محمد خليفة التونسي - 7 - الزندقة في عهد المهدي العباسي أصولها الفارسية

وقد أيد زاردشت عبادة النار وشجع على زيادة بناء بيوتها، وذهب إلى أن يزدان في حرب دائمة مع أهرمن لتنازع السيطرة على الكون ولاسيما الإنسان، وأن من يعمل صالحاً يساعد يزدان في النصر على أهرمن، ومن يعمل سوءاً يساعد أهرمن على يزدان؛ ولذا دعا إلى عمل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان مبالغاً في التفاؤل فأدعى أن النصر سيكون أخيراً ليزدان على أهرمن فينتصر الخير على الشر ويقضي عليه، فتبطل المتاعب والفتن، وعندئذ ينتهي العالم. وبين أن الإنسان بعد موته يحاسب على أعماله فمن رجحت حسناته عبر الصراط فلقي يزدان وأنزله منزلاً طيباً، وأن من رجحت سيئاته وقع من الصراط في النار وصار مستعبداً لأهرمن، وان من استوت حسناته وسيئاته صار إلى الأعراف، وهذه الآراء تمثل آراء كثير من الطوائف الإسلامية منذ ظهر الإسلام إلى اليوم، وقد ذهب إلى أن الخير هو الأصل وان الشر طارئ، ويؤيد ذلك الشهرستاني في كتابه الملل والنحل فقد قال: (زعموا أن الدنيا كانت سليمة من الشرور والآفات والفتن، وكان أهلها في خير محض ونعيم خالص، فلما حدث أهرمن حدثت الشرور والآفات والفتن).

ويقول ماسبرو في كتابه (تاريخ الشرق) ما خلاصته: (إن يزدان خلق كل شي بكلمته، وأتخذ ستة أرواح لنفسه من طبقة سامية يعينونه على تدبير شؤون العالم وصونه، وجعل لهم أرواحاً دونهم يأتمرون بأمرهم وهم منتشرون في العالم، وحيال ذلك خلق أهرمن ستة أرواح شريرة تعادل أولئك الستة في البطش وجعل لهم جنداً دونهم من الشياطين يطيعونهم في أداء ما يكلفهم به أهرمن من أعمال، والقوتان دائماً في نضال مستمر حتى ينتصر يزدان أخيراً على أهرمن وعندئذ تقوم القيامة).

ومن تعاليمه وجوب إكثار النسل لإكثار جند يزدان في نضاله أهرمن ووجوب إصلاح الأرض وزراعتها وتربية الحيوان والجد في العمل، وتحريم الصوم لأنه مضعف للقوة وثبط على العمل في الحياة، وتفضيل العمل على العبادة، فمن يحرث الأرض ويبذر فيها الحب ويرويها أكرم ممن يتزلف بألف قربان أو يصلى عشرة آلاف صلاة أو يدعو عشر آلاف دعاء.

ويزعم القلقشندي أن زرادشت: (أدعى النبوة وقال بوحدانية الله وأنه واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند، وأنه خالق النور والظلمة ومبدعهما، وأن الله تعالى هو الذي مزجهما لحكمة رآها في التركيب، وانهما لو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم، وانه لا يزال الامتزاج حتى يغلب النور الظلمة، ثم يخلص الخير في عالمه وينحط الشر إلى عالمه وحينئذ تكون القيامة). والقلقشندي يخلط صواباً بخطأ فيما زعم، وأواخر زعمه تنقض أوائله، ولا يصعب تمييز الخطأ من الصواب في زعمه هذا إذا عورض بما قدمنا في بيان مذهب زرادشت وسيرته، فزرادشت - وأن كان يعتقد بان أصل الكون واحد هو النور - اضطر إلى القول في تفسير الظواهر الكونية والحياة الإنسانية بقوة أخرى ضد النور هي الظلمة ونسب إليها الشر الذي هو ضد الخير، فهو موحد في أصل الكون، ولكنه ثنائي في تفسير ما يجري فيه، ويزدان عنده ليس في تدبير الكون وخلقه واحداً لا شريك له ولا ضد ولا ند، بل له شريك وضد وند هو أهرمن، فهو يقول كالكيومرتية بأصلين. ومما أسنده القلقشندي إلى زاردشت يشبه أن يكون محاولة للتوفيق بين القول بوحدانية الله كما جاء بها الإسلام، والقول بأصلين كما جاءت بها المذاهب الفارسية. وتشبه هذه المحاولة كثيراً رأى أبي العتاهية معاصر المهدي العباسي ومادحه وصاحب جاريته عتبة التي اتهم بالزندقة من أجلها حيناً، ولأسباب غيرها أحياناً أخرى فقد كان يدين بالتوحيد لله ويرى أن للكون طبيعتين على ما سنفصله في موضعه من هذا البحث إن شاء الله، ففي مزاعم القلقشندي هنا ظلال لمذهب أبي العتاهية، ومرجع الخطأ في هذا وغيره عند القلقشندي وأمثاله ممن لم يفهموا هذه الأقوال على أنها رموز - إنما هو الوقوف عند ظواهرها دون التأدي إلى البواطن المستترة وراءها، والجهل بالدوافع التي جعلت أصحابها ينزعون إليها من حيث يشعرون ولا يشعرون، وقياسها على غيرها من المذاهب الدينية دون مراعاة الفوارق كما أشرنا إلى ذلك قبل.

أما اتهام القلقشندي وأبن الأثير زرادشت بادعاء النبوة فأرى أنه غير صحيح، فأبن خلدون يقول فيه إن المجوس يزعمون نبوته ولم يقل إنه ادعى النبوة، وهناك أبو الريحان البيروتي، وهو أولى أن من تسمع شهادته في هذا الموضوع، لأنه أقدم من أبن الأثير والقلقشندي وقد كان فارسياً عارفاً بالثقافة الفارسية واللغة الفارسية ومؤلفاً بها وأطلع بنفسه على بقايا الطوائف التي تدين بالزرادشتية وغيرها في عهده واتصل بهم، وهو أكثر استقصاء وإحاطة بهذا الموضوع من سائر المؤرخين الذين خاضوا فيه وليس لهم ثقافته ولا استقصاؤه ولا عبقريته ولا علمه الواسع بأخبار الأمم الشرقية في عصره وقبله وإطلاعه على حوادثها وأساطيرها وأخلاقها لسياحته فيها ومعرفته بلسانها واتصاله بها ووقوفه على كتبها وآثارها. فلقد عقد هذا العالم الكبير في كتابة (الآثار الباقية) فصلاً عنوانه (القول على تواريخ المستنبئين وأممهم المخدوعين عليهم لعنة رب العالمين) وذكر فيه كثيراً منهم سواء من كانوا قبل زرادشت مثل بوذاسف الذي ظهر بأرض الهند ومن كانوا بعده مثل ماني ومسيلمة ولم يعد فيهم زرادشت، وكل ما ذكره في هذا الفصل أن الملوك البيشداذية وبعض الملوك الكيمانية ممن كان يستوطن بلخ كانوا يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر ويقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت.

فزرادشت لم يدع النبوة كما نفهمها، وما كان الفرس ليفهموها ولا ليتصوروها كما نفهمها ونتصورها نحن حين نسندها إلى الأنبياء الحقيقيين كموسى وسواه من أنبياء بني إسرائيل وكمحمد صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين، أو حين نفهمها ونتصورها كما ادعاها المتنبئون كمسيلمة وسجاح والأسود العنسي، فهذه نظرة في أساسها يهودية، لم تصل إلى فارس إلا في القرن الثالث الميلادي على عهدماني كما سنذكره مع سببه عند الكلام فيه، وأمر آخر يؤيد ذلك هو أن هذا المذهب المنسوب إلى زرادشت ليس له من فضل فيه يتفرد به إلا التنقيح والبيان إذا بالغنا في إسناد الفضل إليه فانه قام بجولة في أنحاء البلاد الفارسية للاستطلاع ومشاورة حكماء الفرس لإصلاح العقائد التي كانت قبله مملوءة بالخرافات وتطهيرها من الشوائب، ولا يتفق الادعاء بالنبوة التي تقضي بنزول وحي من السماء حاسم القول في كل شئ مع هذه الرحلة والمشاورات الواسعة، ومما يؤيد ذلك أيضا أن كيستاسف الملك الذي أعتنق الزرادشتية، منع من تعليمها العامة حين منع تعليمهم كتاب زرادشت، فالزرادشتية كما اصطفاها زرا دشت كانت تحتوي على تعاليم وآراء لا قبل للعامة بفهمها واستساغتها فهي بذلك مذهب خاص وضع كثير منه للخاصة، وذلك لا يتفق وآثار النبوة التي يقصد بها الناس عامتهم وخاصتهم، وبذلك يكون كيستاسف قد سبق كثيراً من الفلاسفة الذين أوجبوا قصر بعض المعارف على الخاصة دون العامة لأن العامة لا تطيقها ولا تفيد منها وقد تتأذى وتؤذى بها: من هؤلاء الفلاسفة سقراط الذي أنكر الكتاب لأنه مفتوح لكل من يقع في يده وآثر التعليم بالاختصاص، ومنهم الفارابي الذي حرم تعليم العلم الرفيع على السفلة، ومنهم الغزالي الذي نادى بأن من المعارف (المضنون به على غير أهله) وألف كتابه (لجام العوام عن علم الكلام) لأن الناس كما قال في كتابه هذا، وكما يعرف العارفون بعقول الناس قد خلقوا أشتاتاً متفاوتين في المدارك، فهم كالمعادن تختلف صورة ولوناً وخاصة ونفاسة، وكذلك القلوب معادن فبعضها لمعدن النبوة، وبعضها للولاية، وبعضها للشهوة البهيمية والأخلاق الشيطانية، وكل ما قدمنا ينفي ادعاء زرادشت النبوة وإن كان لا ينفي ادعاء أتباعه النبوة له، والمرء غير مسؤول إلا عما يقول ويفعل لا على ما يتقوله عليه الناس ويسندون إليه من أعمال لم يأتها سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء، ونحن نعلم أن العظمة في كل زمان ومكان مبتلاة من هذه الناحية بأصدقائها ابتلاءها بأعدائها والعامية لا العظمة هي المسئولة عن كل ذلك.

وقد كان مما دعا إليه زرادشت إبطال عبادة الأصنام ووجوب التوجه للشمس أو النار عند الصلاة، وعدم تدنيس العناصر الأربعة: النار والهواء والتراب والماء، والشفقة على الحيوان، والتزام الفضائل في المعاملة، والامتناع ما أمكن عن أكل اللحم.

نجح زرادشت في إقناع الملك كيستاسف بالدخول في مذهبه وكان لذلك أثره من دخول الناس فيه وإيمان الشعب به، ولا سيما انه لم يكشف لهم منه إلا ما تطيق عقولهم، وبذلك صارت الزرادشتية المذهب الرسمي في البلاط الملكي والمذهب الذي ارتضته العامة طوعاً وكرهاً. ومن أسباب نجاح الزرادشتية أنها ولا سيما ما كشف منها للعامة لم تبعد كثيراً عما كان عليه الفرس قبله، فأعظم جهده ينحصر - كما قدمنا - في التنقيح والتبيين لما كان قبله، ومكانه في ذلك لا يزيد في رأينا كثيراً عن مكان الفيلسوف الهندي الكبير رابندرانات تاجور في الفلسفة الهندية البرهمية، حين نقحها وعبر عنها كما ارتضاها عقله. وما كتاب زرادشت الذي سنتحدث به بعد، إلا كمثل كتاب تاجور (السدهانا) ودواوينه التي نظمها عبر فيها عن آرائه واحساساته تجاه الكون الذي يحبه ويعد نفسه جزءاً منه، فلا نبوة ولا تهجم على المشاكل الغيبية عند زرادشت ولا تاجور، بل فلسفة وفن مردهما الشغف بالكون. والخطأ كل الخطأ أن ننتظر من البراهمة العوام أن يحدثونا حديثاً صحيحاً بفلسفة البراهمة كما فهمها تاجور، وكذلك الخطأ في انتظارنا أن نسمع حديث عوام الفرس بفلسفة الفرس القدماء كما ارتضاها زرادشت ومن شاورهم من حكماء فارس، وكان كيمستاسف سديد الرأي حين حرم تعليم العامة كتاب زرادشت. ومن أسباب نجاح المذهب الزرادشتي أنه كان ينزع إلى التفاؤل والإقبال على الحياة ويبشر العاملين فيها بالخير وهو في هذا وغيره بل في شخصيته إجمالاً يشبه شخصية تاجور شبهاً قوياً. ولا ريب عندنا في أنه بهذا التفاؤل كان بشيراً معبراً تعبيراً صادقاً عن الآمال القوية الطامحة التي كانت تثقل قلوب الفرس قي ذلك الحين، وانه كان ممهداً وصاحب فضل كبير على النهضة السياسية التي انتهت بقيام الملك الفارسي كورش الأكبر على تخليص الفرس من عبودية الميديين، ثمّ مد حدود الدولة الفارسية الناشئة إلى خليج البسفور، وهدم الدولة الليدية في آسيا الصغرى.

كان زرادشت بنهضته العقلية، بشيراَ وممهداً لهذه النهضة السياسية، فقد استطاع - وهو ينقح تعاليمهم القديمة - أن يحدد لهم طريق النجاح في الحياة ويدفعهم إلى حبها والكفاح فيها، ويركز آمالهم ومطالبهم منها، وربما كان ذلك أيضا سبباً من أسباب إقبال الملك كيستاسف المتطلع إلى المجد والسيطرة على الزرادشتية.

ولا ريب أن من أسباب نجاحه أنه عرف في تجوله خلال البقاع الفارسية ومراجعة أعلام الفكر فيها نفسية قومه والحالة التي كانوا عليها، والغاية التي يتوقون إليها، كما كان لانتسابه إلى أصل أرستقراطي أثر كبير في اتزان آرائه وذلك مما يسهل له حمل كيستاسف على مذهبه، ولا ريب أن مما ساعده على ذلك فهم كيستاسف حالة شعبه وما يتوق إليه وما يطيق وما لا يطيق من مذهبه، وكل أولئك مما ماز الزرادشتيين من غيرها من المذاهب التي بعدها على ما سنوضحه، فأنالها من الذيوع والثبات وإقبال الخاصة والعامة عليها ما لم ينل غيرها.

(يتبع)

محمد خليفة التونسي

مجلة الرسالة - العدد 662
بتاريخ: 11 - 03 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى