عمر الصايم - أضراس الأرض

أقف بين الصخرتين، أهتف لنفسي، أنا ابن الذبيحين؛ مهنتي وقلمي. الأرض الناتئة من حولي كصفحة جسد شوهته الدمامل. تركت صبيان المدرسة بلا معلم لغة عربية، ضاقت بي سلة الحياة، وتجاهلتني أمنا الدولة! ومن يأبه لقواعد الإملاء، واللغة بعدما صار للجميع صفحاتهم، يكتبون عليها ما غث، وفسد؟ من يأبه لجوع ابنتي، واشتهائها الحليب؟ أولست أنا من أنجبها في منتصف العمر كطفرة حياتية؟!
على منأى من قدمي تهب عاصفة صغيرة، تجول على هيئة دائرة شريرة. كنا نسميها (عصار إبليس) ترتعب طفولتي الكامنة بين شيبي؛ أهمهم:(محمد معانا؛ ما تغشانا) كل الأبالسة تنشب مخالبها في فضائي. أتربص بمثانتي، تكاد تنفجر على سروالي القذر. يشتد الإعصار، وأنا أتلو تعاويذي، أفتح عيني من بعد إغماضة قسرية، أمضغ ذرات الغبار التي ولجتني من كل فوهة، أمرغ عيني في سحابة الأتربة، ثم أنظر أسفل قدمي بين الصخرتين، أراها؛ أجدها-- أنا -- قطعة من الذهب. تربض كعرش مارد! طفر دمعي كنافورة تغسل غبار أجفاني، وتسقي تجاعيد خدي. تذوقت الدمع ممزوجا بذرات الغبار، اذدردت سحابة من حزني الجسيم. ظل الإعصار ينأى عني، ويتعالي فوق سطح هضبة قاحلة.
بلا تهيب قررت أن احملها، أسابق الإعصار العنيد، إذا عاد؛ فسيقتلعني، ويلقي بي مندغما مع الصخور. مددت يدي نحو ( الدهباية العظمى) انحنيت أولا، لا بل أقعيت ككلب، جثوت كجارية مرتعدة. أسمع صوتا هادرا قبل أن ألامس ذهب الأجداد، يمتلئ الفضاء بالصوت وصداه
-- لا تحملها؛ هي ليست لك!
أتخيل أنه قد مسني خبل! جسيمة هي المفاجأة، أيما فقير في قاعي ستنتاشه الوساوس، تشجعت مغمض العينين، مددت يدي لأقتلع نصيبي من ثروة أرضي، نصيبي وحدي لا شريك لي. دهمني الصوت
-- إياك ثم إياك!
يد ما تهزني من كتفي، رعشة تسري في عروقي، أرفع رأسي؛ لأرى أي قوة تلك التي تتوعدني؟ هل حقا ثمة مردة تحرس الذهب؟ ولماذا لا تداهم الشركات التي حفرت أمعاء الأرض بآلياتها الثقيلة؟ رأيت الإعصار يتشكل على هيئة إنسان، كلما اكتمل رسمه بدا لي أنه يشبهني، هو أنا، ذات الملامح، الأنف الكبيرة والعينين الغائرتين. يقف الرأس على أغبرة كأنها سجادة من السحب الدكناء. ملامحة التي تشبهني أذهبت عني الرعب، لا قرون حادة، ولا أنياب تقطر الدم. سأستجمع شجاعتي؛ لأقول لقريني الغباري
-- بل هي لي، سأمتلكها؛ مهما قلت لي.
مر بذهني طابور الصباح، وسمعت أجراس المدرسة، شعرت بحضن ابنتي الدافئ، ولحظات الانتظار التي تتوجني بها زوجتي، ثم خيبة أملها وأنا أتمرغ بهما في مستنقع الفقر اليومي.
قلت للصوت الغباري
-- لو أخذتها؛ هل ستقتلني؟
رايته يبتسم؛ فتتطاير من خديه ذرات تراب تغمر وجهي.
-- لا! لست قاتلا، هذه آخر قطعة ذهب في أرضكم، لو اخرجتها واكتنزتها؛ ستجلب اللعنات على الناس.
تذكرت مسرحية ( عابد الذهب) التي علموني لها في الابتدائي، هتفت له بمقطع منها (الذهب الذهب.. يكاد عقلي يذهب)
حملت (الدهباية العظمى) على كتفي، وهممت بالانصراف، وهو يقول لي
--- لا تدع أحدا يراها، وإذا حلت الكوراث عليكم، فادفنها في باطن الأرض، ساعتها تنجلي عنكم اللعنات.
حين صمت تكسرت صورته، وهوت ذراته على الأرض؛ لم يعد لي شبيه في هذا الخلاء، أنا وحدي الآن، سأسير بلا خوف. قهقهت في خلائي، واسمعت الأبدية أعلى ضحكاتي. سأتعمد أن أطأ الثرى الذي انتهى إليه رجل الغبار، أدوسه بحذائي وأبعثره حفنة حفنة.
أذكر الآن أن الأرض اهتزت بي لحظة تحركت نحو عربة (اللوري). طويت قلبي على سري، دسست سبيكة الذهب في جوال الفحم كأنها صخرة كبيرة، يعتقد زملائي أنني سأطحنها عند أول مدينة. وعيد رجل الغبار ظل يطاردني، وأنا أهرب منه. تكومت في مؤخرة (اللوري) مع العائدين بخفي حنين، وانا أحمل ذهب تهارقا، قسمتي مما ترك الأسلاف.
اهتزازات العربة تزداد، كأنها تمشي على أسنة، صارت تتقافز كضفدعة. توقف السائق، ونزلنا منها، كنا على مشارف سويعات من الخرطوم. رأينا الأرض تخرج أضراسا من صخور، نبت صخري يشبه ضرس الإنسان، تنمو كخلايا سرطانية. كنت أسمع نبض من حولي، وقلوبهم تعدو من أقفاصها! أبعدت عن ذهني فكرة اللعنات، تشبثت بجلبابي الأغبر وأنا أرمق جوال الفحم. أحدهم خرج عن خوفه، وأشار للسائق بتشغيل الراديو؛ لنعرف سر ما يحدث. انبعثت من الراديو مارشات وأغان وطنية كتلك التي تسبق الانقلابات العسكرية، توجسنا أكثر. توقفت الموسيقى، لبرهة تخيلنا أننا سنسمع صوت عسكري يتلو البيان (رقم واحد). داهمنا صوت المذيع المألوف منذ أربعين عاما، يقول
( بعد التحولات الجيلوجية غير المفسرة، وظهور ما عرف بأضراس الأرض، والتي تنمو وتتكاثر على نحو مخيف؛ أصدر السيد/ رئيس الجمهورية قراره الرئاسي بإنزال الجيش إلى الشوارع؛ حفاظا على الأمن، وحماية لأرواح المواطنين الشرفاء) ثم انقطع البث. قررنا أن نعدو بالعربة فوق أضراس الأرض، ركبناها وهي تمخر الأمواج الصخرية، كلما التفتنا للوراء؛ وجدناها تنمو وتلتحم ببعضها، لابد أنها تحولت في المسافات التي تركناها على بعد مائة كيلو متر إلى آفة عملاقة. تخيلت أن أئمة المساجد ملجمون، منهمكون في الكتب القديمة بحثا عن سابقة تاريخية، وانشغلت عنهم بالتفكير في صغيرتي، زوجتي، وبيتي الطيني المتهالك، حتما سأسعدهما عندما تنتهي هذه الكارثة، ربما أحملهما خارج البلاد المتقيحة، وأغرسهما في أرض مريحة.
في الخرطوم وجدت الناس قد عسكروا في الميادين، يصطرعون في هلع، الجيش محيط بهم، كأنه يحميهم، وهم يهمسون بأنه يحمى القصور منهم. في اقرب ميدان لمنزلي وجدت زوجتي وابنتي، حضنت صغيرتي، ودموعها تبلل صدري، قبضتها بيد واحدة وبالأخرى أمسكت بجوال الذهب. رمقتني زوجتي دامعة وهي تقول
-- الأضراس تحاصر الخرطوم!
كم تمنيت أن تأكلها، ثم تتقيأها في الخلاء! لكنني لم أبح لها، منذ أن تزوجتها فأنا زوجها الكادح الصبور. قلت لها
--- سنذهب إلى بيتنا، لا يعنينا هنا شئ.
حدجتني كأنثى القط، لم ترني على هذا النحو من الأنانية، تحسست بعينيها الجوال، ثم تبعتني.
الدبابات في الشوارع، تعلو الهتافات، تتداخل مع التكبيرات، وأنا أنسحب إلى بيتي الطيني بصحبة ثروتي. كل البيوت بلا طعام ولا ماء، انهارت شبكة المياه في الأيام الأولى لتمرد الأرض. صرت أخرج يوميا إلى الميدان لأجلب حظنا من المياه التي تجلبها تناكر الحكومة من النيل المتضائل.
سمعت في الميدان أن الأضراس على تخوم الخرطوم أجهزت على السهول، هربت الكائنات إلى مصائرها الغامضة، تكاد الأرض المتوحشة تطبق على عنق المدينة الكبيرة. عدت إلى البيت، والطقس يشتعل بالحرارة، الأكسجين لا يكفي رئتي. ساورتني فكرة أن أبوح لزوجتي، لكن لهفة طفلتي للماء منعتني الكلام، سقيتها، واتكأت على جدار.
بعد أيام عادت تناكر الحكومة إلى الميدان بلا ماء. شفاه الناس متشققة كأرضهم، رائحة العرق، ووسخ الأجساد تسمم الجو. يمتلئ الفراغ بهتاف العطشى، والجوعى، ماء.. مااء.. ماااء! لم ينتظر الضابط البدين، المضمخ برائحة المحلب أن تتغير الهتافات إلى شعارات مناوئة، قفز إلى سطح التنكر الأعظم، بدأ يضع كلماته على مكبر الصوت (اسمعوا يا ناس! الكارثة اكبر من امكانيات الدولة، الحكومة أعلنتها للمجتمع الدولي، في غضون أيام ستصلنا الإغاثة بالطائرات، قريبا سنقذف لكم من الطائرات قارورات الماء الصحي. الجبال منعت النيل عنا. اصبروا ورابطوا. والله اكبر ، والعزة لنا)
الجموع تهذى بصوت خفيض ماء ماء ماااء!
انسللت من بينهم، وأنا أشعر بحوجة ماسة للتبول، ولا شئ سيخرج من عروقي الجافة سوى ما تبقى من دمي.
لم أتخيل أن الطائرات ستقذف قوارير الماء، أو أن النيل سيتجرأ ويقتحم الحدود، حتى المطر حلم بعيد المنال في هذه الحفرة.
ما ظللت أفكر فيه هو كيف سنحيا؟ في البيت رأيت ابنتي مغمى عليها، جسدها مسجى في حجر أمها؛ صعقتني الإجابة، سنموت جميعا، أطفال وعجزة، شرطة وشعب، سود وبيض، عاهرات ودعاة، ستثأر الأرض لكبريائها، وتبتلعنا جميعا. مازالت أنفاس ابنتي تتردد في صدرها؛ فتحت فمها وقذفت فيه من ريقي، ألقي به في فمها وهي تتلقفه كفرخ حمامة. قلت لأمها: اسقها بفمك. وذهبت إلى الغرفة حيث أخبئ سبيكة الذهب، أخرجتها بيدي، جلست أحفر بمخالبي، ينتابني إحساس كلب نادم. يداي تغوران في الأرض وذهني يضج بما سيقوله الراديو غدا عندما تذهب اللعنات، سيقول:
-- نجحت البلاد في عبور الأزمة بتفاني علمائها، وصبر أهلها الطيبين!
-- بلدنا محروسة!
-- لولا تقوى الشعب؛ لما نجا!
سيقال إفك عظيم، ولن يذكرني أحد، لم يعرفوني فقيرا؛ ولن يعرفوني غنيا. لم يهتموا بي معلما؛ ولن يجعلوا مني بطلا، هكذا أنا أضيع من ذرة تراب في ذيل فيل!
وضعت ( الدهباية العظمى) وأهلت عليها التراب، تتردد في حنجرتي الآية:( وإذا المؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت). سويت الأرض عليها، ثم وطأتها بقدمي. فجأة هب إعصار من أركان غرفتي. لم أخف هذه المرة، كنت أتوقعه! بدأ يدور حولي، وكأنه سيطويني في دوامته ويخترق بي السقف، ظللت واقفا بجسارة، وهو يلفني كتعويذة. انسحب عني وصفع الحائط بقوة، قبالة الحفرة تماما، راسما من ذرات الغبار وجهي على الحائط، وجهي وعليه ابتسامة غامضة، لم تلحق به طوال سنوات شقائه، على رأسي - الرسمة -- يتناثر شيب من أغبرة الطباشير.
مازالت اللوحة باقية على الجدار، تبتسم لي عند كل صباح، أبدا لم يسألني عنها أحد، ربما ليس بمقدر إنسان أن يبصرها مطلقا.
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى