دريني خشبة - حرية الفكر أيضاً...

ينصب بعض السادة الكتاب من أنفسهم أبطالا للدفاع عن حرية الفكر، ويعد بعضهم أنفسهم شهداء لهذه الحرية المكبوتة في زعمهم، المضيّق عليها تضييقاً يذهب صديقنا الدكتور زكي مبارك إلى أنه لم يسبق أن حدث مثله في الأمم الإسلامية قط

وندع الآن ما ذهب إليه الصديق الكريم من هذه الدعوى، لنلفت أنظار القراء إلى شيء ظريف جداً يصدر عن أولئك الأبطال الكرام، عن قصد ظريف جداً كذلك

وليس هذا الشيء الظريف الذي نلفت إليه أنظار القراء الآن شيئاً ظريفاً واحداً، ولكنه أشياء ظريفة يأخذ بعضها برقاب بعض. فتكون آخر الأمر موضوع هذا الشيء الظريف

عندما تناولنا موضوع كتاب الأستاذ الرصافي، وقفنا منه إزاء كتاب يتناول ديننا كله، ومعتقداتنا جميعها، فيتأولها تأويلا لا يجوز إلا في عقل مدخول. . . فإلهنا - في زعمه - هو هذا العالم الذي تعرف من العلم الحديث كيف نشأ. . . ونبينا، هو أول مبتدع لهذا الهراء، كما إنه مؤلف القرآن وقائله. ونظرية وحدة الوجود تلك التي ابتدعها محمد هي أرقى ما وصلت إليه الفلسفة الإسلامية، والإيمان بها ينافي الإيمان بما جاء به الرسول الكريم من خلق الله لهذا العالم، والدعوة إلى عبادته ودعائه والإخبات له، وما قال به من نشور وحساب وثواب وعقاب وجنة ونار. . . ثم تساوى الخير والشر والضلال والهدى والتقى والفسوق والأبيض والأسود. . . والسجود بين يدي الله والإكباب على الحليلة. . . أمام الله كما يزعم الرصافي في رده علينا. . . استناداً إلى زعم الجنيد، أنه سبحانه، هو الهادي وهو المضل، وما دام الله كذلك فلا يكون ثمة معنى للحساب والثواب والعقاب والجنة والنار على نحو ما يؤمن بذلك المسلمون كافة. . . ذلك الإيمان الساذج الفطري الذي لا يسيغه عقل. . . لأن العقل لا يسيغ أنباء الغيب ولا يهضمها. . .

ولما كان الرصافي - هداه الله - ينتمي إلى المسلمين، وقد لغا هذا اللغو الذي كان يلغو به من قديم، فقد وقفنا منه وقفتنا التي يحتمها علينا ديننا، لأن دعواه تقلب هذا الدين بجميع عقائده رأساً على عقب. . . وما ظنك بدعوى تنسخ العبادات نسخاً لا يجعل لها ضرورة، لأنها لن تغير مما قضى الله من شيء، ثم ما ظنك بدعوى تجعل الله مأكولا مشروب منظوراً مشموماً تدركه الحواس كلها. . . لأنه الوجود كله. . . ثم الرصافي يزعم أن هذا هو حقيقة الإسلام، أما ما يؤمن به السذج البسطاء أمثالنا، فهو ظاهر الإسلام، أورده الرسول الكريم على سبيل التمثيل، ومن باب مخاطبة الناس على قدر عقولهم، ثم أخفى عليهم تلك الحقيقة الخائبة فلم يطلع عليها إلا أبا بكر، حتى جاء فلاسفة الإسلام الأعلام - الحلاج والجنيد وابن عربي والجيلاني والتلسماني وابن سبعين ومن لف لفهم، فوقعوا عليها وكشفوا سرها وجلوها للعالمين

فلما نفينا أن يكون هذا إسلاماً، وإسلاماً جاء به فخر الكائنات محمد بن عبد الله، وأثبتنا للأستاذ الرصافي أن اليونانيين عرفوا وحدة الوجود قبل نبينا بألف سنة أو نحوها أو أكثر منها - وإن زعم هو أننا لم نأت بجديد - تفضل بعض مفكرينا المحبوبين من غير المسلمين بالاشتراك في هذا الموضوع، على أنه موضوع عام يحل لكل إنسان أن يشارك فيه برأي. . . ولم يبالوا في سياق كلامهم أن يعلنوا على صفحات الرسالة أنهم لا يؤمنون إلا بالمادة. . . أما ما وراء الطبيعة فلا شأن لهم به. . . فرحبنا بمشاركتهم، ولما آنسنا أنهم لم يفطنوا إلى أن الموضوع يبحث من وجهة نظر إسلامية خالصة، نبهناهم إلى ذلك بأرق عبارات الذوق الذي دعا إليه الأنبياء يا صديقي الدكتور زكي. . . لكنهم كتبوا ما لمحنا في ثناياه أنهم غاضبون أو شبه غاضبين، فلم يشق علينا أن نعلن لهم أسفنا، ولم نناقش الآراء التي أعلنوها لحرصنا على أن يظل الموضوع محصوراً في أفقه الإسلامي، ولأننا كما أعلنا غير مرة، غير قوامين على حرية الفكر في مصر ولا في غيرها من بلاد الله. . . فليعتقد من يشاء ما يشاء، بشرط ألا يجعل عقيدته دعوة يدعو إليها ويجهر في كتب ينشرها بأنها هي الحق، وأن ما نؤمن به هو الباطل. . . وبشرط ألا يفتري على الله وعلى رسوله إفكاً ينزههما المسلمون عنه. . . فإن فعل ذلك، وكان من انتسابه إلى المسلمين ما نعلم، فماذا ينكر منا أفاضل العلماء الذين لا يؤمنون إلا بالمادة حين نقول لهذا القائل إنه ملحد، وإنه زنديق؟! وقد قال هو إن إلهنا هو هذا الوجود المأكول المشروب المنظور المشموم الذي تدركه الحواس كلها، وإن نبينا هو هذا الرجل الذي ألف القرآن. وزعم - غير قاصد شراً! - أن الله هو قائله وموحيه، لأنه كان أول من عرف سر وحدة الوجود؟! فإن لم نسم هذا الرجل ملحداً زنديقاً. . . فماذا يكون يا ترى؟ أيكون سيد العارفين بالله الذي نؤمن به؟ وهل من حرية الفكر أن يقول ذلك رجل ينتسب إلى المسلمين، فإن رد عليه رجل من المسلمين وسمي قوله هذا إلحاداً وزندقة، صاح حضرات الأفاضل العلماء الأعلام الذين لا يؤمنون إلا بالمادة، وينكرون ما وراءها: لقد خنقت حرية الفكر في مصر وفي الشرق، ثم هتفوا بالعلماء الأحرار في مصر وفي الشرق أن يُقْنُوا وأن يرعووا، وألا يصرحوا بالحق الذي يؤمنون به في هذه البيئة المؤمنة الساذجة المتزمتة، حتى لا يرموا بالإلحاد والزندقة!

هنا واحد من هذه الأشياء الظريفة التي وددت أن ألفت إليها أنظار القراء!

فهؤلاء العلماء الأعلام الذين لا يؤمنون إلا بالمادة يريدون أن يثبتوا في أذهانكم يا قراءنا العوام السذج المؤمنين أمثالنا أنهم على حق فيما يذهبون إليه بشأن هذا الوجود، وأننا على باطل. . . لأن الوجود قديم، ولم يخلقه إله قادر مستقل عنه كما يفهم بسطاء المسلمين والمسيحيين واليهود وأهل كل ملة ممن ليسوا علماء أعلاماً أمثالهم، لأنهم لم يدرسوا فلكاً ولا منطقاً ولا علم طبقات الأرض ولا فيزيقا ولا كيمياء ولا فلسفة، ولا هذا الثبت الطويل من العلوم التي أعشى في دراستها علماء المسلمين الأعلام أبصارهم، ولم تضل مع ذاك بصائرهم

بهذه الطريقة يريد هؤلاء العلماء أن يثبتوا في أذهانكم أنهم على حق، لأنهم ينطقون بلسان العلم الذي لا يضل، أما مناظروهم فينطقون بلسان هذا الحشد الحاشد من الأساطير الدينية، التي هي من أنباء الغيب، فليس لعقل رأي فيها!

أليس ذلك شيئاً ظريفاً جديراً يلفت أنظار القراء إليه؟!

ومما يلحق بهذا الشيء الظريف تصريحهم، ليوهموا القراء كذلك، أننا نظلم الحق، حينما نقحم الدين في الفلسفة. . .

وليفطن قراؤنا العوام السذج إلى المعنى المسموم الذي تحمله هذه العبارة! الحق يظلم إذا أقحم الدين في الفلسفة، لأن الفلسفة وحدها هي التي تعرف الحق وتعرف كيف تصل إليه! أما الدين فلا شأن له بالحق. . . لأن العقل لا يستطيع أن يعلله! ولماذا هذا اللف كله؟ لأن الدين يقول بأن الله هو الذي خلق العالم. . . وهذا قول لسهل هيّن ليّن. . . لم تحسن الفلسفة أن تقول مثله إلى اليوم! لكن الفلسفة مع عجزها أن تقول مثل هذا القول، تزعم أنه قول غير معقول، والمعقول عندها أن يكون العالم قديماً لا خالق له، أو أن يكون الله هو هذا العالم. . . أو الوجود الكلي المطلق! وتحار الفلسفة بعد ذلك كيف يكون هذا العالم إلهاً. وكيف يكون هذا العالم بعجزه وبجره عاقلاً إن كان عاقلاً يا ترى؟! وكيف تم له هذا الإحكام البديع في كل شيء؟ في الأفلاك والسدم والضوء والحرارة والكهرباء والمغناطيس والغازات. والحياة المعقدة في الحيوان والنبات، وفي الحركة، وفي السكون. والمعقول عند الفلسفة أن يكون كل شيء خاضعاً لقوانين الجبر الصارمة، وإذا كان ذلك كذلك فما معنى أن يرسل الله - الذي هو الوجود الكلي المطلق - رسلاً ويتخذ أنبياء؟ هل تستطيع الرسل تبديل شيء أو تغييره؟ إن أمر الرسل إذن عبث في عبث. والرسل - أضل الله الفلسفة - كذابون أدعياء، أو على الأقل، رجال مخدوعون شُبّه لهم أنهم ينطقون بلسان الله، الذي هو الوجود المطلق الكلي!

هذا هو بعض الهذيان الذي تريد الفلسفة أن تدسه في روع المؤمنين من القراء البسطاء الذين يؤمنون بأن الله خلقهم، فتحاول الفلسفة إيهامهم أن العلم لا يسيغ هذا ولا يهضمه، وإن كان يسيغ الشكوك والوساوس ويهضمها!

أفليس ذلك شيئاً ظريفاً جديراً بلفت أنظار القراء إليه؟!

وشيء ظريف آخر يُستملح (!) لفت الأنظار إليه. . . ذلك أن هؤلاء العلماء الأعلام يلحون على أذهان القراء بتذكيرها دائماً أنهم علماء. فهل يقصدون من وراء ذلك شيئاً، غير أن مناظريهم في موضوع وحدة الوجود هم من الأميين الذين يُحكّمون في موضوع هام كهذا عواطفهم، ولا يحكمون عقولهم، إن كانت لهم عقول! وأن هؤلاء المناظرين قوم متدينون والتدين في هذا العصر شيء عتيق يثير الضحك ويدعو إلى السخرية. وأهل التدين في غالب أمرهم قوم شذاذ الإفهام لم يدرسوا فلسفة ولم ينشدوا علماً. فكيف يا أيها القراء النجب تنخدعون بأقوالهم وتنساقون إلى الأخذ بآرائهم؟ إن خليقاً بكم ألا تصيخوا إلى كاتب يحسب نفسه واعظاً في مسجد أو راعياً في كنيسة، ولا أقصد أن أغمز صديقي الدكتور زكي بإبراد عبارته تلك. . .

أفليس ذلك شيئاً ظريفاً من مناظرينا الأفاضل، أن يقفونا تلقاءهم ذلك الموقف المضحك الذي لن يجوز باطله على أحد!

يتحدثون عن حرية الفكر. فماذا أصابهم من ضروب التضييق يا ترى؟! لينتظروا. فسنحدثهم عن حرية الفكر وما لقي إخوانهم الذين سبقوهم إلى القول بوحدة الوجود من ضروب الهوان

ما أكثر الأشياء الظريفة التي كان ينبغي أن نلفت إليها أنظار القراء لولا ضيق المقام!

(للحديث بقية)

دريني خشبة

مجلة الرسالة - العدد 585
بتاريخ: 18 - 09 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى