شيماء عبد الناصر - ثرثار الموتى..

لم يعلم أحد من ساكني الدار ماهية وظيفتي على وجه التحديد ولكنهم كانوا لا يبدون أي شعور عدواني أو حتى منفر ناحيتي، فقط يعرفون أن المدير يجعلني أجلس في غرف الموتى من المسنين بعد موتهم في انتظار ذويهم ممن يبعدون عن الدار مسافة كبيرة، وأن أغلب قاطني هذه الدار كذلك، يبعدون عن ذويهم، أهالي أغلبهم من القرى الذين يضطرون لأخذ المواصلات العادية البطيئة والتي تسير في طرق متعرجة تكلفهم مسافة كبيرة، ميزة الدار أن لا أحد يدفع للإدارة شيء في مقابل احتضان كبار السن، ولا حتى قاطني الدار يعرفون مصدر الأموال التي تصرفها الدار عليهم ببزخ شديد، الطعام الصحي الجيد، الملابس القطنية المريحة، وسائل الترفيه الجميلة، الكتب و المجلات الغالية، الأسرة والفُرش النظيفة وعمال النظافة الكثيرون والذين يتقاضون مرتبات عالية ضمانًا لجودة الخدمة، وغيرها من الأشياء التي توفرها الدار، حتى الرحلات الشهرية التي تقوم بها الدار لمكان بعيد، حديقة عامة واسعة، مكتبة كبيرة، سينما! مطعم كبير، مصيف أحيانًا، نزهة نيلية بالمراكب، الكثير والكثير من تلك الأشياء، حتى الأطباء والأخصائيون النفسيون والبيطريون لرعاية حيوانات بعض المسنين من هواة اقتناء الحيوانات! كل شيء جميل وكل شيء متوفر لحياة هادئة، وأنا لموت جميل!

لا أعرف ما مغزى فكرة المدير في جعلي أجلس في حجرات الموتى للثرثرة.

- فقط يا سيدي؟!

- نعم.

- هذه هي المهنة المنوط بي عملها.

- نعم!

- لماذا أنا تحديدًا؟!

- لأن شخصيتك تعجبني، أنت حكاء جيد.

- هذه حقيقة، ولكن.

- هل ستقبل بالوظيفة؟

- إن الراتب الذي حددته، جد كبير، لم أتخيل طوال عمري أن أحصل على راتب مثله طوال حياتي.

- نعم، هذا صحيح.

- هل الموت كثير في الدار؟

- لا، لا بالطبع، أنا أفعل المستحيل حتى أضمن حياة النزلاء لأطول فترة وبصحة جيدة. هذا لا يحدث كثيرًا بالطبع.

- إذن فسوف يمر الكثير من الوقت وأنا لا أعمل.

- نعم، نعم، هذا صحيح.

- هل سأتقاضى الراتب في هذه الفترة؟!

- نعم، بالطبع.

- بدون فعل شيء!

- ستفعل حينما يموت أحدهم، أو إحداهن.

- ربما مرت سنوات وأنا أتقاضى الراتب، ولا أعمل!

- سيكون من دواعي سروري. هل ستقبل بالوظيفة؟

- أنا قبلت منذ سمعت المبلغ المعروض يا سيدي، لكني كنت أحاول أن أفهم.

- هذا جيد، وأنت تعرف ما عليك فعله. الترفيه عن الميت حتى يتم الدفن، سوف تجلس معه تلك المدة، حتى يأتي ذويه، ليروه، ومن ثم يحدث الدفن، لن يعرف أحد ماهية وظيفتك هنا بالطبع، أتفهمني؟

- نعم، بالطبع، ولكن. يرد المدير بغضب

- لكن، ماذا؟

- لماذا تفعل ذلك يا سيدي؟

- أفعل ماذا؟

- أقصد لماذا تخصص أحدهم ليجلس في غرفة الميت، ليثرثر ويحكي له أشياء، أي أشياء، وهو ميت، لا يسمع، لا يرى، لا يشعر، أو .... يقاطعه مرة أخرى.

- لا، أنت تفهمني خطأ، أنت ستعيش معهم وتسمعهم، سيكون من المناسب أن تكون واحدًا منهم، تألفهم ويألفونك، ستعرف حينها تفاصيل حياتهم وتستطيع أن تحكي لكل شخص ما يهمه وما يحب سماعه. وعن لماذا تحكي أصلا، هذا ليس من شأنك.

- حسن يا سيدي.

هذا ما تم في ذلك اليوم، وأنا أخبرك عزيزي الميت الأول، أنك كنت تحتار في وظيفتي التي أعملها هنا، أنت تستطيع الآن معرفة ذلك، لكني أعرف أن بداخلك علامة استفهام كبيرة، تطل من أوردتك الجافة تلك، لماذا يجعلني المدير أفعل ذلك، أقصد تلك الوظيفة، هي في العقد اسمها ثرثار الموتى، يمكنني أن أخبرك، بعد أن أحكي لك الكثير عن الخطابات التي كانت تصلك من ذويك وعن فرحتك بها، وعن أصدقائك من المسنين في الدار الذين كنت تحبهم ويحبونك، والطعام الذي كنت تفضله، وأفلامك المفضلة وكيف كنت تبكي في أحد مشاهد هذه الأفلام، وكلبك المفضل، وقصائد الشعر التي كنت تكتبها، سأقرأ لك بعضًا منها، آه هذا شعر لطيف، أنت تتأمل في الطبيعة والحياة والجمال، هذه أفكار جميلة ونبيلة، كنت ضحوكًا وطيب الروح، دائمًا تمازحني وتضحكني، لو كنت تعلم أني سأكون تسلية، مجرد تسلية لك بعد الموت، هل كنت ستمازحني هكذا؟! أعرف أنك كنت تحبني بصدق، كنت أسميك الرجل الشفاف، أنت هكذا بالنسبة لي وللجميع أيضًا بالطبع، كنت شفافًا كصفحة ماء البحيرة الاصطناعية الصغيرة هنا، تعرفها، كنت تجلس بجوارها، تنظر إلى قاعها المليء بالصخور الصغيرة الملونة وأسماك الزينة المبهجة تلك، كنت تصطادها، وتلقي بها في البحيرة مرة أخرى، وتضحك وتضحك وتضحك، إن البهجة كانت أسلوبك الخاص في الحياة، سأحكي لك أيضًا عن موسيقاك التي كنت تحبها، ورقص ليلة رأس السنة.

وأخيرًا يمكنني بالفعل أن أخبرك، أني لا أعرف لماذا أنا هنا، وما الغرض من كل هذه الثرثرة معك، لكنها وظيفتي أؤديها كما يُطلبُ مني، على أتم وجه، وأرجو أن تكون استمتعت وتسليت بحديثي لأن أحد أقاربك جاء، ويريد الدخول الآن إلى غرفتك.
  • Like
التفاعلات: حيدر عاشور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى