حيدر عاشور - عيونٌ اصطناعية.. قصة قصيرة

مخلوقة تسر الناظرين ،يهيم بها القلب شغفا يبتسم لها الثغر إعجابا بجمالها الإلهي الناطق بمحياها من أول وهلة لنزولها للحياة وهي تصرخ صرخة تعلن بها وجودها ،وتدغدغ بذلك الصوت شغف الأب الذي طال انتظاره وكثر دعاؤه حتى استجاب له الخالق بهذا الرزق الذي أثار تعجب القائمين على حضورها للحياة ... عجبا للطفلة بهذه المواصفات الإلهية، الكونية ،النور يشع منها كأنه بياض بدر في سمائه وهو يرسل محبته بخيوط بيض على من تقع عليه ناظراه... عيون كأنهما كوكبان كبيران يعكسان بجمالهما صورة كالمرأة واضحة الانعكاس ،عميقة الغور... عيون ناطقة بالحياة والجمال والفتنة تغزوان ذلك الوجه البدري المستدير المضيء وتعلو بتقاسيمه تلك الوجنتين التفاحتين والأنف المصقول يظلل فمها الوردي المكتنز ... يصدح ويهلهل بالصلوات كل باصر لها ، وينطق بعفوية : إنها ملاك مصغر على الأرض أو شيء من البراهين والمعجزات انتظروا ستتكلم .
هكذا كان المحيطون بها ينتظرون صوتها ... بكت إلام بصوت عال ونطقت بكلمات تريد أن تدفع الحسد عن طفلتها ... الأب استلم النداء وهيمن على طفلته التي طال انتظارها فأصبح ظلها أينما تتنقل ، لا يتركها حتى وهي تأخذ جرعتها من صدر أمها ،يقف كمظلة واقية عن عيون المتواجدين بل أحيانا يحتضن الأم وابنتها وعيناه شاخصتان للسماء ... وبالغ الأب في حبه وحرم ملاكه من أن يراه احد كما حرمها من الظهور تحت سماء ودفء أشعة شمسها وإنارة قمرها ... حتى اسمها لا يذكره في مجالس الأحبة والأصدقاء ويستعيذ بالله بوجه كل من يلفظ اسم ملاكه المقدس... أصبحت الطفلة إلهة الجمال والسعادة يعبدها الأبوان... واحتوت معجزاتها الجمالية كل الصفات المؤثرة والملفت للنظر وهي تنمي السرور والخوف فيهم وهم يحيطونها برعاية قل نظيرها وهي تكبر يوما بعد يوم ليصبح عمرها سنة كاملة لم ترها غير عيون عابديها وجدران البيت حتى حين تمرض علاجها موقعي لا خروج ولا معاينة وزادت أعراض مرضها وذبلت الطفلة بين يدي والديها وأوشكت على الموت بل الموت كان مرابطا لها مما اضطر الأب أن يختار طبيبا خاصا للكشف عنها وما أن فحصها الطبيب وعمل كل الأمور الطبية أعلن بان علتها متفاقمة وهي في أيامها الأخيرة في توديع الحياة ... جن جنون الأب وهو ينظر الى طفلته ذات العيون الكروية البارقة واللامعة وذات الوجه الملائكي ويمسح على جبينها بألم وهو يحملها عائدا الى بيته ولأول مرة يخرج بها من عيادة الطبيب كاشفا وجهها ليشاهدها الناس وليلقوا عليها النظرة الأخيرة وهم يهمسون بجمالها والأب يبكي بصوت أجش لا ينظر الى احد حتى دخل داره ورماها على فراشها بقوة وهو يقول : هذه هي عطيتك يا رب ... ما أن سقطت الطفلة حتى تدحرجت عيونها على الأرض وتحت أقدام والدها فقفز مرعوبا وهو ينظر للعيون تتدحرج ككرات على الأرض وانطفأ وجه الطفلة وهي مبتسمة غير باكية وأصبح وجهها عبارة عن نقرتين عميقتين فارغتين ... والأب أصبح كالخشبة يابسا اختفى أنينه وبكاؤه وصراخه وهو يشاهد أمرا لم يتوقع حدوثه حتى ولو في الأحلام ..أمرٌ مرعبٌ شل تصرفه وأمات سواكنه حتى جاءت زوجته لتتمرغل على جسد طفلتها معتقدة وفاتها لكن الطفلة لم تمت وهي تناغي أمها.. حملتها الأم وخرجت بها الى المستشفى ولحقها الأب بعيون ابنته ووضعهما في (صحن الطعام)... أثار الموقف تعجبا أكثر بين الأطباء ،والمختصون ادخلوا الطفلة الى غرفة العمليات لساعات طوال وبانت النتيجة إن لا عودة للعيون الكبيرة ... ستبقى الطفلة هكذا مدى الحياة ... نظرت الأم الى زوجها وهي تستمع الى نتيجة الطبيب وترمقه بنظرة قاسية وهي تقول للطبيب:
_ هذه نتيجة طبيعية لغضب الرب على الأب الأناني الذي لا يحمد النعم.
سقط الأب على ركبتيه وهو يكرر استغفاره للجليل القوي ويتذكر حين رمى ابنته وهو جاحد لنعمة الله فقد السيطرة على نفسه واخذ يضرب رأسه بقسوة حتى أدماه ولم يتوقف عن ضرب نفسه ... حاول الكثير منعه ولكن لا محال حتى جاء صوت زوجته وهي تمسك برأس ابنتها العمياء.
- قم واذهب لبيتك وافعل ذلك بقوة عسى الله أن يغفر كفرك ويطيل عمر ابنتك فهي بحاجة الى رعاية بدلا من إخفائها عن أعين الناس .
فعلا نهض واستدار ومشى بخطى ثقيلة وهذه المرة الأولى منذ ولادة ملاكه يتركها لوحدها وبين أحضان أمها... سارت الأيام وكبر الملاك الأعمى، لتكون جميلة الجميلات بعيون اصطناعية.


* حيدر عاشور
* قصة قصيرة من مجموعة (زَهَايْمَرات)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى