محسن يونس - الورقة.. قصة قصيرة

تحسس شيئا نائما فى جيبه ، ورقة مثل أى ورقة ، لا يعرف من أين جاءت ، أو متى وضعت ، هو فى سبيله للخروج إلى جلسة المقهى ، متعجلا قام بفض طياتها ، هى إذن ورقة ليس المهم متى وضعت، أو من وضعها .. الأهم ما كتب بها ، ارتعد بدنه ، دخلت قطرة عرق إلى عينه لسعت الجفون ، وحوح وهو أعمى ، تساقطت قطرتان من دموع غسلتا العين ، ما أضافته الورقة أنه بمجرد قراءتها سيكون مفعولها قد بدأ ، أن تفتح طيات ورقة عليك تحمل تبعات هذا الفتح ، هى ورقة أروع ما أنتجه الإنسان والحكايات .. فجأة ضرب جبهته مصفر الوجه ، تذكر جدته و حكايتها اليتيمة الأثيرة لديها ، يأكله الملل ولا يأكلها من هذا التعمد فى تكرارها ، السودانى موجود فى حجرها ، تحفن حفنة له : قشر وكل ، وهى تكركر بالضحك ، كان ياما كان ، ويبقى سؤاله المستمر : ماذا كان مكتوبا بالورقة ؟ سيظل السؤال لا إجابة له ، ماكرة تحب إغاظته ، تراه يتخبط ولا تمد له يد المساعدة ، أيكون مصيره هو مصير بطل حكايتها ؟ وهل آمن بالمكتوب فى ورقته حتى يسأل هذا السؤال ؟ أنت تستبق الأحداث ، أو بدقة أكثر أنت فى سبيلك للدخول فى حكاية تصنعها للتو ، أليس معك ورقة قرأتها ؟ جاء الماضى بغيظه نقيضا لوضعه ، فالحكاية الأصلية لم يقرأ بطلها الورقة لأن زعفر العفريت فى مقابل عدم قتله انتزع منه عهدا بهذا : لا تقرأ هذه الورقة إلا حين تشعر بأن روحك تريد السفر بعيدا .. حاضر سأنفذ ، ولكن أى سفر الذى تسافره روحى ؟! افهم .. إذا جاء وقتك .. وقتى ؟! أى وقت تقصد ؟ أيها الإنسى افهم لا تقرأ الورقة إلا قبل موتك مباشرة ، أفهمت ؟ فهمت وعهدى لك لن أخونه ، كان زعفر العفريت يتبدد دخانا ، وصوته يضرب أذنيه بشدة : اعرض الورقة على أى بنت تعجبك لتقرأها ، أما أنت .. أعرف يا أيها العفريت زعفر لا أقرأها أنا إلا عند النفس الأخير ، لن أخون العهد .. تسأل أنت : ماذا كتب فى الورقة يا جدتى ؟ تضرب ظاهر يدك على سهوة : اسكت ، اسمع وأنت ساكت .. تتطاير حبات السودانى ، تجبرك على جمعها حبة حبة ، نسيت تفاصيل كثيرة ، ولكنك لم تنس ما كانت تفعله تفاصيل الحكاية معك ، الأخطر أنك لم تشعر أن أثر الحكاية حفر وحفر ، وغاب وغاب، وبقيت أنت تمارس الحياة وهو معك ، تدرى أو لا تدرى النتيجة واحدة ، انظر إلى بطلك فى حكاية جدتك كانت النتيجة واحدة فى كل مرة ، بعدما وصل العمار سالما من رحلة تجارة ، بدأ يعرض الورقة على البنات اللاتى يثرن إعجابه ، بعد أن تصافح عينا البنت ما خط على صفحتها تتغير ملامحها ، صارخة : يا نذل ، يا جبان .. أو : يا خسيس يا منحط ، كانت ردود أفعالهن وأقوالهن من هذا القبيل ، تتركه البنات غير فاهم لسبب ثورتهن ، وغير عارف ما قرأن ، العفريت زعفر وضعه فى ورطة سخيفة ، وسخفها يأتى من وجود الورقة ، فلو خضع لرغبة قراءتها سيموت فورا حسب تأكيد زعفر العفريت ، وهو حريص على أن يعيش حياته ، الورقة مرتبطة بحياته فى لحظة عبثية تماما ، وهى القراءة عند طلوع روحه ، ثم تتأكد العبثية فى ذلك الأمر الثانى ، أى البنات وردة أفعالهن غير المفهومة لديه ، أى ورقة هذه التى بادلت حياته قبل الورقة بحياته بعد الورقة دفعة واحدة ، ليتحول إلى عبد لها ؟ تقول أن لا عقل له ؟ نقول لك نقلا عن ناس يمتلكون حصافة وفهم : لكل شئ غاية وحد ، والعقل لا غاية له ولا حد ، ولكن الناس يتفاوتون فيه كتفاوت الأزهار فى الرائحة والطيب .. أما أنت فسيد الكتابة على الورق ، ها . ها . ها . ها .. صيحات إعجاب زملاء العمل فى جلسة المقهى : عقله والله يوزن بلد .. ها . ها . ها . ها .. يوزن بلد بنهره وناسه وزرعه وصحاريه .. افرح يا عم مع أنها واسعة .. عقلك بوزن بلد ، وخذ فوق البيعة بلد بكل ما فيه من جميل ، وكل ما فيه من قبيح ، لابد أن تكون الشكوى فى رئيس إدارتهم أخلاقية ، استفسروا منه عن المعنى فى وصفه الشكوى المقبلين على كتابتها أن تكون أخلاقية ، كان على بطل الحكاية أن ينسى العفريت زعفر تماما ، ويترك ورقته ، ولا يعرضها بسذاجة على البنات ، فأول واحدة كانت كافية ليفهم أن الورقة بها كتابة لا تراعى الحشمة والأدب ، لابد أنها تحتوى كلاما بذيئا ، مما يضعها فى الخانة الأخلاقية بنفس مفهوم كتابة الورقة المعاصرة ، سنسمع شرحك أن بلادنا كل شىء فيها يمكن أن يكون بين أخذ ورد ، عدا ما هو أخلاقى ، فلا غفران فيه ، كانت المكيدة ورقة بيضاء يسطر عليها بحبر أسود علاقة محرمة بين مدير إدارتهم ، وإحدى الموظفات بمكتبه اكتب يا عمى الخاتمة : وإليكم ولاة الأمر حماية المجتمع من الذئاب .. نشقوا دخان الشيشة ، وعلت ضحكاتهم : يخرب بيتك يا زواوى شيطان فعلا .. سيتخبط مدير الإدارة فى شر أعماله فترة التحقيق فى الشكوى ، فيشفى غليلهم ، وهم يبدون كذئب ابن يعقوب ، جميل ، سمعت حكاية الجدة التى تمحورت حول ورقة لا يعرف ما المكتوب بها مثله مثل بطلها ، وكان مما يزيد التخليط والغيظ أن هذا الذى أعطاه زعفر العفريت الورقة واصل نفس الفعل ، أى عرضها على البنات ، والبنات فقط لأنه لا يمكن أن يعجب برجل إلا إذا كان الإعجاب المقصود لرجاحة عقل أو فعل حسن أو لسان طيب ، وهو ليس كذلك ، فالإعجاب المقصود هو إعجاب ذكر بإنثى ، إلى أن ركب طيارة ، زواوى كان من الذكاء الذى أهله للاعتراض على تخريف جدته : طيارة فى ذلك الزمن ؟! يتلقى الصفعة على ظاهر يده : اسمع بدون مقاطعة تخريف فى عينك ، تعلم الأدب .. طيارة طيارة .. وصلنا الآن إلى رؤيته لمضيفة رائعة الحسن ، ممشوقة القوام – الجملة من فم ولسان الجدة - سقطت من يديها صينية الطعام، وضاعت أكلته المجانية ، وانتبه الركاب على صراخها ، بعد قراءة الورقة : يا عديم الذمة ، يا عديم الضمير .. واد يا زواوى فعلك هو أصلك .. انهارت الآنسة المضيفة لو كنت الحكم يا واد يا زواوى .. كنت فتحت باب الطيارة وهوووب .. قدمه كادت تلطم بطنها : حاسب يا أهبل ، عرفت .. لكن .. صفعته على ظاهر يده : يا غشاش أنت تغش .. أحكيها لك كل يوم .. أنت سألت وأنا جاوبتك ، أكملى .. الطيار حكم عليه بقذفه من الطيارة ، ولا فائدة من توسلاته ، جاءك الموت يا حامل الورقة ، أخرجها من جيبه لأنه لم ينس وعده للعفريت زعفر ، فى لهفته على قراءة الورقة اضطرب وطارت فى الهواء ، ضاعت وهو على باب الطيارة دون أن تصافح عيناه أية كلمة مما سطر عليها ، هاويا من علو السماء بعد أن دفعوه .. طبل لها ترقص يا زواوى ، العفريت زعفر استعان بورقة حتى يزيح غريزة الرجل فى أن يكون إنسانا يفور جسده برغبات ، والرغبات تتحقق بممارستها ، تسأل ؟ اسأل : ألم يذق حامل الورقة عسل أى أنثى أبدا ؟ هذا السؤال يفتح الباب على طبيعة مستشرية هى إرادة إزاحة الآخر باستعمال ورقة تكتب بها عدة سطور ، تكيد بها لهذا الآخر مستعينا بقوة لها السلطة والسطوة ، تكتبها فى سرية، وتنتظر فعلها ، فإذا جاء فعلها منحازا إلى هدفك ، شعرت بانتصار .. مزيف أو غير مزيف ليس مهما .. يخرب بيتك يا زواوى، قلنا أنك شيطان ، أنت تضع طبيعة الناس على الطاولة وتشرحها !! طبل لها ترقص يا زواوى ، ابتسامته جعلتهم يصيحون : يا خبيث أنت تنتويها الليلة الحق بأهل بيتك قبل نومهم .. كانت نقلة استدعت نكتة فاحشة ، ومكافأة له أعطاه زميل حبة زرقاء ، دسها فى يده : هنيئا لك يا عم .. زواوى مشكلة حامل الورقة أنه ظل بلا ممارسة اللعب مع الجنس الآخر ، أتفهم ؟ غبى ، أنت تقول .. حامل الورقة ظل نقيا ، فلا تعتب عليه يا صاحب الأسرار ، زواوى سرك يكمن فى إلحاح رغبة قوية سيطرت عليك فى التجربة مع امرأة أخرى ، أليست هذه رغبتك ؟ تجربة عتبة تهرول نحوها ، وتستقبلك بين ساقيها ، تموت وتدخل فى التجربة .. زهقت .. نفس الجسد بتضاريسه .. نفس الأنفاس ، نفس .. نفس .. جبان لا تستطيع أن تدخل فى التجربة ، ما هو أفظع من جبنك هو انتظارك لأنثى تأتى إليك بمحض إرادتها ، تقول لك خذنى .. ها . ها . ها .. أنت مثل حامل الورقة فى حكاية جدتك التى كانت لا تمل من إعادة قص وقائعها ، وأنت تستمع إلى أحداث مكرورة كل ليلة ترشوك بالسودانى وبعض النقل ، ولا تقدر على الثورة لتطلب حكاية مختلفة ، العتب عليها هى ، ألم تكن تمتلك خيالا ؟ خيالك واسع الآن فالزمان بين سماعك وبين انتقادك هاوية تقعد فى قعرها تصنع حكاياتك بنفسك .. زواوى طبل لها ترقص .. تنهد وهو يضع مبسم الشيشة فوق حافتها إيذانا بانتهاء السهرة ، حمل جسده إلى البيت ، سيمشى شارعين هادئين ، ثم عطفة طولها عشر خطوات ، يطالعه فى آخرها باب حديدى ، يفتحه، ويصعد سلالم الطابق الأول والثانى ، والثالث يخرج المفتاح يديره فى ثقبه ، حينما يدخل سيذهب إلى الحمام أولا ، ثم يخلع ملابسه ، ليرتدى البيجاما ، هدوء البيت ينبئه أن الزوجة والأولاد نائمون ، سيعرج على حجرته حيث ينام بمفرده ، إذا أرادها يذهب إليها يهزها من كتفها فتصحو وتفهم ، وتأتى إلى حجرته .. دخل فراشه وديعا ، أغمض عينيه ، بسرعة راح فى النوم ملاكا خلع قناع الشيطان ، ولكن هيهات فالورقة التى وجدها فى جيبه عند خروجه لملاقاة زملائه سوف تكون كابوس منامه ..
  • Like
التفاعلات: حيدر عاشور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى