخانا مندور بما هو له أهل من المداعبة، وقبل أن نكشف الغطاء عما هاجه علينا وأحفظ صدره منا، نتناول تجهيلاته التي جهلنا بها، فنرى كيف أوقعتنا المقادير في ظلماتها حتى أعمتنا - والعياذ بالله - هذا العمى المطلق الذي لم تره غير عين صديقنا العزيز

عندما قلنا إن أساس العروض الأوربي هو التفعيلة لا البحر فهم حضرت صديقنا العروض المحترم أننا ننكر وجود البحور في الأعاريض الأوربية وعلى هذا بنى بحوثه القيمة، مع أننا ذكرنا كثيراً من هذه البحور في الحاشية التي أثبتناها في ذيل مقالنا وقلنا إن هذه التفعيلة هي أساس البحر (الفلاني!) ومن هذه التفعيلة ومن تلك يتكون البحر (الفلاني)، وإنما قصدنا بأن التفعيلة هي أساس العروض الأوربي أن الشعراء هناك أكثر حرية في استخدام هذه التفاعيل فلا يتقيدون بعددها في السطر (أو البيت) كما يتقيد شعراؤنا هذا التقيد الذي عبناه عليهم ولا نزال نعيبه عليهم. فمجرد (توهم) أننا ننكر وجود هذه البحور هو دليل الأعصاب الممزقة الموجدة التي تأكل قلب الصديق الحميم علينا للسبب الذي سنبينه بعد أن نرد ترهاته كلها. والمقال موجود أيها القراء بالرسالة (العدد 538)، فقوله إذن إن كلامنا لا معنى له مطلقاً وهو كلام يشبه الهوس، ونحن مع ذلك نعذره لأن معرفتنا بالدافع الذي أطلق لسانه فينا يفقد العقلاء عقولهم. وقد منعنا من تناول هذه البحور بالشرح الذي شمر له صديقنا الحميم عن ساعد الجد ما قلناه في صلب المقال من (أنه ربما لا يسر القارئ، بل ربما يضايقه جد المضايقة أن نخوض به في شيء من معميات العروض الإنجليزي). . . وربما أوهم اقتضابنا هذا لذاك السبب أننا (إنما نوهم ونتوهم أننا نعرف شيئاً. . .) إلى آخر هذا السفه الذي نمر به كراماً لأن صديقنا الحميم قاله في ساعة من ساعات الانفعال الذي سنذكر سببه كما قلنا

ويعيب علينا السيد مندور أننا قرأنا المعلومات التي سقناها في كتيب من كتيبات العروض ثم استعنا في شرحها بالقاموس؛ وهذا، لو أنه حصل، لا يضيرنا قط، ولكنه يضير الصديق الحميم كثيراً، لأنه يدل على أنه كان فاقداً لتوازنه وهو يكتب هذا الهذر، إذ كيف يقرأ الإنسان في كتاب من كتب العروض، ثم يحتاج إلى القاموس مع أن كتب العروض الإنجليزي لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا تناولتها بالشرح. . . على أنني أفهم لماذا يعيب السيد مندور الرجوع إلى القاموس أو الاعتماد عليه في شرح كلمة من الكلمات؟ هل ذلك لأن المعلومات التي في تلك القواميس تكون خطأ عادة؟ وكيف يا أخي يصح هذا؟ وكيف يا سيد العروضيين تغفل إنجلترا ويغفل الإنجليز عن هذا الخطر الذي جاء السيد مندور ليكتشفه لهم صبيحة يوم الأحد في السابع من نوفمبر سنة 1943؟! تالله لقد نبهتني إلى (قفشة) أقفشها لك، فقد أحسست من ثنايا كلماتك أنك رجعت إلى تلك القواميس كما لم يفعل العبد الفقير إلى الله، لتنظر في معنى بعض تلك (المعميات) كما سميتها أنا رفقاً بالقراء، فلما وجدت القواميس تنصر حقي على باطلك، وتواضعي على ادعائك العريض، عجلت فأردت توهين هذه الحجة التي أقذف الآن بها عليك لتدمغك، بالرغم من درجاتك العلمية الجامعية التي لا أنكرها قط، ولا أقدح فيها قط

اسمع يا صديقي الحميم ما جاء في قاموس القرن العشرين في مادة:

, ,

ومعنى هذا اللغو (في نظر الأخ مندور) أنه بحر (من بحور النظم) يتركب من اثني عشر مقطعاً، ست تفعيلات إيامبية، وقد سمي كذلك من أجل ما استعمل فيه في القصائد الفرنسية القديمة، عن الإسكندر الأكبر وهو البحر الشائع في المأساة الفرنسية

فهل قلنا نحن غير ذلك يا سيد مندور؟ إليكم ما قلناه أيها القراء، مما نقله الدكتور الفاضل بقلمه عن مقالنا: (ويفضل بعض الشعراء البحر الإسكندري، نسبة إلى الإسكندر الأكبر والقصائد التي نظمت فيه من هذا البحر. ويؤثر شعراء المأساة الفرنسيون النظم من هذا البحر إطلاقاً، وهو يتكون من اثني عشر مقطعاً (ست تفعيلات إيامبية مقطعين)

فأينا الذي لم يتحر الدقة ووقع في الخطأ البين كما قال الدكتور مندور الذي نال درجاته العلمية في هذا العلم؟ أينا المخطئ أيها القراء؟ أنا أم قاموس القرن العشرين، أم الدكتور مندور الذي تخصص في أعاريض الشعر قديمها وحديثها؟ على أننا نرجع إلى لاروس - القاموس الفرنسي المحترم - لنرى ماذا يقول هو الآخر: فهو بعد أن جاء بالرواية التي ذكرها السيد مندور، ويضيف إليها أنه يتركب من اثني عشر مقطعاً كما ذكرنا نحن وأنكره الأخ العزيز المتخصص في أعاريض الشعر، يقول:

' , ' , , فأين الخطأ البين الذي وقعنا فيه يا عالم؟! لعل الأخ مندور - المتخصص في الأعاريض بأنواعها - أخذ علينا نسبة هذا البحر إلى الإسكندر من القصائد التي نظمت فيه من هذا البحر وعدم نسبته بالذات إلى أل ' فاسمعوا يا أصدقائي القراء - وأنا في حاجة إلى تملقكم بهذه النداءات الظريفة - ما تقوله دائرة المعارف البريطانية عن هذا البحر، فهي بعد أن تذكر أنه هو البحر الرئيسي في الشعر الفرنسي، وأنه يستعمل عادة في الشعر القصصي والمآسي والملاهي الرفيعة، تقول عن أصل تسميته:

, 13

ومعنى هذا: أنه يوجد بعض الشك بالنسبة إلى منشأ اسم هذا البحر إلا أن أكثرها احتمالا أنه مشتق من مجموعة من الروايات الشعرية ذاعت إبان القرن الثالث عشر، وكان الإسكندر المقدوني بطلها.

فما رأي الأستاذ مندور في هذا الهذيان الذي لغت به دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تصنيفها ساداتنا جميعاً من علماء الأمة الإنجليزية، والذين هم بلا شك أساتذتك وأساتذتي في العروض وفي العلم وفي الأدب وفي ضبط الأعصاب أيضاً! إنهم لم يقصروا تسمية هذا البحر كما فعلت أيها المتخصص في الأعاريض الأوربية التي ذكرت والتي ذكرها لاروس، بل قالوا كما قلنا - نحن الفقراء إلى الله الذين لم نتخصص في هذا العلم، لأنه، وحياة ذقنك، لا يحتاج إلى هذا التخصص أبداً، قالوا إن ثمة شكاً في أصل هذه التسمية، وإن أكثر الروايات احتمالا نسبته إلى ال التي نظمت في الإسكندر المقدوني

فأين إذن عدم الدقة، وأين إذن هذا الخطأ الفاحش الذي تردينا فيه، وأين هو التوهم والإيهام والظلال والتظليل، وما نتخيله من أننا نعرف شيئاً ونحن لا نعرف شيئاً قط؟! عفا الله عن مستر هايد الذي كان يلقي عليك هذه الوقاحات يا دكتور جيكل، في ساعة من ساعات عدم الوعي التي يذكر إخوانك أنها كانت تنتاب جيكل المسكين كلما طار أحد أبراج عقله الجبار. . .

أما تعبيري عن المقاطع بالطول والقصر وأنه لا ينطبق (بسهولة) على العروض الإنجليزي فقد آثرته ليفهمه الشعراء الذين اكتب لهم ممن درسوا أعاريض الشعر العربي ولم يلموا بلغة أجنبية، وسأجعلك تطير من الفرح حينما أنقل لك هنا تفسير أحد القواميس التي لا يعجبك النقل عنها لإحدى التفعيلات، كي تقول لقرائك ألم أقل لكم إن جل اعتماده على القواميس!

اسمع ما يقوله قاموس القرن العشرين في تفعيلة

- ,

أي:

فهل قلت أنا غير هذا الذي قاله هذا القاموس الجاهل أو دائرة المعارف التي ليس عندها علم السيد مندور؟ ولقد ضربت لذلك مثلاً لاحظت فيه أن يشمل الارتكاز الذي نبه إليه حضرة الناقد اللوذعي فقلت مثل: (ريعانه)، ولاحظت وجود الارتكاز في كل ما ضربت من أمثلة عربية

وبعد. فماذا بقي مما جهلنا به السيد مندور لم نرد عليه؟

وبعد أيضاً. . . فماذا يقول القراء في سائر الآفاق عن هذه اللهجة التي ينحط إليها أدب المناظرة في مصر؟

وبعد. وبعد؛ فما سبب هذا الموقف الذي يقفه منا فجأة هذا الدكتور مندور؟

اسمعوا إذن يا حضرات القراء

ليس صحيحاً أنه يقف هذا الموقف لأنني دافعت عن رجولته التي غمزها هو نفسه بالذي غمزها به صديقنا الكاتب المعروف، كما يتفكه أصدقاؤه وأصدقائي في القاهرة. . . وليس صحيحاً أننا نقتسم فيما بيننا تركة، فالدكتور ليس من أقربائي، وإن كان ذلك كان يسرني ويشرفني

ولكن المسألة أن الدكتور مندور يدأب منذ طويل في الطعن على شعرائنا المصريين بدون استثناء. وتجريحهم، والحط من شأنهم، بل في تجريدهم من شاعريتهم، وتفضيل شعراء المهاجر عليهم، أولئك الشعراء الذين نجلهم ونحبهم ونعرف لهم فضلهم ومعاونتهم في نهضتنا العربية الأدبية الكبرى. . . لكن أحداً لم يذهب إلى تفضيل هؤلاء الشعراء الأفاضل عامة على شعرائنا عامة غير الدكتور مندور، وهو يستشهد في هذه الدعوى بقطع تدل على مبلغ تذوقه للشعر، ومدى مقدرته على الموازنة بين الشعراء. وقد غضبنا لهذه الخطة الجائرة لا تعصباً أعمى لشعرائنا، وإن يكن التعصب البصير ديناً لهم في أعناق الكتاب المصريين جميعاً، ولكن لأن الدكتور قد جاوز حد الدعابة إلى حد الجد، وأقول حد الدعابة، لأنني حسبته إنما يداعب شعراءنا أول الأمر، ولأن الموازنات التي ذهب إليها كانت كثيراً ما تغثي النفس وتقبض القلب، وتتعمد الغض من أقدار الشعراء المصريين تعمداً باطلاً بلغ حد الخطورة على سمعة الأدب المصري والشعر المصري، الذي هو مع ضيق آفاقه التي نشكو منها دائماً، ألمع مظهر من مظاهر هذا الأدب

ففي مقالنا عن - تجديد الأدب العربي - بالعدد (535) من الرسالة، كتبنا كلمات ثناء في شعرائنا الشيوخ ننفي بها ما كان يحتمل أن يفهم من أننا نقصر الرجاء على شعرائنا الشباب في القيام بتجديد الشعر العربي شكلاً وموضوعاً، فلما بلغنا الكلام عن الأستاذ العقاد قلنا إننا كنا نضع فيه أملنا للنهوض بأعباء تلك الثورة، لكن أملنا هذا - خاب - بهذا التعبير، حتى لا يظن أحد إنما نحتمي بأحد من ردنا على صديقنا مندور. . . وذلك لأن العقاد آثر أن يسلك الطريق القديمة للشعر العربي شكلاً وموضوعاً. . . ولكننا قلنا قبل هذا في المقال نفسه. . . (أما العقاد العظيم فهو شاعر المعاني غير مدافع، والذين زعموا أنه لا شأن له بالشعر هم قوم قليلو البصر بالشعر، بل ربما كان الأحسن ألا يكون لهم هم شأن بالشعر، ولو أن العقاد كان يعنى بديباجته وتجويد أسلوبه الشعري لخر أمامه أولئك النقاد جثياً. . .)

هذا ما قلناه نثبته هنا لأنه هو الذي أحفظ علينا الأستاذ مندور وذلك لأنه هو قائل تلك القولة الجريئة التي تدل على قيمة أحكامه (المائعة!) كما عبر عنها مناظرة الأستاذ المعروف، والتي يصدرها في غير وعي ليهدم أمجاد شعرائنا والعقاد ومدرسة العقاد في مقدمتهم. . . الدكتور مندور هو الذي قال: إن العقاد لا شأن له بالشعر، وهو قول يكفي للرد عليه أن نقول ما قلنا، لأن الذين يقولون هذا هم قوم لا بصر لهم بالشعر حقاً، بل ربما كان الأفضل ألا يكون لهم شأن بالشعر على الإطلاق. . . نقولها اليوم صرحاء بعد إذ كنا نلمح بها تلميحاً عسى أن ترعوي تلك الطائفة من الكتاب الذين لا هم لهم إلا هدم شعرائنا الذين نعتز بهم جميعاً وبلا استثناء لأنهم أعز علينا من ألف كاتب فج من أمثالهم. . . ونحب أن نطمئن قراءنا وأن نطمئن الصديق الحميم الأستاذ مندور، فنحن لم نر العقاد في حياتنا إلا مرة واحدة في مأتم، ولسنا نطمع في صداقات جديدة بعد الذي بلوناه من صداقة السيد مندور، ولكننا مع ذلك نعرف العقاد ونقرأه من نحو ثلاثين عاماً وقد كتبنا عنه سنة 1930، إذ هو سجين في ذلك الوقت، مقالاً تجفل منه الأبالسة، بالمجلة الجديدة قدرنا فيه العقاد الشاعر والعقاد الكاتب، مما كان سبباً في الأخذ بتلابيبنا في ذلك العهد الرجعي الأسود لا أعاده الله. . . ومع ذاك فنحن ما زلنا نقول إن العقاد خيب آمالنا فيه، وعسى أن يسعدها إن شاء الله، أما أن نقول إنه لا شأن له بالشعر، فنكون مجانين - نحن فقط دون تعريض بأحد - إذا لغونا بذلك مع من يلغون به. . .

والعقاد على هذا من (الشعراء الكبار الذين يعجبوننا) كما زل قلم السيد مندور في مقاله ليسجل على نفسه الداعي الذي دعاه إلى كتابة ما كتب. وفرق بين أن يتفقه المرء في أعاريض الشعر، وبين أن يكون شاعراً، أو أن تكون له موهبة تذوق الأشعار وإصدار الأحكام عليها

وسنأخذ قريباً إن شاء الله في نشر دراسات هادئة لكثيرين من الشعراء المصريين شيبهم وشبابهم لنبصر الذين كفروا بأمجاد الوطن بما ضلت أعينهم عن إدراكه من آيات العبقرية المصرية

وبعد... فإني أعتذر للقراء عما فرط به قلمي من لغو القول في هذا الحديث ولن أرد على لغو آخر قط.

دريني خشبة

مجلة الرسالة - العدد 542
بتاريخ: 22 - 11 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى