محمد جمال - الرسالة الغرامية الخطرة أو الفتنة!

أول رسالة غرامية وصلتني في حياتي كانت من صبية شقية جميلة تكبرني بسنة واحدة إذ كان عمري آنها أحد عشر عاماً. كانت الرسالة من سطر واحد، كلمة واحدة: "أحبك".
وتحت الكلمة الرقيقة الرهيبة الأكثر إرهاباً وعنفاً في تاريخ البشرية كان هناك رسم صغير من تحت الكلمة الرهيبة مباشرة: قلب أحمر يخترقه سهم أسود.
الأمر حدث فجأة وبلا مقدمات ما عدا قليل من "البروفات" إذ رمقتني الصبية في السابق عدة مرات وأذكر أننا عند السنة الثامنة من عمري لعبنا لعبة عريس وعروس. وكانت الرسالة معطرة، لا أدرى إن كان العطر صدفة أو الصبية ذات خبرة ما وربما واسعة الخيال!.
عندما سلمتني الصبية الصغيرة الرسالة الأخطر في تاريخ حياتي كنا أن تصادفنا في منتصف الطريق ونحن عائدان من المدرسة.ا
كانت الصبية واجفة وخائفة ومتعرقة اليدين لكنها عزمت وتوكلت على أمر جلل ومصيري لا بد من إنجازه!. وعندما شرعت أفتح الرسالة في التو كانت هي قد خطت عدة خطوات في الزاوية المختلفة عن طريقي فناديتها اسألها "هل هي لي؟" أعني الرسالة!. فأجابت الصبية الجميلة بغير كلمات عبر نغمة صوتية واحدة خجولة مكتومة صادرة من جذع الحلق "إيييه" مع هزة خفيفة للرأس ففهمت بكل تأكيد أن الرسالة ذات الكلمة الواحدة الرهيبة لي، يا للهول!، لكنني لم إستطع فهم معنى السهم الذي يخترق القلب، فهممت بسؤالها من جديد "هل الرسم أيضا لي؟" لكنها مضت.
وعندما غابت الفتاة من عيوني قرأت الرسالة ذات الكلمة الواحدة الرهيبة والرسم من جديد، قرأتها ربما سبعين مرة وفي كل مرة تتعثر الكلمة في خاطري ويزداد تلغز الرسم!.
في القراءة الأخيرة شعرت بأن حياتي مهددة بالخطر لا أعرف كيف!. وعندما وضعت الرسالة في جيبي الصغير في الجانب الأيسر من قميصي أهتز قلبي الصغير بشدة إذ شعرتني أحمل مخدرات وغشاني بغتة هم عظيم فهممت بتمزيق الرسالة الأولى من نوعها في حياتي والأكثر خطورة والتي جاءت ربما قبل وقتها المناسب!. كنت أسمع من الكبار أن مثل تلك الامور تصنف في أفعال "قلة الادب" فإن كشفها أهلي إذن ستكون العواقب وخيمة، كونها ملهاة أبدية من وجهة نظرهم وهم يريدونني أن أكون تلميذاً مثالياُ وإلى أبد المراحل الدراسية وربما كل حياتي.
غير أنني في النهاية من دافع الفضول وعدة أحاسيس أخرى منوعة كلها غير مفسرة قررت الإحتفاظ بالرسالة الخطرة!. لكن تحتم علي أن أجد مكاناً آمناً لدسها به فغيرت مساري إلى منزل أحد اصدقائي المقربين وكان يكبرني بسنتين وفي خاطرة خطة إنقاذية عاجلة لم أخضعها لكثير من التمحيص والنقد، ليس بالمستطاع!. فأخبرت الصديق بالقصة بينما أنا أحاول جهدي إمتثال العادية فجحظت عينا الرفيق وهو يفغر فاه دهشة بينما هو يستحلفني متسائلاً "قل والله؟"، "أيوة والله، وهذه هي الرسالة". تركت عنده الرسالة أمانة بعد أن وعد صديقي بالحفاظ عليها في مكان خفي آمن.
عدت إلى منزلنا متأخراً عدة ساعات فوجدت أمي قلقة بشدة فلم يكن أمامي حل غير أن أكذب عليها. في مساء اليوم ذاته تفشى الخبر وبدأت ملامح أزمة كبيرة في الأفق عندما جاء إلى بيتنا إبن خالتي الصغير يسوقه الفضول يستفسر عن حقيقة الواقعة العظيمة فما كان مني إلا ركضت مذعوراً في طريق الكائن الذي أمنته الامانة فأجابني بهدوء ساذج: "أنت اتفقت معي على إخفاء الرسالة كورقة ولم تقل لي أنك لا تود الناس أن تعرف الحكاية كحكاية"!. ثم أقر بأمر لا يمكن إنكاره أنه روى الحكاية لأقرانه من فريق كرة القدم نهاية أصيل ذلك اليوم. فكانت فتنة هي الاعظم في تاريخ طفولتي وصباي إنها الفتنة الكبرى!.
وعندما بلغ الخبر مرساه تعرضت لتحقيق مكثف من أمي فساقتني ممسكة بشعر رأسي وهي تولول إلى أبي الذي لطمني بشدة على خدي ومن بعدها تم تحويل الملف برمته إلى شقيقي الاكبر بغرض القيام بالإجراءات اللازمة والصارمة التي من شأنها الحيلولة دون تكرار مثل تلك الموبقات التي تصنف في خانة واحدة مع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وربما أشد رجساً.
وفي تزامن مع الإجراءات القمعية التي كانت تمارس على الضحية كان يتسلل فوق العادة عدد كبير من تلاميذ المدرسة من الحلة والحلال المجاور إلى الفسحة الواقعة أمام دارنا يتحججون بلعبة شليل وكان في الحقيقة كل منهم يود أن يتحقق من الحكاية الشهية "الشمار"!؟
وفي المستقبل كان يأتي لمدة عدة شهور لاحقة عدد من الأولاد الصغار الأشقياء من الحلة والحلال المجاور إلى بيتنا يرغبون في قراءة الرسالة الخطرة التي لم أرها منذ أن أمنتها ذلك الصديق الذي وشى بي.
وأما الفتاة بطلة القصة في الأساس فالأمر كان أشد باساً وبؤساً ومأساة في حقها إذ تم إتهامها من خالاتي وعماتي وآخرين بقلة الأدب وأنها بنت غير "مربية" وتم الطعن في أصلها وفصلها تعسفياً. وعلم الناس في المستقبل أنها كانت تجلد على يديها ورجليها لمدة ثلاثة أيام بواسطة أبيها وشقيقها الأكبر. ولم تستطع مواصلة الدراسة لمدة ثلاثة أشهر تالية مما حتم عليها تجميد العام الدراسي. وعندما عادت إلى المدرسة تعرضت من جديد إلى تحقيق مكثقف من ناظرة المدرسة وتم جلدها من جديد من الناظرة بعد إقرار ثلاثة أرباع بنات الفصل بسماعهن للقصة المرعبة!.
وطوال العقد المقبل من حياتها ظل الناس ينظرون إليها بعين الشك والريبة وبالتالي تحددت حركتها وآلت حريتها الشخصية إلى درجة الصفر.
وعندما بلغت أنا الواحدة والعشرين من عمري عندها فقط رددت على تلك الرسالة حينما رأيتها في مناسبة عرس من جديد، فتاة في غاية الرقة والجمال وعلمت أنها تكتب الشعر والقصة فبهرتني شديد الإبهار. كتبتها رسالة أشبه بالإعتذار من عشر صفحات تضمنت شرحاً وافياً لملابسات الجزء الذي كان خافياً عليها من الحكاية كونها كانت تتصور إنني أنا الذي وشيت بها وجئت بالرسالة إلى أمي وقلت لها ان "فلانة" قليلة الأدب سلمتني رسالة قليلة الأدب ولم تكن حبيبتي حتى تلك اللحظة تعلم أنني بدوري كنت ضحية بإمتياز وإن لم يبلغني أذى بقدر ما وقع عليها. وكتبت في ختام رسالتي تلك كلمة واحدة هي الكلمة ذاتها الخطرة "أحبك" ورسمت قلب أحمر يخترقه سهم أسود وعطرت الرسالة بعطري الذي أحب!.

محمد جمال
  • Like
التفاعلات: Maged Elgrah

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى