كلّ كلمة أكتبها هي ضدّ الحرب!.. حوار مع الشاعر سفيان رجب

❊ تلاشت الحدود بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر والأهمية للأساليب والصّور الشعرية
❊ الشعراء الذين عُرفوا بالجماهيرية علاقتهم بالجماهير لا تدور حول الشعر بل حول المضمون!
❊ أحد أهمّ الشعراء التونسيين لم ينشر كتابًا واحدًا!

عرفت هذا الشاعر أواخر التسعينات نصّا وإنسانا فانتبهت منذ أوّل وهلةٍ إلى صوته القادم. كان يعمل لسنوات في هدوء بهيج وصمت قاتل. بدأت نصوصه تخرج إلى النّور في الألفية الجديدة حيث أصدر مجموعته الأولى »مؤثرات شعرية« عام 2003 مع صدور بيانه الشهير »القصيدة الشاملة« في مجلة الحياة الثقافية الذي أثار ردود أفعال في المشهد الثقافي ومنذ ذلك الحين انكفأ على العمل بعيدًا عن ضجيج المعادن. نال جوائز وطنيّة في مشهد قاتم سيطرت عليه اللوبيات وقصائد المدح، فلم يمدح أحدًا سوى البحر وأحجار »تكرونة« الأثريّة. فاز بالجائزة الأولى في مسابقة مفدي زكريا المغاربية بالجزائر سنة 2007. يحمل أكثر من كتابيْن شعريين لم يُنشرا بعدُ. قرأتُ نصوصه فهالني المشهدُ، انها تجربة جديدة تضعُ الشعر التونسي في آفاق أرحبَ يتحرّك ضمن جيل جديد يؤلّف احتياطيّا هائلا يمثله محمد جلاصيّة ونزار الحميدي وأنور اليزيدي وصابر العبسي وخالد الهداجي وأمامة الزاير وصلاح بن عياد وزياد عبد القادر وجميل عمامي وفريد سعيداني والسيد التويّ...
التقيتُ به به فلم أحدّثه عن الثوة لأنّه كان في خضمّها شاعرًا رائيًا مقذوفًا في المستقبل مثل المتصوّفة والفلاسفة...
❊ تقول الشاعرة اليابانية »كسفاهي سباهيو«: كان الشعر يولد مع الملائكة / ثمّ صار يُولد مع الأنبياء / ثم مع الآلهة / فإلى أيّ مدى أنت مقدّس أيها الشعر!
هذا الكلام يدلّ على وعي نادر حقّا. الشعر هو لغة الكون وهو لا يمكن إلاّ أن يكون مقدّسا.

❊ من خلال متابعتي لمسيرتك الشعرية التي ظهرت أوّل هذا القرن، رأيت تميّزًا حقيقيّا خاصة من خلال عمليك المخطوطين... فماهو مدار الشعر لديك وكيف استطعت أن تكون مختلفًا عن جميع أقرانك؟
بعد أن خلعت مراهقتي الشعرية اواخر القرن المنقضي واحرقت آخر مسوّدة اصطدمت بالرّوح السوريالية عند التشكيلييّن خاصة وانبهرت بأعمال » خوان ميرو« وبروحه الطفولية وهناك التقيت مع بعض الاصوات الشعرية الشبابية في تونس في تلك الأثناء قرأت »برڤسون« ومسرح »النّو« وبدأت أعيش صراعات حادّةً تثيرها أسئلة متقاطعة وحساسيّات متضاربة في ما أكتبه صور التصقت بطفولتي الريفيّة البسيطة حيث يبدو عجين الحكي نيّئا يسير التشكيل. ولعلّ ذلك ما جعلني أختلف إلى حدّ ما عن أصدقائي الشبّان. إنّ السؤال الذي يؤرّقني هو: كيف أقول ذاتي شعرًا؟ أمّا الاختلاف فهو نتيجة للبحث الدّؤوب عن الذّات الشاعرة.

❊ أعتقد قارئا جادًّا لأعمالك (وإن كانت قليلة) أنّك حقّقت معادلات شعريّة صعبة منها كثافة المعنى وخروجك عن اللّغة المتداولة منذ عشرين عاما في الشعر التونسي وكذلك انخراطك الواعي في إنجاز »قصيدة النثر« لماذا هذا الاختيار؟
لن أضيف شيئا اذا قلت لك إنني حاولت القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وارهقت نفسي كثيرا في المزاوجة بين النثر والنّظم في شكل جديد نشرت بخصوصه بيانًا في مجلة »الحياة الثقافية« سنة 2003 وعرّفته بالقصيدة الشاملة، لكنّني أعترف بسحر قصيدة النثر وإدهاشها، في لحظات الصّفاء الرّوحي والفكري التي أعيشها مع العالم (لحظات إحساسي بإنسانيّتي) تُولد عادة قصيدة النثر، وتجيءُ بسيطة متمنّعة لا يمكن أن ينتجها »الاشتغال المخبري«.

❊ يقول أحد الشعراء البارزين في تونس: قصيدة النثر هي النصّ المكتوب بامتياز هل تؤمن بذلك شاعرًا؟
منذ العشرية الاخيرة للقرن الراحل، أظنّ ذلك. الشعر في تونس تطوّر كثيرا، وقصيدة النثر لعبت دورا مهمّا في إثراء هذا التطوّر كما وكيفا خاصة. وأنا أعتبر أنّ الشعرالتونسي في مراحله الاخيرة يأخذ مكانا رياديّا في الشعر العربي وهذا ليس من باب الاعتقاء إنّما هو واقع ملموس سيدركه النقد العربيّ يومًا.

❊ قال أحد النقّاد التونسييّن منذ عشر سنوات أو أكثر: الشعراء التونسيّون شعراء نصوص لا شعراء تجارب. ماهي مقاييسك النقدية التي تقرأ بها تلك التجارب؟
أظنّ أنّ هذا الرّأي لمحمّد لطفي اليوسفي، وأنا أوافقه تماما. إنّ التجربة الشعرية هي التي تخرج من دائرة النصّ لتصبح أسلوب حياة بالأساس ولا يكون ذلك إلاّ بالمرور بمعادلات داخل النصّ ومنها الأسلوب والمعجم الشعريّ والمضامين واذا اختلّ أيّ ركن من هذه الاركان بَطُلَ كلّ تصوّر للتجربة الشعرية والشاعر التونسيّ إلى حدود التسعينات لم تتوفّر فيه هذه الشروط وأعتقد أنّه بعد التسعينات قد تغيّرت المسألة وبدأت تتشكل مشاريعُ تجارب شعريةٍ حقيقيةٍ من الجيل السابق واللاّحق مثل محمّد الخالدي وخالد النّجار وباسط بن حسن ومنصف الوهايبي.

❊ قمتُ بإحصاء لعدد الشعراء الأحياء فوجدت أكثر من مائتي وخمسين شاعرًا وأحصيت قرابة ألف مجموعة شعرية منذ 1970 إلى اليوم! هل يعكس هذا وجود حركة شعرية متينة في تونس، مع أنّ عشرات الشعراء صمتوا أو تحوّلوا إلى المجالات أخرى مثل السّرد والنّقد؟
وماهي مقاييسك؟! فأحد أهمّ الشعراء التونسيين »يوسف خديم اللّه« لم ينشر كتابًا واحدًا! وهو يرفض ذلك ويرى أنّ الكتاب مؤسسة تتعارض مع رؤيته الشعريّة، فماذا نفعل إذن؟ ثمّ إنّ ألف مجموعة شعرية يُعتبر رقمًا مخجلاً إذا قارنّاه بما يُنشر في لوكسمبوغ مثلا والذي يتجاوز هذا الرّقم بعشرات المرّات، أمّا عدد الشعراء فإنّ الكثير منهم يصلح أن يكون جمهور شعر وهذا أمر مشجّع!!

❊ هل ترى معي أن ميزة الشعر التونسي الحديث هي هذه الفسيفساء الجميلة وهذه الكيمياء على مستوى الأجيال والأشكال: القصيدة العمودية، قصيدة التفعيلة، قصيدة النثر...؟
أظنّ أنّ القصيدة العمودية قد تراجع دورها كثيرا، ولم تعدْ تقتصر سوى على بعض الأصوات المحدودة، أمّا القصيدة الحرّة وقصيدة النثر فإنّ الحدود بينهما تلاشت مع عديد التّجارب، ومهما يكن فإنّ مسألة الاشكال قد وقع تجاوزها إلى إشكاليات أكثر أهميّة وجدوى كالمضمون والأسلوب والصّورة الشعرية.

❊ استطاعت الحركة النقدية التونسية أن تنجب قامات نقدية مشهود لها عربيا (محمد لطفي اليوسفي، مصطفى الكيلاني، فتحي النصري..) لكنّ ذلك لا ينسحب على الشعراء رغم أن بعض القراء يعتبرون منصف الوهايبي وفضيلة الشابّي قامات شعرية.. هل لدينا حقا تجارب شعرية تضاهي تجارب سعدي يوسف ومحمود درويش وأدونيس وفاضل عزاوي وسركون بولص وأنسي الحاج ووديع سعادة ونوري الجراح؟
هذه فكرة يحاول تكريسها المشارقة وهي أن الابداع مشرقيّ والنقد مغاربيّ وهي تستند إلى بعض الرواسب التاريخية. صحيح أن هناك تجارب مشرقية مهمّة وقد تطرّقت إلى بعضها، لكن هنالك بوادر تجارب لافتة في المغرب العربي، وأرى أنّ الشعر المكتوب في المغرب العربي منذ التسعينات خاصة قد أخذ نسقًا مختلفا عن الشعر المكتوب في المشرق وأظنّ أنّ للشاعر التونسيّ أو الجزائري أو المغري أو اللّيبي الآن فرصة أكثر من غيره للبروز لو ينتبه إلى التحوّل الفكري الذي يشهده المغرب العربيّ والذي بدأت تلامسه الرواية (المكتوبة بالفرنسية خاصة) ويمكن أن يلعب دورًا بارزا في مسألة الحوار بين الشرق والغرب وهي الحلقة المفقودة في الشعر العربي الحديث حتى وإن حاول امتثالَهَا فإنّها تظلّ عاجزة عن فهم أو بالاحرى هضم الآخر. إنّ اهمية التجارب التي ذكرتها تأخذ منحى ايديولوجيا علاوة على ما تحمله من قيمة فنّية ويمكن ان نلاحظ ذلك كما يلي: شعر القضية الفلسطينية (محمود درويش) شعر المنافي العراقية (سعدي يوسف، فاضل عزّاوي، سركون بولص..) مشروع الحداثة العربية أو (الفكر البديل) (أدونيس، أنسي الحاج، سليم بركات..) فأهمية الشاعر لا تقف على شعرية النصّ فقط إنّما تلتصق بالقضايا الانسانية والفكرية فهل يمكن ان تفصل مثلا »طاغور« عن أحلام الهند بالحرّية أو »نيرودا« أو »لوركا« أو »حمزاتوف« عن الثوة الاشتراكية رغم اختلاف مشاربهم ورؤاهم وكلّ هذه المسائل لابدّ للشاعر الشاب أن يعي بها.

❊ يرى الناقد العراقي د. حاتم الصكر أنّ قدر الشعر أن يكون نخبويّا. إلى أي مدى يصحّ هذا الرّأي خاصة أنّه نابع من ناقد يحترمه الجميع عربيا؟
هذا الرأي صائب تماما، ولعلّ صرخة »نيرودا« حين خطب في العمّال قائلا: أعرف أنكم لا تفهمون ما أقول، لكن يكفي أنّني أتحدّث عنكم! صرخة كافية لتوضّح طبيعة العلاقة بين الشاعر والعامّة فهي إمّا أن تكون من طرف واحد (الشاعر) او منفصلة تماما، هناك شعراء عُرفوا بالشعبية كنزار قباني ومظفّر النواب وعبد الرحمان الابنودي وأحمد فؤاد نجم، لكنّ العلاقة بينهم وبين الجماهير لا تدور حول »الشعر« إنّما حول »المضمون«!

❊ لماذا يطغى حضور »الأنا« في الشعر التونسي إلى درجة تضخّمها على حساب شعرية النص؟
إنّ مسألة »الأنا« في الشعر أو بالأحرى »الغنائيّة في الشعر« انبنى عليها الشعر العربي القديم جلّه تقريبا ولذلك فإنّ تسرّبها إلى الشعر الحديث تونسيا كان أو غير ذلك هو تأثر طبيعي بالتراث الشعري، الذي عليه ان يتجاوزها الى مناطق أخرى اكثر اتساعًا وعمقا وجمالاً.

❊ ما الشعرية حسب رأيك؟
في احدى المقاربات التي نشرتها بمجلة »الحياة الثقافية« عرّفتُ الشعرية بالشرارة التي تحدثها الاحتكاكات داخل اللّغة إذ تتقاطع الصورة بالايقاع بما يفضي إلى المعنى، أمّا الآن فإنّني أتساءل معك: ما الشعريّة؟

❊ يرى بعض النقاد أن الحركة الشعرية في العراق ولبنان ومصر والمغرب متطوّرة جدّا. هل يعود ذلك إلى التطوّرات النقدية الكبيرة مع أنّ النقد عملية لاحقة للإبداع الشعري؟
إنّ دور النقد بالأساس ليس التقصّي والتقييم إنما هو المشاركة في فعل الابداع انا أرى أنّ الاصوات الجديدة في تونس والبحرين واليمن تتجاوز ما يُكتب في الأقطار العربية الأخرى وهذا الكلام يحتاجُ إلى وقت وجيز كيْ يتأكّد.

❊ متى يكون الشعر »علْمًا« ومتى يكفّ عن ذلك؟
هذا سؤال ذكيّ جدًّا، يكون الشعر »علما« حين نفكر فيه وينتهي حين نمارسه (قراءة وكتابةً) ثمّ ألا يكون الشعر علْمَ ما وراءِ الكلامِ!؟

❊ يتهكّم أحد الصّحافيين تهكّما لاذعًا على الشعراء القاطنين بالعاصمة على أنّهم يقطنون »الحانات« حتى أنه قال صارخًا متى يقرأ هؤلاء!؟
القراءة هي المرتكز الحقيقي للكتابة وكما يقول الشاعر الفرنسي »بول فرلان« الذّئب خرافٌ مهضومة أقول إنّ الشاعر نصوص مهضومة فإذا لم تتحوّل إلى مكتبة متجوّلة فإنّك لن تكون شاعرًا أبدًا. وفيما يخصّ »شعراء العاصمة« كما يسمّيهم البعض فإنّ المسألة فيها الكثير من التحامل على الجيّدين منهم والذين يشتغلون على نصوصهم بعيدا عن الضّوضاء والاضواء، أمّا الآخرون فأنا غير معنيّ بهم وأعتبر أنّ دورهم لا يتجاوز تنشيط شوارع العاصمة والمساهمة في الحركة اليومية للاقتصاد وهو فعل لا بأس به!

❊ هل أنجزت قصيد ة ضدّ الحرب، باعتبارها قذرة في كلّ الأحوال؟
إن كلّ كلمة أكتبها هي ضدّ الحرب، وأنا لا أزال أحلم مثل كلّ طفل متى تنتهي الحروب على الأرض حتى ألقي قلمي وأمضي مع الكائنات أمارس معها الحياة وأنتظر ملاك الموت بكامل مداركي العقلية وأعضائي الجسدية.


نشر في الشعب يوم 01 - 10 - 2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى