أمل الكردفاني - عصر التأليف الشذري..

✍ كما انتهى عصر السرديات الكبرى في الفلسفة ؛ وعصر العالم (بكسر اللام) الموسوعي ؛ وسقطنا في التخصص الدقيق وتقسيم العمل وفق الرؤية الرأسمالية التي أشار اليها آدم اسميث في كتابه الشهير ثروة الأمم ، كذلك بلغنا عصر التأليف الشذري. وعصر الأطروحات العلمية الشذرية. ماذا أعني بذلك... لقد انتهى عصر الكم وانتقلنا لعصر الكيف ، فمثلا اذا كانت رسالة الدكتوراه التي انجزتها خلال سنوات تجاوزت الستمائة صفحة بالاعتماد على مئات المراجع ؛ فإن هذا ليس فخرا لي كما قد يتصور البعض ، لقد قرأت رسائل علمية تجاوزت الألفي صفحة ، وهناك أكثر من ذلك ، تماما كما كان يفعل البعض من فقهاء المسلمين وهم يؤلفون موسوعات علمية من عشرات الأجزاء ؛ فالمغني والشرح الكبير -مثلا- لابن قدامة المقدسي تجاوز الإثنين والعشرين كتابا ، ومثله المحلى لابن حزم ومثله الصحاح وكتب التفاسير كابن كثير والقرطبي ...الخ. ففكرة الشمولية المعرفية تقلصت الآن وتحولنا الى التخصص شديد الدقة ، وكلما دق التخصص كلما ارتفعت القيمة المعرفية ، فمن يتخصص في جناح بعوضة أفضل ممن يتخصص في بعوضة كاملة ؛ البعض قد يسخر من ذلك ، وما سخريته الا لجهله بالكم الهائل من أسرار هذا الجناح الصغير. ومن يتخصص في الكوارك ، أو هرمون معين ، أو خلية أو اصغر من ذلك ، فستجد كل أعماله اهتماما كبيرا من المجتمع العلمي الذي يتبعه. نعم أثار ذلك اشكالية التوسع والتباعد الكبير بين العلوم ، ففي كل يوم يتم خلق علم جديد مجتزأ من علم أكبر منه ، وكان أن اثار هذا جدلا مستمرا حول ايجاد حلول لهذه المشكلة ، لكن الحل الوحيد والذي لا خيار غيره هو التكامل المعرفي وليس الشمول المعرفي. الحل هو أننا حينما نحاول معالجة معضلة ما فعلينا ان نستعين بعشرات الخبراء ليهتم كل واحد منهم بجزئية صغيرة من البناء الكلي للمسألة. ثم تتكامل كل هذه الخبرات والمعارف ، ويتم بحثها على نحو بنيوي كوحدة واحدة للخروج بحلول ستكون بلا أدنى شك أكثر دقة من تلك الحلول التي تطرحها معرفة موسوعية.
لا زال عندنا -كمجتمعات كمية- اهتماما أكبر بالكم على حساب النوع ؛ ولا زالت رسائل الدكتوراه تنحوا الى التوسع الكمي ، دون أن تقدم أي معالجات عميقة لفرضياتها هذا إن كانت فرضياتها نفسها مؤثرة.
الآن يمكنك أن تجد اطروحات علمية في جامعات مهمة كهارفارد او اكسفورد أو يال لا تتجاوز سبعين صفحة ، وبعدد مراجع لا يتجاوز عشرين مرجعا ، ولكن لموضوع ينبئ عن مقدرات تحليلية جيدة ، يمكننا ان نقرأ كتب معروضة على أمازون ببضعة عشرات من الدولارات لا تتجاوز الثلاثين صفحة ، بل ولا تستغرب أبدا إذا اكتشفت أن مؤلفات موسوعية لا يهتم بحمايتها من القرصنة الرقمية في حين أن كتاب من اثنى عشر صفحة تتم ملاحقة كل محاولات قرصنته عبر أجهزة الدولة. المعلومة الدقيقة والمعرفة المتخصصة شديدة العمق أضحت هي مربط الفرس في حين أن المعرفة الموسوعية صارت متاحة على الانترنت عبر الموسوعات المجانية كويكيبيديا وويكميديا وموضوع وخلافه. قبل اكثر من عشر سنوات قام أحد العاملين بمطاعم دجاج كنتاكي بسرقة الوصفة السرية لها ، وقام بنشر الوصفة على الانترنت ، وانتشرت المواقع التي نقلت هذا الكتيب الصغير ، ولكن بعد ساعات قليلة فقط - وبشكل مذهل- تم اغلاق كل الروابط التي تتيح تحميل الوصفة... ، لم افهم كيف استطاعت محلات كنتاكي ملاحقة عشرات الآلاف من المواقع ، ولا أعرف القوة التكنولوجية بل والنفوذ الأمني لهذه المطاعم الذي أعطاها كل هذه القوة لحماية سرها التجاري الذي يجلب لها ارباحا بالمليارات من كل أنحاء العالم. فالسر التجاري قد لا يتجاوز سطرا واحدا ؛ ولكنه يمنح صاحبه سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا أرباحا مليارية ، مما دفع العالم الى ابرام اتفاقيات دولية لحمايته. في الهند وبعد الاستقلال صدر قانون يلزم أي شركة أو مصنع بالكشف عن اسراره التجارية ، حتى تتمكن الهند من استخدام المخترعات وتطويرها ، لقد دارت مفاوضات محتدمة بين الحكومة الهندية وشركة كوكاكولا ، انتهت بالفشل فغادرت كوكاكولا الهند بغير رجعة . الصين كسرت كل الاتفاقيات الدولية وهددت بشكل خطر جدا الأسرار التجارية ، وبراءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية ولا زالت ؛ رغم الحصار المفروض عليها لتتجاوز الاحتكار المعرفي ثم تنطلق وتحدث بلبلة في الاقتصاد العالمي عبر عمليات اغراق مهولة جدا أفضت الى اتفاقيات دولية لمنع الاغراق ؛ لكن من سيحمي دولنا النامية من يأجوج ومأجوج الصين؟
المعرفة الآن تجاوزت مسألة الكم الى الكيف؟ وتجاوزت الموسوعية الى التخصص العميق وشديد الدقة ، واصبح سطر واحد محل حماية وتحصين من كل آليات الدولة. سطر واحد قد يغير العالم .. كما حدث وسيحدث مستقبلا عبر تكنولوجيا سلاسل الكتل blockchain والتي ستهدم صروحا ضخمة وتنهي المركزية بل والسلطوية في العالم بأسره.

أحدث المراجعات

إبراهيم محمود
هو ما أفصحت َعنه صديقي المعرفي أمل بسلاسة وروية. تلك هي تحديات العصر، حيث الثانية لها قيمتها بمفهومها الهندسي" الأينشتايني "، لتصبح العبرة في المحتوى..فلا تعود المقدمات الطويلة ولا الخواتيم ذات الطابع الطللي. نيتشه منتصر على هيغل، وإن كان هناك حاجة لقراءة هيغل لفهم نيتشه. تلك هي أهم خاصيات فلسفة العلم، والامتحان الأعظم للفلسفة عينها، إنما المخاض الكبير لنا جميعاً، إن أردنا التخلص من ربقة " كان يا ما كان "، حيث أمامنا وراءنا، إن جاز التعبير، جهة تحكم الماضي وموتاه..ثمة فيب أوساطنا، وعلى أعلى مستوى، من يتحدثون طويلاً، ليقولوا كلاماً، هو المطلوب، لا يتعدى نطاقه الزمني دقائق معدودة. نعم، ليس المقصد، أن نضع أم كلثوم جانباً، ونراهن على فيروز، إنما أن يكون لأم كلثوم موقعها في البحث في زمكانها، أما فيروز فهي مرافقتنا، أنيسة الشذرة. ذلك صعب، وربما مستحيل في ضوء كوارث المعيش اليومي وأدواء السياسة في منطقتنا أولاً، ومن يتحكمون ليس بمداخل الكلام ومخارجه فحسب، إنما بالمصائر بالجملة عموماً أيضاً .

إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى