زكي نجيب محمود - حوار الفلاسفة

ومن أحق من الفلاسفة بالبعث العاجل والنشور السريع؟ وهل تظن أن تلك القبور الضيقة المقفرة تستطيع أن تضم في جوفها هذى العوالم الفسيحة العامرة حينا طويلا من الدهر؟ أفتظن أن تلك الأجداث الشرهة التي لا تنفك فاغرة الأفواه تلتهم الفريسة تلو الفريسة بقادرة على سحق هذي العقول الجبارة، وأثارتها نقعا تسفيه الريح مع الهباء؟ أم كنت تحسب أنهم بشر كالذي عهدت من بشر؟ كلا! فاولئك الفلاسفة جبابرة عتاة، لا تكاد تتلقاهم يد الموت حتى تسلهم إلى حياة الخلود والبقاء، وعندئذ يلتئم الصدع الذي ضربه الدهر بينهم، فتأتلف منهم القلوب وتمتزج النفوس، كأنما دفعهم الله إلى الوجود كتلة واحدة منذ الأزل، فنثرتها يد الدنيا وفرقت أجزاءها على تعاقب الدهور، ثم عادت اليوم سيرتها الأولى، وحدة متحابة مآخية.

ولست بهذا الحديث أفترى منكراً من القول: إنما أقص عليك حديثاً تحدر من الشفاه واهتزت به الآذان فأسوقه إليك كما وقع:

هناك في الملأ الأعلى، انعقدت طائفة من الفلاسفة بالأمس القريب، ولم يكد جمعهم يستوي فوق الأرائك، حتى نهض من الحضور أقدمهم عهدا بدار الخلود - سقراط - وأخذ يشير بيمناه إلى الجلوس واحداً فواحدا، في تؤدة هادئة رزينة، فيعرفهم بأسمائهم التي أطلقت عليهم في دار الفناء، ولم يكن ذلك تعريفاً لهم بمجهول فهم عصبة واحدة منذ الأزل، ولكن خشية أن تكون شواغل الأرض قد محت سالف الذكرى:

هذا سبينوزا صاحب وحدة الوجود، وهذا ليبنتز الذي كان للناس بشيرا بما في الكون من خير، وهذا فولتير عظيم الساخرين، وهذا روسو نصير الطبيعة. وهذا شوبنهور صاحب إرادة الحياة. وذلك نيتشه صاحب أرادة القوة. . . فتباسم الفلاسفة، وأجالوا الأنظار لكي تتعرف الوجوه. أما ليبنز، فقد ثبت بصره في فولتير، وأخذ يحدق به في شيء من القلق، ما لبثا أن التقت منهما النظرات، فأرسلها فولتير ضحكة رقيقة وقال:

- فولتير - أراك يا عزيزي قلقا نابيا، لا بطمئن بك المكان ولا تطمئن إليه؟

ليبنتز - كلا! بل أنا موفق مجدود، إذ ضمني وإياك مجلس واحد، فما زلت أتمنى ذلك وأرجوه، مذ جاءني نبأك، وعلمت عنك تلك الطعنات الدامية التي صوبتها نحو رأيي في العالم وخيره

فولتير - أوه! لقد أنسيت كل شيء. . وكأنما أذكر الآن حلما مبهما يجول في حنايا الرأس. . . ها هوذا ينجلي ويتضح. . . لقد ذكرت! فأنت الذي زعمت يوما أن تلك الحياة الفانية مفعمة بالخير مترعة بالآلاء والنعم، وأنه لم يكن في الإمكان أبدع مما كان!. .

هذا كثير - لعمر الحق - أن يقال في عالم سداه الشر ولحمته البؤس والشقاء!

ليبنتز - أليس الله، وهو رب الكون وخالقه، حكيما عميق الحكمة، خيرا واسع الخير؟ وصور لنفسك هذه الحكمة المطلقة فقد تآزرت مع ذلك الخير الأسمى في خلق العالم ثم حدثني كيف يكون. أليس من المحقق أن يجيء العوالم؟ هذا حق لا ريب فيه، لأن الله تعالى يصدر عن منطق مستقيم يتفق مع كماله ولابد لذلك المنطق الكامل إن ينتج عالما أدنى ما يكون إلى الكمال لأنه إذا خلق عالما دون المستطاع، كان في عمله ما يمكن تهذيبه واصلاحه، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

فولتير - أما أن في العالم شرا فحقيقة فوق الجدل، وإذن فاختر لنفسك واحدا من اثنين لا ثالث لهما. إما أن يكون الله قادراً على ان يرفع عن العالم السوء والشر ولكنه لا يريد، وإما انه يريد ولا يستطيع، وكلا الفرضين شر من أخيه! لك أن تقول عن العالم ما تشاء؛ أم أنا فقد كنت في تلك الحياة الدنيا شقيا بائسا، قرحت كبدي الكوارث، وكلم فؤادي العنا والألم، ومع ذلك فقد كان لزاما عليَّ ان أحيا!! وأحسب أنني لم انفرد بذلك العبء الثقيل، فلست أشك في أن الأحياء جميعاً قد عانت من الشر ما عانيت. . تذكر يا عزيزي ليبنتز ذلك العقاب الكاسر، وهو ينقض على فريسته الوديعة المطمئنة، فينهشها بمنقاره المرهف العاتي، وعبثا ترتعش منها الفرائص وترتجف الأعضاء، وعبثا تصيح، فصيحات الغوث ذاهبة في الفضاء والعقاب ماض لا يحول نابا ولا ينزع مخلبا، وعندئذ هبط على العقاب نسر جارح مزق منه الأشلاء ونثر الدماء، وأخذ يلتهم طعامه هنيئا ولولا أن صائدا من الأنس قد كمن له في الغاب، وما هي إلا لحظة حتى أرسل إليه قوسا كانت تحمل حتفه سهمها، فلما ان جاء ذلك الإنسان الظافر إلى حومة الوغى، ودارت رحى الحرب، داهمه الردى، فانقلب صريعاً يسبح في لجة من الدماء البشرية فيرطم جسدا هنا وشلوا هناك!! وتدور عجلة الدهر فإذا الإنسان الشامخ بأنفه قد بات طعاما تتخطفه العقبان والنسور!! تلك هي أسطورة الحياة يا عزيزي.

حلقات متلاحقات من عذاب مر أليم، تنتهي بالحياة إلى الموت والفناء. . مأساة ترتعد من هولها الفرائص، وتطير منها النفوس شعاعاً، أفتزعم بعد هذا أن شقاء الفرد سبيل إلى سعادة المجموع وتصيح بصوتك المرتعش المتهدج ان ليس في الأماكن أبدع مما كان؟ لعمري انك لفي ضلال بعيد، إلا أن الكون بأسره لينهض الآن لسانا ناطقا بإنكار ما تقول، بل لكأني ألمح قلبك الذي تحمله بين جنبيك، ينبض في ثورة وجموح ليرد ما يفيض به رأسك من خداع. أليس من سخرية الدهر وعبث القدر ان تكون الحياة لغزا مغلقا من دون البشر، وأن يكون الإنسان وهو صاحب الدار دخلا لا يعلم من أمرها شيئا، فلا يدري أني جاءت به الحياة، ولا أين يذهب به الموت؟ بارعاك الله! لله ما أمرك حياة تلك التي كتب علينا أن نحياها حينا من الدهر، وعجيب الأمر أن ترى من الأقوام الغافلين من تنطلق ألسنتهم بحديث السعادة والخير؟!.

عفواً أصدقائي، فإنما تحدثكم الآن ما أثخنته الحياة في نفسي من جراح دامية لم تزل عندي عميقة الأثر قوية الذكرى.

سبينوزا - أي عزيزي فولتير! هون على نفسك الامر، فليس الفرد إلا جزءاً من كل عظيم، وانك لتبتغي شططا إذا أردت أن يصغي الوجود بأسره إلى صالح الأفراد، وهي متنازعة متنافرة. ان في ذلك لشراً وفوضى. فلست أرى في الكون إلا قانونا خالداً وصوراً فانية، وحسبه دقة وكمالا أن يسير ذلك القانون في استقامة لا التواء فيها ولا شذوذ، أما هذه الصور المادية الزائلة التي تروح وتغدو، فلا يضير الكون في كثير أو قليل أن تشعر بألم أو سعادة! وهل تستطيع أن تحدثني عن الشر والخير ما هما؟ انهما لفظان قد اصطلح عليهما البشر، وليس لهما في عالم الحقيقة وجود. . .

خذ قلماً وقرطاسا، وارسم طائفة من المثلثات المختلفة نوعا وحجما ثم امح منها ما تريد، وارسم سواها أو لا ترسم شيئاً، والبث هكذا ساعة من زمانك، غير في أوضاعها وبدل في أشكالها ليكون لك في النهاية زخرف جميل. . . هب تلك المثلثات كائنات شاعره يتعاورها السرور والألم، وأنك علمت أن واحداً منها غاضب لأنه جاء من الزخرف في مكان منحرف، وان ثانياً بائس مسكين لأنه لا يتمتع بأضلاعه الثلاثةتامة كاملة، وثالثاً يعاني مرارا الألم لان الممحاة قد أتت عليه فأزالته من الوجود. . . فماذا أنت قائل إزاء تلك الأهواء المتنازعة؟ انك لن تفهم لها معنى، لأنك تنظر بمنظار اخر أعم وأشمل.

نيتشه - أؤيد سبينوزا فيما يقول، ولست أفهم هذا التفريق بين الخير والشر، فكلاهما خير للبشر، ولو لم يكن الشر خيراً لما صمد في معترك التنازع على البقاء، بل محى من الوجود منذ أمد بعيد.

فولتير (يضحك) - هل أتاكم حديث الواقعة التي نزلت بلشبونة، إذ زلزلت الأرض زلزالها فأردت ثلاثين ألفا من رجالها؟ ويأبى القدر إلا أن يمعن في السخرية، فيجمع عدة من هذه الألوف بين جدران بيت من بيوت الله، فينقض على البؤساء ذلك البناء المقدس وهم يؤدون الصلاة!! ثم يعلن القساوسة في جرأة وقحة بأن الكارثة إنما جاءت جزاء وفاقا لما قدمت أيديهم من ذنبوب!!!

روسو - وهل تريد ان تلقى التبعة على غير الإنسان؟ فلو هجر المنازل وطلق المدن إلى حيث الطبيعة الطلقة الطاهرة، لما تهدمت فوق رؤوسهم جدران ولا ركمت سقوف!

فولتير - هل جاءك يا عزيزي روسو نبأ الفتى كانديد؟

ذلك الصبي الألماني الذي لبث يأخذ العلم عن أستاذ فيلسوف؟ لقد أبى الدهر عليهما حياة هادئة، فأرسل عليهما المصاب في اثر المصاب حتى اضطر إلى الرحيل إلى لشبونة، وكأنما أراد الدهر إلا يغمض عنهما جفنا، فكانت تلك المأساة المروعة التي حصدت الأحياء حصداً بالألوف؛ ولكن الفتى وأستاذه قد أفلتا من يد الموت، والتقيا في فزع ورعب، وبيناهما في سمر الحديث، يرويان ما صادفا من هول، إذا بامرأة عجوز تجيء إليهما من أقصى المدينة، فنقص عليهما ما لاقته من هول تشيب له ناصية الطفل الرضيع، (ولقد حدثتني النفس مائة مرة بان ألقى عبء الحياة عن كاهلي، ولكن على الرغم من ذلك قد أحببت الحياة!!. . .)

تبت يدا الإنسان، إنه لفي ضلال مبين، أترون كيف ينوء تحت أثقال الحياة، ثم يقبل راضيا أن يظل ذلك العبء فوق كاهله، مع انه يستطيع أن يلثقه إلى الأرض بعزمة واحدة؟! ولأعد بكم إلى حديث الفتى كانديدن فقد أرهقته محاكم التفتيش، ففر هاربا إلى بارجواي بأفريقيا، ولم يكد يجوس خلال أرضها حتى أبصر - ويا لهول ما أبصر! - أبصر رجلا يضم أعواد القصب مرغما، وهو يئن من فداحة الألم، كان يعمل مبتور الساق والذراع، ولابد أن يعمل في جد وإلا فضربات السياط - سياط الشركة الأوربية التي تستغله وتستذله - مسلطة فوق ظهره، ولا يدثره غير أسمال قذرة بالية. . . وهكذا كان كانديد، كلما قلب صفحة من كتاب الدهر ألفاها مترعة بالعناء والأذى، وما أحسب الجدران والسقوف قد اقترفت من ذلك العدوان شيئا.

ليبنتز - ومن ذا الذي يود أن يعيش في علم لا ألم فيه ولا عناء؟ أليست المرارة القليلة ألذ مذاقاً وأشهى طعاما من السكر الحلو؟ وهل الشر إلا سبيل للخير؟ فلعلك لو علمت مبعث الشر لخففت من هذه الغلواء، فقد خلق الإنسان مغلولا بطائفة من أصفاد المادة، ولكنه فطر على أن يجاهد في تحطيمها ما استطاع ليصل إلى مرتبة الكمال، ومبعث الشر جميعا هو ذلك الجهاد العنيف الشاق الذي يبذله الإنسان في هذه السبيل، وإذن فليس الشر مقصوداً لذاته، وإنما هو سلم للصعود إلى الكمال.

شوبنهور - لست أرى إلا أن الإنسانية مدفوعة أمام إرادة الحياة دفع الخراف، ولقد زودتها بجعبة من الرغبات تلهب ظهرها وتستحثها على السعي كلما أبطأ بها المسير، وفي تلك الرغبات سم الإنسان الزعاف، لأنه كلما حقق واحدة قامت في سبيله عشرات، والحياة لا تمنحنا أمنية إلا كما يلقى الجواد بإحسانه إلى السائل المحروم، فهو يضر كثيرا ولا ينفع قتيلا، لأنه يطيل في أجل بؤسه يوما آخر. . سر أنى شئت تجد بين الأحياء تنازعا وتنافرا، حرب ضروس وقتال طاحن، وفيم الحرب والقتال؟ لكي يقيموا حياة كلها تعب وشقاء أمدا قصيرا من الدهر. فلو أننا أدركنا رجحان العناء على الجزاء، لعلمنا كم نبذل الثمن باهظا لقاء أنفاس معدودات! الحياة هي الشقاء والشقاء هو الحياة، وجدير بك - أي عزيزي ليبنتز - أن تنقح من عبارتك بحيث تكون: (ليس في الإمكان أسوأ مما كان) لقد كان خيرا لنا ألف مرة إلا تكون! ومن ذا يحدثني عن مهزلة الحياة: فيم بقاؤها وما غرضها؟ ولشد ما يدهشني على الرغم من ذلك أن أرى الكائنات بأسرها تتشبث بالحياة، وتبذل في حراستها كل ما تستطيع، كأنما هي ذخر ذو غناء! إلا من يحدث الناس عني أن يكتموا الأنفاس دفعة واحدة لكي يردوا للحياة كيدا بكيد؟ تقدمت من سقراط في بصر خافض وأدب خاشع، وسألته أن أطلع قراء الرسالة على حديثهم ذلك، فخشي أن ينسب القراء إلى كاتبه بعضه أو كله، فطمأنته بأن القراء في مصر على كثير من الذكاء

زكي نجيب محمود

مجلة الرسالة - العدد 35
بتاريخ: 05 - 03 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى