نقوس المهدي - تراجيديا بزمن الحزن.. أو "محاولة لكتابة سيرة عباس الأول".. ( أول قصة )

"وطني أيها الذئب المتلوي كشجرة إلى الوراء
إليك هذه " الصور الفوتوغرافية"
للمناسف والاهراءات
وهذه الطيور المغردة ، والأشرعة المسافرة
على " طوابع البريد"
إليك هذه الجحافل المنتصره
والجياد الصاهلة على الزجاج المعشق
ووبر السجاد"
محمد الماغوط - المصحف الهجري

1-
أوى عباس إلى فراشه مبكرا، بعد أن قرأ سورة من كتاب رأس المال ، كان يختزن مشاعر مضنية جدا ، لم يكن يرتسم على عينيه غير النعاس ، لم يأكل شيئا ، ود فقط أن يستريح ليمارس هجرته الأسبوعية ، كان يشبه إلى حد كبير أبطال الروايات العظيمة، ويتراءى لمن يشاهده عن كثب انه صحيح معافى ، وكان في كل ذلك عاشقا أصيلا للموسيقى والشعر والفن التشكيلي ، و خيالاته تبدع له آمالا كبيرة، لهذا السبب و دون غيره تعددت نشاطاته و مواهبه
يكتب الشعر
ويرسم لوحات يستلهم ألوانها من الحيرة والضياع والهوان الجاثم على سحنات أبناء الريف ..
ويعزف على قيثارة صمم أوتارها من نياط قلبه ليفشي عذاباته
ويجيد الرقص على إيقاع موسيقى (عيساوة)*
ويعطينا امثلة عن لوركا وبريشت وبيكاسو وجواد سليم جواد وطرفة ابن وردة
لذا اقتنى الجورنيكا وتحت بوابة فائق حسن وأغاني الغيوان وحفظ عن ظهر قلب معلقة طرفة.
حدث أن سأله أخي الصغير عن معنى الجورنيكا
أجابه الأكبر منه على الفور
- لعلها مكان سياحي
- وطرفة بن العبد
- ملك من ملوك الحبشة
غير أن جدي لم يعرهما اهتماما وشرع يترنم بقصيدة مراكش التي مطلعها :

( في الأفق الشاسع انتشرت سرابا تدوسين صمت الفيافي وشريان قلبي،
تمرقين كانفلات الضوء وليونة الماء،
ناديتك حتى جف مني الحلق وتيبست الكلمات،
كانت الريح تمشط أهدابها وتصهل
فيما كانت الهضاب ترتجف من عفونة الخوف
الأبدي الذي اخبرني الوطن، الأم ، الحب انه يخرج من بين الصلب والترائب
فاختليت بها بحوار عن المجد
أشرت إليها فاهتزت فكنت أنت من استدارة الخبز، وتجويفة الجوع..)*

2-
المعروف عن عباس انه أول من فكر في نظرية التطور قبل لامارك وداروين حينما اعترف بأنه يقدس الحياة العائلية، ويعتبرها أكبر ورطة إنسانية في التاريخ، لأنها كما قال "فوكنر" السبب الحقيقي الذي سيخلد الجنس البشري ، فقدم إلى محكمة امن الدولة حيث اقسم عن عدم التفكير بهذه الأمور..
وسود مشروعا عن الاشتراكية العلمية بزمن الجوع ، لما هرب من أسر الوظيفة الحكومية التي تحيل المواطنين إلى عبيد نهاية كل شهر..
وكتب مقدمة عن مقدمة ابن خلدون سماها العبر من أخبار العرب ، دون فيها خلافات العرب وتخلفهم وخياناتهم ..
وتذكر الأخبار انه أول من انتقد قانون القانوني حمورابي بجريدة الثورة المحظورة فسيق إلى السجن حيث عاشر زمانا الجرذان والصراصير والجدران الصفراء الباردة
وكان اشد ما يكره سماع الاطلاقات ، والحكومات العسكرية لأنه يعتقد بأن العسكر يلجئون الى القوة للاستيلاء على الحكم ويعتبرون السياسة صفقة سرية لهذا فعالمنا جد متخلف..
و يعتقد جازما بأن الفن تثقيف للذات ، لكنه داخل المجتمع الطبقي يصبح إمكانية طبقية أيضا .. وتقول الوثائق أنه مصاب بداء سوء التغذية وفقر الدم لذا كانت مفاصله وأوداجه متورمة

3-
الحياة لا تؤخذ إلا عنوة يا أبناء الحرام،... هكذا يقول دوما، لهذا يحلم دوما بالزواج من فتاة شقراء ، فارعة الطول ممتشقة القوام ، حسنة المنظر ، بيضاء اللون ، وسيارة كاديلاك ، لكن الحلم لا يتحقق أبدا كما يعلم جيدا، لان فقر بلاده يمنعه من ذلك ، لذا اكتفى بالزواج من امرأة طاعنة في الفقر ، كل جهازها حصير وصندوق خشبي وقدر ، لم يتخرج أبناؤهما من الجامعات والمعاهد مهندسين وجراحين وعلماء ، لكنهم شبوا فقراء وخماسين وقوادين يهانون ويضطهدون ويدفعون الرشوة..

4 -
حين هبط عباس إلى السوق الأسبوعي ، كانت أشعة الشمس قد شرعت في مهاجمة جحافل الظلام ، في منتصف الإسفلت توقف وأشار للمدينة ، ارتسمت على شفتيها ابتسامة صفراء ، وقتها غصت جنباتها بجلبة الناس الذين لفظتهم للتو أكواخ القصدير بسراويل قصيرة ممزقة ومهترئة ، وسواعد معروقة وبطون طاوية ، حزن أول الأمر لكنه استبشر خيرا حين رأى الأطفال يمرحون والعصافير تطير بخفة بالفضاء الأغبر، وواصل سيره..
في الطريق التقى صديقه دعاه لتناول طعام الإفطار لكنه أجابه: " ممنون ياصديقي لقد أفطرت مس"
في الواقع والحقيقة مؤلمة جدا، أنه لم يكن معه نقود كثيرة اشترى بها علبتين من السجائر ، وارتكن زاوية وطفق يعلن عن تجارته
"فافوريت ، كازا سبور ، ماركيز"
كانت تلك عادته كل يوم يشتري أشياء غير ذات قيمة ، يعيد بيعها ليشتري أشياء غير ذات قيمة أيضا، كان بهذا أول من يؤم السوق وآخر من يغادره من الزبائن
- "فافوريت ، كازا سبور"**
- قم
لم يعرف السبب أول الأمر ، ولما ود المعرفة أدمت أنفه أحذية الشرطة الخشنة

5-
في خضم الجهود المبذولة من اجل بناء الوطن السعيد وتقدمه وازدهاره وضمان العيش الشريف للرعايا ، آثرت الحكومة الموقرة القضاء على البطالة والأعمال غير الشريفة ، ومحاربة بيع السجائر بالتقسيط لدورها السلبي في إفساد أخلاق النشء والتأثيرعلى اقتصاد البلاد..

6- ملحوظة
هذا وقد امتنع المعني بالأمر عن التوقيع والإقرار بما نسب إليه وهذا عصيان وتحريض على الفوضى

7 – حاشية
بعدها مباشرة لم نعرف طعما للراحة وبدأنا رحلة الهبوط الى قمم الحرمان والضياع والجوع



18/10/1978


*


* (عيساوة) من الفرق الطرقية الصوفية وترجع جذورها الى مؤسسها الشيخ الكامل الهادي بن عيسى
* من نص شعري قديم منشور بجريدة المحرر المغربية 1978 بعنوان (مراكش.. الموت والميلاد)
** فافوريت ، كازا سبور، ماركات سجائر مغربية رخيصة لم تعد موجودة



[SIZE=6]* تراجيديا بزمن الحزن..[/SIZE]
هذه القصة هي أول محاولة في كتابة القصة القصيرة، كتبت سنة 1978، ويلاحظ القارئ التأثر الواضح بكتابات زكريا تامر
وقد نشرت بمجلة ( الطليعة الأدبية ) العراقية سنة 1979

** القصة نشرت ضمن المتوالية القصصية (صنائع من نوبة عراق العجب) منشورات منتدى مطر مطبعة انفوبرانت - فاس 2014



الصنائع.jpg
  • Like
التفاعلات: حيدر عاشور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى