طه حسين - في الأدب الغربي.. بين بين

الأصل في الكلام إنه وسيلة تتوسل به إلى الأعراب عما تريد أن يفهمه عنك غيرك، فهماً واضحاً جلياً لا لبس فيه ولا غموض. والكلام كله يشترك في هذا الأصل أو قل كان يشترك في هذا الأصل سواء منه ما كان شعراً وما كان نثراً، وسواء منه ما تحدث إلى العقل وما تحدث إلى القلب والشعور. فإذا خرج الكلام عن أصل البيان والتبيين هذا فكان فيه غموض أو التواء فمصدر ذلك قصور في المتكلم أو الكاتب أو قصور في السامع أو القارئ، عجز ذاك فلم يحسن الإعراب عما يريد، أو عجز هذا فلم يحسن الفهم لما لقي إليه. وقد يكون الغموض مقصوداً والالتواء متعمداً، لأن للكاتب أو الشاعر أو المتكلم غرضاً يدفعه إلى أن يتكلف الغموض ويتعمد الالتواء ولكن هذا الكلام الغامض الملتوي واجد على كل حال من يقرأه أو يسمعه فيفهمه فهماً صحيحاً مستقيماً.

هذا هو الأصل في الكلام ولكن يظهر أن الترف الفني الذي ترقى بنا الحضارة إليه، وتنتقل بنا في درجاته المختلفة يأبى أن يقر الأشياء في أصولها أو يدعها ميسرة لما خلقت له. فكما أن الأصل في الطعام والشراب الغذاء والري، ولكن الحضارة والترف قد خرجا بهما عن هذا الأصل إلى ما يتجاوز الغذاء والري، إلى غيرهما من اللذات التي يجدها الطاعمون والشاربون فقد خرج الترف الفني في هذه الأيام بالكلام عن أصله المألوف إلى شيءآخر غير البيان والتبيين، ونشأت طائفة من الكتاب والشعراء لا تكتب النثر ولا تقرض الشعر لتقول شيئاً واضحاً جلياً أو لتقول شيئاً ينتهي بعد الجهد والبناء إلى الوضوح والجلاء. وإنما تكتب وتنظم لتثير في نفسك ألواناً من المعاني وضروباً من الخواطر، ولتهيج في قلبك أشكالاً من العواطف وفنوناً من الشعور، تحسها فتلذ لها وتألم، وتبتهج لها وتضيق بها، وتفهمها حيناً وتعجز عن فهمها أحياناً، وتذهب مذاهب مقيدة غريبة متباينة في فهم هذا الكلام الذي يلقى إليك وتأويله وتخريجه فتقر ما تنتهي إليه ثم يبدو لك فتعدل عنه، ثم تقرأ هذا الكلام مرةً أخرى فإذا أنت تذهب في فهمه وتأويله وتخريجه مذاهب لم تكن قد ذهبتها من قبل، ثم تتحدث إلى من قرأ هذا الكلام نفسه فإذا هو يخالفك في الفهم ك الخلاف أو يخالفك في بعضه ويوافقك في بعضه الآخر. ثم تتحدثان إلى ثالث قد قرأ هذا الكلام فإذا له فيه رأي لم ترياه ولم يخطر لكما على بال ولعلكم إن سألتم الكاتب أو الشاعر الذي ألقى إليكم والى الناس هذا الكلام عما أراد به حين كتبه أو نظمه لم تجدوا منه جواباً مقنعاً ولا رداً مريحاً. أو وجدتم أجوبة مختلفة وردوداً متباينة، لأنه هو لا يعرف بالضبط ماذا أراد حين كتب أو نظم أو كان يعرفه أثناء الكتابة والنظم ثم ذهب عنه بعد ذلك، أو كان يعرفه فلما أتم الكتابة والنظم وترك ما كتب ونظم حيناً عاد إليه يقرأه فإذا هو يفهم منه غير ما أراد ويتبين منه غير ما كان قد قصد إليه.

وقد يخطر لك أني أقصد بهذا النحو الكلام إلى شيء من العبث أو الدعابة، فذد عن نفسك هذا الخاطر فلست بصاحب عبث ولا دعابة. وإنما أنا صاحب جد كل الجد وأنا أكتب هذا الكلام بعد أن فرغت من قراءة قصة لذيذة قيمة ممتعة للكاتب الفرنسي جورودو. صاغها في صيغة القصص التمثيلي ووضع لها العنوان الذي وضعته أن لهذا الفصل، ونشرها في عددين من مجلة باريس.

وقد قلت إن هذه القصة لذيذة قيمة ممتعة وأنا أريد ما أقول، ولعلي مقصر حين أكتفي بهذه الأوصاف وحسبك أني قرأتها ثلاث مرات وسأقرؤها إن أذن بذلك الوقت وسمحت به الظروف. وقد وجدت قي كل قراءة لذة ومتاعاً وأنا واثق بأني سأجد في القراءة الرابعة لذة ومتاعاً. ولكني على ذلك كله لم أفهم ما أراد الكاتب أو قل فهمت أشياء مختلفة وأغراضاً متباينة، ما أظن أن الكاتب قد أراد إليها أو فكر فيها. وقد أسأت الظن بنفسي فأقرأت هذه القصة قوماً آخرين وجدوا فيها لذات لم أجدها ومتاعاً لم أشعر به. ولكنهم كانوا مثلي عاجزين عن أن يفهموا بالدقة أو بالتقريب ما أراد إليه الكاتب حين كتب قصته هذه البديعة الغريبة. ثم انتهى بنا الأمر إلى أن اتفقنا على إن الكاتب لعله لم يرد شيئاً أكثر من أن يثير في نفوسنا وقلوبنا هذه الخواطر والعواطف وهذه الأهواء والميول. وعلى أن الكاتب لعله أراد أن يذهب بالكلام مذهب الموسيقيين بالموسيقى، فلا يقصد إلا إلى أن يثير في نفسك ضروباً من العواطف والأهواء حول فكرة خطرت له وأثرت فيه فصورها كما استطاع في هذه الألحان التي قد تطابق ما في نفسه وقد تقصر عنه وقد تتجاوزه وتربى عليه. ولكنها على كل حال قلما تنقل إلى نفسك صورة صحيحة مطابقة لما كان في نفسه، وقلما تثير في النفوس المختلفة عواطف وأهواء مؤتلفة أو متقاربة تقارباً شديداً. إنما قصاراها أن تدفع بك في عالم من الخيال لا حد له. فأنت تتصور فيه ما تشاء. وأنت تحس فيه ضروباً متباينة من الإحساس وقد تسمع اللحن الموسيقي الآن فيثير في نفسك لوناً من الخواطر وتسمعه بعد ذلك فيثير في نفسك لوناً آخر. وكذلك يذهب أصحاب الكلام بالكلام حتى يجعلوه فناً من النغم وضرباً من الموسيقى، وحتى يستطيعوا أن يلقوه إليك فإذا أنت لا تفهم منه شيئاً دقيقاً جلياً كما تعودت أن تفهم من الكلام. ولكنك على ذلك لا ترغب عنه ولا تنفر منه بل تؤثره ولا تعدل به شيئاً.

في هذه القصة خداع غريب خطر لأنه يخيل إليك إنك تفهم ما تقرأ على وجه من وجوه الفهم فتمضي بالقراءة متابعاً فهمك هذا مطمئناً إليه، ولكنك لا تلبث أن تضل الطريق. وإذا أنت في واد غير ذلك الوادي الذي كنت تمضي فيه. وما يزال كذلك ينقلك من واد إلى واد ويثب بك من مذهب في الفهم إلى مذهب آخر حتى تنتهي القصة. وإذا أنت تسأل نفسك ماذا فهمت أنت منها وماذا أراد الكاتب بها إليه.

ولا بد لي من أن ألخص لك المقدار الذي يستوي الناس جميعاً في فهمه من هذه القصة حين يقرءونها وهو هذه الصورة الظاهرة التي يقسمها الكاتب إلى مناظر وفصول. ولكني أحب أن تفهم أن هذا التلخيص لا يعطي شيئاً ولا يصور ما أراد الكاتب. وقد قرأت لجماعة من النقاد فما أرى إنهم فطنوا لما قصد إليه في دقة ووضوح.

كل شيء في القصة مبهم قد تعمد الكاتب إبهامه، حتى الأماكن التي تقع فيها حوادث القصة، والأوقات التي أختارها الكاتب لوقوع هذه الحوادث. فأكثر ما يقصه عليك الكاتب يجري في مكان غير محدود ليس هو داخل المدنية وليس هو شديد البعد منها وكأنه في طرف من أطرافها حيث تتصل عمارات المدن بالفضاء الواسع الطلق. وهو في غابة أو في شيءيشبه الغابة، تتبين فيه الأشجار ولكنك لا تضيق بها ولا تحس كثافتها والتفافها. والمكان واسع قد كسا أرضه العشب وأنتثر فيه زهر كثير مختلف. ولا تقع حادثة من حوادث القصة في أول النهار أو في وسطه حين تستطيع العين أن تحيط بالأشياء وتحقق النظر فيها وحين تستطيع النفس أن تتابع العين فتفكر في شيءبين محدود.

وإنما تقع الحوادث في الأصيل حين يختلط آخر النهار بأول الليل، وحين يضطرب على الأشياء رداء رقيق جداً من الضوء، وحين تتفرق النفس كأنها تريد أن تتابع الشمس في مسراها من وراء الظلمة الكثيفة المقبلة.

وإذا أختار الكاتب هذا المكان المبهم، وهذا الوقت المبهم لم يكن من العسير عليه أن يختار أشخاصاً إن ظهرت صورهم المادية ظهوراً واضحاً في بعض الأحيان، فأن صورهم النفسية وما يصدر عنها من الأحاديث والخواطر مبهمة شديدة الإبهام ملائمة أشد الملائمة لما يحيط بها من زمان ومكان. ولعل أحسن مظهر لبراعة الكاتب إنما هو إنشاء هذه البيئة الغامضة الواضحة المبهمة الجلية التي هي بين بين.

موضوع القصة نفسه يقتضي هذا الموقف المتوسط بين الوضوح والغموض، فنحن في مدينة صغيرة من مدن فرنسا كانت هادئة مطمئنة تجري حياة أهلها في اضطراد لا نتوء فيه كأنه السهل المنبسط. ثم يضطرب أمرها فجأة وتحدث فيها حوادث غير مألوفة كأن شيطاناً ماكراً قد أشرف على أمورها فقلبها رأساً على عقب. تعودت أن تجيل بين أهلها في كل عام طائفة من أوراق (النصيب). فإذا جاء موعد القرعة فقد تعودت المدينة أن تخرج القرعة لأغنى أهلها إلا في هذه السنة فقد خرجت لرجل فقير. تعودت أن تؤدي عملية الإحصاء من حين إلى حين كما تؤديها غيرها من المدن فإذا سألت الأسر عن عددها ردت بأجوبة تلائم العرف والقانون إلا في هذا العام، فالعمدة يستحي أن يقدم إلى المركز أوراق الإحصاء لأن الناس قد أحصوا أنفسهم، وكلابهم، وماشيتهم. ولأن الرجال لم يضعوا زوجاتهم في أجوبة الإحصاء، وإنما وضعوا خليلاتهم. تعودوا أن ينهر الرجل صبيه فلا يثور الصبي، وأن يزجر كلبه فلا يثور الكلب، أما في هذا العام فالصبيان ثائرون بآبائهم وأمهاتهم، والكلاب ثائرة بأصحابها وسادتها. وعلى هذا النحو أضطرب في المدينة كل شئ. ومصدر الاضطراب فيما يظهر أن إشاعة ملأت المدينة بأن شبحاً يظهر لبعض أهلها إذا تولى النهار وأقبل الليل. وقد صدق الناس هذه الإشاعة واطمأنوا إليها فكلهم يلتمس الشبح وكلهم يراه، وكلهم يخافه، ويحتاط للقاءه. وانتهى أمر هذا الاضطراب إلى باريس فأرسلت الحكومة المركزية مفتشاً إلى هذه المدينة يبحث ويستقصي، وأمرته بأن يحسم الداء إذا انتهى إلى أصله. وفكرة الحكومة أن هذا عارض من الضعف العقلي ومن الشعوذة قد ألم بهذه الدينة، فيجب أن يرد عنها وأن يبسط عليها سلطان العلم والعقل، ويقبل هذا المفتش ممتلئاً بهذه الفكرة فلا يكاد يتحدث إلى العمدة والصيدلي ومراقب المكاييل والموازين حتى يروعه تصديق المدينة لهذه الخرافات، وحتى يشتد عزمه على أن يشمر في الحرب لهذا السخف حتى يقضي عليه. وهو ينكر وجود الأشباح والأرواح، وهو يتحدى الأشباح والأرواح ويطلب إليها أن تقلق طائراً ولو يسيراً عن غصن من هذه الأغصان وهو يحصي ثلاثة فلا يتم الإحصاء حتى تسقط قلنسوته عن رأسه! فيقول: ما أشد الريح أو يجيبه أصحابه: ليس في الجو أثر للنسيم! وهو يعود إلى التحدي في لفظ غليظ بشع ويطلب إلى الأرواح والأشباح أن تمسه بأذى ولو ضئيل. ويحصي ثلاثة فلا يكاد يفرغ من الإحصاء حتى تزل قدمه به فيهوى! فإذا نهض قال: ما أشد الرطوبة! فيجيبه أصحابه، إن عهدنا بالمطر لبعيد! وبهذا يتحقق الخلاف بين ممثل الحكومة المركزية وأهل المدينة. هو صاحب علم وعقل وهم أصحاب خيال وإيمان بالخرافات.

ولكن علم المفتش أولى وعقله محدود. فهو يؤمن بما في الكتب ويسلم به مقلداً فيه وهو يرى الإيمان به والتعصب له سياسة تلائم الديمقراطية وتوافق نظم السياسة الحديثة. وسذاجة أصحابه الذين يحاورهم ظريفة طلقة ليس فيها غلظ ولا ضيق، وإنما هي سذاجة ذات أجنحة تسمو بأصحابها حتى تتجاوز بهم حدود المألوف المعقول وكأنها قد اتخذت أجنحتها من الخيال وأصبحت شعراً كلها، فالحوار إذاً إنما هو بين الحقائق الواقعة المقيدة التي لم تبرأ من الجمود ولم تسلم من القصور، وبين الخيال المطلق الحر الذي أخذ بحظ عظيم من الرقي والصفاء والتهذيب. الحوار إذاً بين الحياة اليومية المألوفة يمثلها شخص المفتش وبين الشعر يمثله هؤلاء الناس. بل يمثله معهم أكثر أهل المدينة وتمثله معهم بنوع خاص إيزابيل هذه الفتاة التي تقوم على تعليم البنات مكان المعلمة المريضة والتي تذهب في تعليم الفتيات مذهباً غريباً ملائماً كل الملاءمة للطبيعة الحرة والشعر الطلق. فهي لا تضطرهن إلى المدرسة وإنما تتخذ من الغابات والحقول مدرسة تلقي عليهن فيها علماً غريباً يضيق به المفتش الذي يمثل حياة كل يوم. وهي تلقي إليهن أسماء غريبة تدل بها على ألوان العلم في الفلك والطبيعة والنبات والحيوان وهي لا تتحرج في أن تحملهن على أن يتشكلن بأشكال الحيوانات المختلفة ويتسمين بأسمائها ويسرن سيرتها، كل تعليمها يمتاز بأنه شعر، ويقوم على تحبيب الطبيعة إلى التلاميذ. ولا يكاد المفتش يرى هذا ويتبينه حتى ينفر منه ويثور به ويرى إنه أصل هذا السخف الذي سيطر على المدينة ونشر فيها الفساد والاضطراب. فيعزل الفتاة إيزابيل من منصب التعليم، ويأمر أن يجري التعليم في المدرسة على ما يجري عليه في المدارس الأخرى في أضيق حدود التقاليد وقد أنبئ بأن مصدر هذه الإشاعة التي اضطربت لها المدينة إنما هو هذه الفتاة المعلمة، فهي التي ترى الشبح وتناجيه إذا كان المساء! وقد ثبت له ذلك. فأرصد للفتاة وطائفها ومعه نفر مسلحون حتى إذا كان المساء أقبلت الفتاة وأقبل الطائف فتحدثت إليه وتحدث إليها. وهما في حديثهما وإذا نار تطلق فيهوى الطائف إلى الأرض كما يهوى القتيل. ويظهر المفتش وأصحابه وهم لا يشكون في أن هذا الطائف ليس إلا شاباً أراد أن يغوي الفتاة فاتخذ صورة الطائف وشكل الخيال. ويحنو بعضهم على القتيل فلا برى جثة وينظر القوم فإذا الطائف يرتفع في الجو شيئاً فشيئاً حتى يسترد صورته الأولى ثم يقول: إلى غد يا إيزابيل! إلى غد في غرفتك إذا كانت الساعة السادسة!

فإذا كان الغد أقبلت الفتاة إلى غرفتها قرب الموعد المضروب وأقبل مراقب المكاييل والموازين فأخذ يتحدث إليها حديثاً فيه حب، فتريد أن تصرفه عن نفسها فيأبى ويعرض عليها الزواج، وهما في الحديث وإذا الطائف قد أقبل وطلب إليه أن ينصرف ويدعه مع الفتاة. ولكن الرجل يأبى ويلح في الإباء ويكون بينه وبين الطائف حوار عنيف دقيق أيهما يستأثر بالفتاة، والفتاة مترددة بين هذا الرجل الذي يمثل الحياة وهذا الطائف الذي يمثل الموت ولكن ميلها إلى الحياة ينتصر آخر الأمر فينصرف الطائف مهزوماً وتهوى الفتاة في غشية كأنها الموت. ويقبل المفتش والعمدة والصيدلي والتلميذات وبعض أهل المدينة وكلهم يريد أن يستنقذ الفتاة من هذا الإغماء. وكلهم يقترح لذلك دواء وطباًً ولكن الصيدلي يتقدم إليهم جميعاً في أن ينسوا الفتاة وينصرفوا إلى أنفسهم. ويستأنف كل منهم حياته في هذه الغرفة كما لو كان بعيداً عنها فهؤلاء يلعبون الورق وهؤلاء الفتيات بينهن حديثاً عادياً، وهاتان الفتاتان تتحدثان في الأزياء، وهذا المفتش ينطق من حين إلى حين بألفاظ تمس العلم والتعليم والديمقراطية وقد استحالت الغرفة صورة مصغرة للمدينة. وإذا الفتاة المغمى عليها تفيق شيئاً فشيئاً حتى تشترك في الحديث عن الأزياء ويأتي من يخبر بأن الأمور قد استقامت فخرجت قرعة النصيب للأغنياء دون الفقراء، ويعلن الصيدلي في ألفاظ تذكر بقصة فوست أن قد انتهت هذه الحال التي كانت بين بين!

هذه صورة غليظة جداً لهذه القصة لا دقة فيها ولا تحديد ولا إلمام بشيء مما فيها من مواطن الشعر ومظاهر الجمال الفني الرائع. ولا إلمام فيها أيضاً بهذه المواقف الكثيرة التي يعرض فيها الكاتب للحياة اليومية على اختلاف فروعها بالنقد اللاذع المر، ولكنك تستطيع أن تسأل نفسك كما سألت نفسي وكما سأل غيري من القراء نفسه حين قرأ هذه القصة، ماذا أراد الكاتب أن يصور فيها؟ أتراه اكتفى بنقد ما نقد من ألوان الحياة الفرنسية ولم يرد غير ذلك! إلا فإن هذا النقد عارض في القصة يكفي أن تنظر فيه لتعلم إن الكاتب لم يتخذه غرضاً من أغراضه الأولى. أتراه رمز بهذا الطائف إلى شيءمما يعرض للناس في حياتهم وجعل الفتاة رمزاً للناس جميعاً أو لطائفة من الناس؟ ولكن ما عسى أن يكون هذا الشيء الذي أتخذ الطائف رمزاً له أهو الحب؟ أهو الموت؟ أهو الأمل؟ أهو المثل الأعلى؟ أهو شيء غير هذا كله؟ أتراه إنما أراد أن يصور حالاً من أحوال الناس تعرض لهم في طور من أطوار حياتهم حين يكونون بين النوم واليقظة، أو حين يكونون بين الصبا أو الشباب وبين الاكتهال واكتمال السن. أتراه أراد أن يصور لنا حياة فتاة مريضة بنوع من أنواع الأمراض العصبية تتأثر بالوهم وتتبعه حتى تمضي في أثره إلى أمد بعيد ثم لا ترد إلى الحياة الواقعة إلا في هدوء ورفق. وإلا بأن تحيط بها الحياة الواقعة إحاطة متصلة لا تكلف فيها ولا جهد. كل ذلك ممكن، ولعل شيئاً غير ذلك كله ممكن أيضاً ولعل الكاتب (وقد هممت أن أملي الشاعر) لم يرد كما قلت إلا أن يخلق حولك هذه البيئة الشعرية التي تطلقك من قيود الحياة الواقعة وتسلمك إلى الخيال يمضي بك حيث يشاء ساعة من نهار أو ساعة من ليل. وقد ذهب الشعراء إلى هذا النحو من الفن منذ عهدٍ غير قصير، فمنهم من جعل الشعر موسيقى تلذ السمع أولا، وتثير في النفس لذة النغم الموسيقي بعد ذلك وأعرض عن المعاني إعراضاً شديداً أو هيناً. ومنهم من أعرض عن هذه الموسيقى الظاهرة التي يتأثر بها السمع قبل كل شيءواتخذ الشعر مفتاحاً يفتح لك به أبواب اللانهاية كما يقول الشعراء ووسيلة يخلق لك بها هذه البيئة الفنية العليا التي ترتفع بها وقتاً ما عن الحياة والأحياء.

وأخذ الكتاب يذهبون بالنثر مذهب الشعراء بالشعر ولكن كاتبنا قد تجاوز مذهب الكتاب الذين يقلدون الشعر والشعراء في النثر الذي يتجه إلى القراء ليس غير، وسلك هذا المذهب الشعري بالنثر التمثيلي وبالتمثيل نفسه. وأنت في غير حاجة إلى أن أبين لك الفرق بين النثر الذي يذهب في صاحبه مذهب الشعراء والموسيقيين والذي يتجه إلى الناس جميعا ولكنهم يقرءونه متفرقين ويتأثرون به متفرقين، وبين النثر الذي يذهب به صاحبه هذا المذهب ويتجه به إلى طبقات من الناس يجمعهم في مكان واحد، هو الملعب وينتزعهم من الحياة الواقعة معا ويسمو بهم معا إلى عالم الشعر والخيال ويتخذ لهذا سبيلا واحدا هو التمثيل. وأظنك توافقني على أن هذا النوع من الإقدام والابتكار جراءة فنية قيمة. ولكن قد رأينا الآثار التي تتركها قراءة هذه القصة في نفس القراء ولم نحب أن نرى الآثار التي تتركها تمثيل هذه القصة في نفس النظرة. ولكن أين نحن من هذا وأين هذا منا في مصر الآن؟

وأنا أريد أن اعرض عليك منظر من مناظر هذه القصة لم اختره اختياراً وإنما هو كغيره من المناظر التي تستحق كلها أن تترجم وأن تتخذ نموذجا ومثلا لهذه الفن التمثيلي الجديد. وهذا المنظر حوار بين إيزابيل وبين الطائف:

الطائف - أكنت تنتظرينني؟

إيزابيل - لا تعتذر! فلو كنت طائفا مثلك لوقفت عند هذا الشفق وعند هذه الأودية، حيث لم أستطع إلى الآن أن أحمل الا جسما كثيفاً. إذاً لاستوقفتني الغدران والنبات الملتف وكل ما أقف عنده الآن! إذاً لما كنت هنا الآن لو أني أستطيع مثلك أن أطوف بظلي كما لا أستطيع الا أن أمسه أو أراه! إذاً لاتخذت لنفسي جسما من الأشياء كما أهوى عصفوراً على الغصن مرة! أو طفلا مرة أخرى! أو انحرف مرة ثالثة فأتقمص عوداً مزهرا من النسرين. إنما الاحتواء هو القرب الصحيح. . . ولكني ألومك لأنك أقبلت هذا المساء وحدك، وحدك دائما. لم تستطع أن تمس أحداً من ذويك ولا أن تحمله على صحبتك!

الطائف: لم أستطع.

إيزابيل: لقد فكرنا أمس بعد كل هذا الإخفاق أن أقدر الأشياء على أن يهيجهم، ويؤثر فيهم، ويوقظ ما يمكن أن يكون أعصاب الطيف، قد يكون صيحة طويلة، وشكوى متصلة متشابهة، تتردد في طول واتصال. كهذه الصيحة الحقيقية أو التي نحلم بها والتي تصدر عن القطار فتوقظنا أحيانا مع الفجر وتردنا إلى الأحياء. أو كصيحة سفينة أثناء الليل في الخلجان، تلك الصيحة التي تبلغ حتى الأسماك الرخوة في القاع. أبعثت هذه الصيحة؟ أأنفقت يقظتك في بعثها؟

الطائف: نعم!

إيزابيل: أنت بنفسك؟ أنت وحدك؟ ولم تلحق بصوتك شيئا فشيئا آلاف من أصوات تشبهه. .

الطائف: لقد اصطدمت بنوم الموتى.

إيزابيل: أينامون؟

الطائف: أيكون هذا نوما؟ لقد تسود اكثر الأحيان حيث يجتمعون رعشة، ثم ينساب فيهم نشاط جديد، حتى لقد ينبعث منه شيء يشبه الصوت أو انعكاس الضوء فإذا أقبل عليهم الطارقون المحدثون انغمسوا في اضطراب لذيذ تهدأ له بقية حياتهم يهزهم دائما ترجح الأرض الخفيفة. ولكن ربما اتصلت جماعتهم كلها، فكأنها قطعة من الثلج قد غمرها نوم الشتاء فإذا هبط إليها الموتى الوافدون غرقوا فيها مع شعاع يرافقهم، لأن نوم الأحياء شمس وبهجة.

إيزابيل: أكانوا كذلك أمس؟ أيفصل ذلك زمنا طويلا؟

الطائف: قرونا. . ثواني

إيزابيل: أليس من أمل في المعونة؟

الطائف: منهم، لا أظن.

إيزابيل: لا تقل هذا! إن بين الذين قضوا من حولي من أحسست أنهم قد ذهبوا إلى غير رجعة ومحيت أشخاصهم من كل حياة ومن كل موت. لقد أرسلتهم على العدم كما أرسل الحجر. ولكن بينهم من وجهتهم إلى الموت كأنما وجهتهم في مهمة، أو كأنما كلفتهم محاولة، يظهر الموت فيها وكأنه أقصى غايات الثقة. فكان يضطرب حول المقابر جو السفر والأماكن المجهولة. ولم اكن أميل إلى أن أودعهم باللفظ بل بالإشارة. وكنت أحس أثناء المساء كله كأنهم يبحثون عن إقليم جديد وعن بيئة جديدة. وكانت الشمس مشرقة، وكنت أراهم هناك ينامون في شمسهم الجديدة. وكان المطر يسقط وكانوا يتلقون القطرات الأولى من أمطار الجحيم. فلن تقنعني بأن هؤلاء أيضا ينسون أو يسقطون متى انتهوا إلى مستقرهم؟

الطائف: لم يصلوا لم أرهم.

إيزابيل: ولكنك أنت نفسك تلقي السلاح؟ وتكتفي من الأمل والرغبة بأن تهيم طائفا فوق مدينة ضئيلة؟

الطائف: المهمة خطيرة.

إيزابيل: ومع ذلك فها أنت ذا.

الطائف: إن بين الموتى من ينام وكأنه يقظان.

إيزابيل: إن هذا النائم المستيقظ يستخفي مع الصبح وما زلت مقيما.

الطائف: لقد جذبتني. لقد أوقعتني في الشراك.

إيزابيل: أي شراك؟

الطائف: إن عندك لشركا يجذب إليه الموتى.

إيزابيل: وأنت أيضا تراني ساحرة.

الطائف: إن سحرك لطبيعي حتى لكأنك قد عرفت فيم يفكر الموتى فأنت لا تهيئين لهم ذكريات ولا صوراً وإنما تهيئين لهم الشعور بانعكاس الصور وأجزاء الضوء قد استقر على زاوية من الموقد، على أنف هر، أو على ورقة كأنها الحطام الضئيل يطفو على الطوفان. . . . . أترينني مصيبا؟

إيزابيل: وإذاً؟

الطائف: وإذاً فكل غرفتك في الظاهر غرفة للأحياء، لفتاة حية من أهل الأقاليم، ولكن من يحقق فيها النظر يرى أن كل شيء قد قدر لتكون هذه العلامة من الضوء على الأشياء المألوفة على إناء من الصيني أو مقبض من المقابض قد استبقى دائما بالشمس أو النار في النهار، وبالمصباح أو القمر في الليل. هذه هي حبالتك وقد كان حقا علي أن احتاط حين رأيتك في نافذتك ذات مساء. لم يكن وجهك المشرق هو الخطر. ولكني رأيت انعكاس اللهب على الحاجز أمام الموقد. ورأيت ضوء القمر على المنبه. ورأيت ماس الظلال. فأخذت!

إيزابيل: أخذك الشرك فمن أبقاك؟ الطائف: صوتك قبل كل شيء أحاديث صوتك هذه التي تجعل في الشفق كل مساء شيئاً تهيم به الظلال يشبه ما يرى الناس إن الطير تحبه من الشمس! وأبقاني بنوع خاص هذه الثقة الكريمة التي تمنعك حتى من أن تفكري في أني قد خدعتك وأني حي.

ثم تطلق النار فيهوى الطيف!

مجلة الرسالة - العدد 8
بتاريخ: 01 - 05 - 1933
أعلى