حيدر عاشور - خط أحمر.. قصة قصيرة

تولد في المكان سر عجيب يثير التفكر ويأخذ بالقلوب والعقول ،ويدس اللحظات الحاضرة في عالم آخر وزمان آخر يكون فيه الإنسان مختلفا ومميزا يجعلك تكتشف تنافر واقعك، وإشارة إلى ارتباك كبير من الارتياب... ولا أدهش، ولا أعجب من ذلك الموقف الرهيب الذي هيج الصراع الداخلي الذي هيمن على الروح والنفس، والفاصل بينهما هو هذا الانعطاف الأخلاقي عن الرذائل والقبائح التي لم نعد نرى أناسا تتصدى لهذه الظواهر الاجتماعية من رياء ونفاق وانعدام ذمة، ونلاحظ بنفس الوقت أبطالا يصارعون أنفسهم ويحاولون استرجاع الماضي ويكشفون عن الخطايا التي ارتكبوها خوفا من القصاص ...
لا أرى القضية كما يراها بسطاء العقول من حولي وهم يهلهلون بسلامة الإنسان وفناء كل شيء ... قد يكون الإفصاح والإظهار لأمر ما ضرورة فان الكتمان والإسرار لأمر آخر ضرورة أيضا ... لذا أصبح المكان مقدسا بل مزارا فهو محمي بأسماء جليلة وأهله رموز بشرية تجوب في فنائه كملائكة ناطقة، تنفذ أوامر السماء بطاعتها العمياء... بقي السر معي لم أحدث أحدا به لسنوات وأنا جليس الغرفة التي عشت بها آخرتي المحتومة وظهرت من جديد للحياة بشكل آخر وشخصية مغايرة تماما، وهذا الحدث أجج في حنايا روحي حبا كنت اجهله ودأبت روحي تبحث عن عشقها في بطون الكتب، واسطر الدعوات، وشفاه المرتجلين بالكلام فكان بكائي ممزوجا بالدم، وأنا أتفاعل وجدانيا مع الحدث الشبيه بالمعجزة الإلهية وظل ينمو ويترعرع في ظلال الأحزان الإنسانية النبيلة والمشاعر الوجدانية الصافية ليلهب نفسي وقلبي وعقلي فيتحولا الى ثورة من الوعي ضد كل انحراف عشته ... وأي انحراف بل انحرافات لم أعِ فعلها المضاد بل كنت مستهترا بكل القيم حين كنت ابحث عن أي طريق لجني الأموال بعد أن مارست السرقة في الدور والطرقات لم يسلم مني أحد، جيراني و أصدقائي ومعارفي ،كان أبي السيف الجارح لي دائما فلم استقم وكنت لا ابقي عليه مالا ، إما أن اسرقه أو يدفعه لمن اعتدي عليهم.. كنت أتربص الفرص للسرقة ... ولا أنسى تلك الظهيرة الساكنة في بيتنا الكل نيام على هواء تلك المروحة التي تخفف من حرارة الجو ... أصدقائي ينتظرونني خارجا وأنا أتنقل من غرفة الى أخرى بحثا عن أي مبلغ من المال حتى التحق بهم، فلم أجد غايتي ،فوقعت عيني على صندوق صغير ودون تفكير فككته وأخذت ما فيه من مال فرحا وخرجت مع زمرتي منتصرا ليومي ،وذهبنا نحتسي حتى فقدنا عقولنا ورجعت دون أن أمارس طقسا آخر من الرذائل اليومية ... دون وعي قادتني قدماي الى تلك الغرفة ونمت بهدوء لا اكترث لشيء أبدا ،وفتحت عيني وأنا وسط ضوضاء كبيرة وتكبيرات وكل شيء حولي اسود ودخان كثيف ذو رائحة تخنق متنفسها وقعت عيني على ذلك الصندوق المهشم وقرأت بخط واضح وباللون الأبيض الناصع (صندوق الحسين) ونظرت الى جسدي المحمول من الناس لم يصبه أيضا أذى رغم أن الحريق أكل كل شيء إلا الصندوق وأنا فبدأ بيني وبينه خط مشترك في قضية روحية عقائدية وبرهان على إعطائي فرصة للتفكر والرجوع عن الرذيلة وبداية للحزن وتأنيب الضمير،والخوف من الله لمنحي فرصة الحياة ،وهي الحالة النفسية التي تعتري مثلي من البشر والتي قوامها الشعور بالحسرة والضيق ولا تكون إلا لما حدث فعلا سواء انقطع هذا الحدث وبات من ذكريات الماضي أم استمر في الحاضر من الزمن ... ولا ادري كيف يحزن شخص مثلي يمتلك من القسوة ما تكفي أن يموت كافرا وهو بعيد كل البعد عن معرفة الجنة والنار وفي ساحة الدار أناس في وجوههم اكتئاب وفي عيونهم دموع وأنا يخيم عليّ الخوف والحزن ، ولكن الحقيقة إن الحزن الذي ينتابني وقتها متولد عن حتمية قضية خاصة وشحت حياتي بوشاح الحزن وحكمت عليها من رحم واقعية الحادثة التي عشتها... وهي حقيقة تهم الجميع وتمس الكثير أن (الحسين ) إمام وأن مظلوميته قضية تلوح بظلالها في كل مكان وتخضع دائما الى محكمة العدل الإلهي التي لا تخطئ ،والتي رسمت على ملامحي صور الحيرة والذهول نتيجة تعدي الخط الأحمر على أملاك (الإمام) وكأن أمواله نقطة التحول التي منعت النار من أن تمس جسدي فكنت ممن وضع في امتحان بلا فشل أو فشل بدون امتحان ......
*حيدرعاشور
* قصة قصيرة من مجموعة (زَهَايْمَرات)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى