نجاتي صدقي - قصة فتاة...!

مجلة الرسالة - العدد 668
بتاريخ: 22 - 04 - 1946


قيل لي إن في الدار فتاة تحمل رسالة إلي، وتود مقابلتي. . فتوجهت إليها، فوجدت نفسي أمام فتاة في العشرين من عمرها، مكتنزة الجسم، (مبتسمة) العينين، وشعرها أسود كثيف، ووجهها لا يحمل المساحيق، فهو بطبيعته ناصع البياض، وخداها ورديان يعلوهما القليل من البثر، المعروف بين الناس ب (حب الصبا)، وقد عصبت رأسها بمنديل حريري ملون، ولبست ثوبا قصيرا، وكانت ساقاها عاريتين، وتحتذي حذاء صيفياً.

دعوت الفتاة إلى غرفة ربة البيت. . . وبعد أن تبادلنا التحية ناولتني رسالة ففضضتها، فكانت من صديق محام يقول فيها:

(أخي العزيز. . .

. . . وحاملة هذه الرسالة هي الآنسة سلمي ليان من سريان الجليل، وهي فتاة تحب الغناء، وأعتقد أن لها صوتاً جيداً، فهل لك أن تساعده في إبراز مواهبها. . .؟

خذ بيدها، ولك عند الله الأجر والثواب) (. . .)

ودار بيني وبين الفتاة الحوار التالي:

- ألك أهل في هذا البلد؟

- كلا. . . وهذا أول عهدي بالمدينة. .!

- وكيف تأتين إلى مدينة ليس لك فيها أهل تلجئين إليهم؟. . .

- سأعود اليوم إلى بلدي بعد أن آخذ ردك.

- غير أن ما تطمحين إليه لا يأتيك على وجه السرعة، يجب أن تنتظري بعض الوقت.

سأنتظر إذا ما رأيت في الأفق بارقة أمل. . .

- وكيف تؤمنين معيشتك إلى أن تبلغي مأربك؟. .

- أقوم بأي عمل كان. . . خادمة في بيت. . . أو ممرضة في مستشفى.

- وأهلك؟

وما يهمني أهلي!. . أريد أن أكون فنانة. . . إن صوتا يهمس في أذني دائما: قومي أيته الفتاة، واطرقي أبواب الاستوديوهات، والإذاعات، والفرق الموسيقية. إنك ستكونين مطربة كبيرة، أو ممثلة بارعة. . . مارسي الآن الفن في هذا البلد الصغير، ومتى بزغ نجمك فارحلي إلى مصر التي تقدر المواهب والعبقريات. . .

- وهل تحملين رسالة إلى أحد غيري في هذه المدينة؟

- أجل أحمل رسالة إلى حميد أفندي صباره مدير ستوديو الزهرة للتمثيل السينمائي. . .

- عجباً. . إنني أدري بهذه المدينة ومؤسساتها الفنية، ولكني لم أسمع قط بأن فيها ستوديو للتمثيل السينمائي!. .

- كيف لا. . . وقد تلقيت من هذا الأستوديو لائحة التوظيف وطلب مني تعبئتها، ثم دعيت للحضور إلى المدينة، كي نشرع بالمفاوضة. . . وإليك صورة من تلك اللائحة إن كنت تود الاطلاع عليها. . .

وقرأت فيها:

(حضرة الآنسة سلمى ليان المحترمة.

تحية وسلاما، وبعد، تلقينا كتابك الذي تطلبين فيه الانضمام إلى ستوديو الزهرة للتمثيل السينمائي. . ويسرنا أن نحيطك علما بأن الهيئة الإدارية للستوديو نظرت في طلبك، ورأت قبل مفاوضتك أن تتلقى منك أجوبة على الأسئلة التالية: هل تحبين الرياضة؟. . أتركبين الخيل؟. . أتسوقين السيارة؟. . أتسبحين؟ وأي نوع من الرقص تحسنين: الشرقي أم الغربي؟. . . وهل أنت اجتماعية في حياتك العامة؟. . . أتعزفين على آلة ما؟. . أتحبين الغناء؟. . وإن كنت تغنين فهل صوتك من درجة سوبرانو أم آلتو؟. . وإلى أي ناحية من المطالعة تميلين. . . الرواية - القصة - الشعر؟. .

نرجو إعادة هذه اللائحة بعد الإجابة على ما جاء فيها من أسئلة، مرفقة بثلاث صور لك في أوضاع مختلفة، الأولى نصفية تتطلعين فيها بكامل وجهك. . . والثانية تمثل جانب وجهك. . والثالثة تبين هيكلك بأجمعه. . . ونأمل أن تأتي هذه الصور بعيدة عن التكلف، ومشبعة بالروح الرياضية. وتفضلي بقبول الخ. . . إدارة ستوديو الزهرة للتمثيل السينمائي.

ثم تابعت الفتاة حديثها قائلة: وذهبت في ذلك اليوم إلى ستوديو الزهرة فوجدته غرفة صغيرة تحتوي على طاولة، وتلفون وملفات، وأربعة كراسي، ومتكأ، وصور لجميع ممثلي هوليود، وكان حميد أفندي منهمكا في دراسة بعض الأوراق يدخن ويشرب القهوة. . ولما عرفته بنفسي، ورأى إمارات الدهشة بادية على محياي اضطرب وقال: المعذرة أيتها الآنسة، إننا نشغل هذه الغرفة مؤقتا الآن إلى أن يتم بناء الستوديوهات. . . نرجو ألا يزعجك ذلك. . فالفنانة يا آنستي لا تعير مثل هذه التوافه اهتماما. . الأيام أمامنا، وكل شيء مع الصبر جميل. . . أتعرفين كيف بدأ ستوديو مصر عمله؟. . لقد كانت حالة مؤسسيه مثل حالتنا تماما، استأجروا في بادئ الأمر غرفة في شارع كلوت بك، ثم نهضوا شيئا فشيئا إلى أن بلغوا درجة الكمال. تصوري أن الممثل السينمائي أستهل حياته في ستوديو مصر بعشرة جنيهات في الشهر؛ وهو يتقاضى اليوم خمسة عشر ألف جنيه لاشتراكه في فيلم من الأفلام. . التضحية يا آنستي هي مفتاح النجاح والسعادة. . .

هيا ضعي يدك في أيدينا، وقولي توكلت على الله. نحن عشاق فن مثلك، ومبتدئون تشجعي واعملي معنا. . لا تجعلي المال رائدك الآن. وثقي بأنه سيأتي عليك يوم ترفلين فيه بأثواب السعادة والهناء، وسننشر صيتك في كل أقطار العرب، وسيصير لك معجبون، وسترد لك الرسائل من كل حدب وصوب تحمل لك عبارات الثناء والإطراء، والكل يطلب رسمك أو توقيعك، وأنت لا تبخلين عليهم بذلك مطلقا. . . وإذا ما خرجت بسيارتك وقف الناس على جانبي الطريق يهتفون لك وأنت توزعين عليهم الابتسامات ذات اليمين وذات الشمال!

هيا يا فتاتي شمري الردن عن ساعد الفن!. . . أما شروط الاتفاق فستكون مدار حديثنا هذا المساء على مائدة العشاء.

وتركت حمدي أفندي على أن أعود إليه. . .

قلت لسلمى: أيتها الفتاة، احذري المدينة، ولا تغرنك مظاهرها، فهي أشبه بالمستنقع الذي تنمو على سطحه الحشائش الطرية الرقيقة، وأزاهير اللينوفر والأقحوان، فيظنها الإنسان مرتعا من مراتع أمنا الطبيعة، فينطرح عليها طالبا متعة النفس وراحة الجسم، فإذا بالأزاهير تغوص، وبالحشائش تزول، ويظهر مكانها حمأ أسود تنبعث منه رائحة المياة الآسنة، وهيهات للإنسان أن ينجو من براثنه، فهو كلما حاول الإفلات من الحمأ تشبث به وامتصه قليلا فقليلا حتى يختفي تماما.

قالت الفتاة: إني لا أفقه شيئا مما تقول، جئت المدينة لأكون ممثلة أو مطربة وأنت تحدثني عن المستنقعات!. . أتشك في حسن صوتي. أأغني لك (أيها الراقدون) أم (أضحى التنائي)!

قلت: ما هذا الذي تقولينه أيتها الفتاة؟. . . نحن لم نعتد أن نرى فتياتنا يتركن بيوتهن ليطرقن دور الفن، فالمطربة عندنا تكتشف صدفة أن صوتها جميل. . . هلا أطلعتني على حقيقة أمرك؟. . أفصحي القول، واسردي عليّ قصتك. . .

ارتبكت سلمى، وامتقع وجهها، وطأطأت رأسها قليلا، وروت لي مأساتها، ومفاد هذه المأساة أن قلبها مال إلى شاب من شباب الحي لكن أهلها منعوها من الاتصال به، وهددوها بالضرب والقتل إن هي حاولت التحدث إليه، ودعوها مرة لتقدم القهوة إلى ضيوف أبيها، وإذا بالضيوف أطباء جاءوا ليفحصوها، ولما تبين لأهلها أنها عذراء زوجوها من أبن عمها الذي تكرهه، وكان عاجزا في حياته الجنسية، والتحق بالجيش بعد شهر من زواجه، فأحب الفتاة أن تنفصل عنه، وقدمت شكواها إلى المحكمة الكنسية، فحولت هذه أوراق القضية إلى روما، وانقضت ثلاث سنوات والفتاة تنتظر النتيجة، فكانت مقيدة بزوج لا تشعر بكيانه، وكان أهلها يدفعونها إلى الخدمة في البيوت لتعول نفسها، وكانوا يهينونها، ويسمعونها لاذع الكلام، فضاقت ذرعا بهذه الحياة، وعقدت النية على أن تفر إلى المدينة لتمتهن التمثيل علها تأخذ فيه دور المآسي!. . ولتحترف الغناء علها تبث فيه ما في نفسها من لوعة وألم!. . .

استمعت إلى مأساة سلمى، ثم أقنعتها بضرورة العودة إلى ذويها. . . وبعد مضي سنة علمت أنها فرت ثانية من بيت أبيها، وأحبت شابا مسلما وسألته أن يتزوجها.

فقال لها - لكنني أريد أن تعتنقي الدين الإسلامي؟

قالت - أسلمت!. . .

قال - ولا أريدك أن تكوني سافرة.

قالت - سأتشح بالسواد من أجلك. .

قال - ولا أريدك أن تخرجي من البيت.

قالت - لن أخرج من البيت إلا إلى مثواي الأخير!. .

وأعلنت إسلامها في الجريدة الرسمية، وانزوت في بيتها الجديد. . . فقد مثلت دورها. .

وغنت أغنيتها، ولا ينغص عليها حياتها إلا أهلها الأولون الذين يحاولون عبثا الوصول إليها فجاءها شقيقها مرة كبائع زيت. . . وجاءها عمها كبائع أقمشة متجول. . . وجاءتها شقيقتها كبائعة زهور. . وآخر من جاءها أبوها فكان يقرع باب الدار قرعا عنيفا ويصرخ قائلا: سلمى سلمى. . . ابشري يا ابنتي. . ابشري. . . لقد جاءك الطلاق من روما!. . . .

نجاتي صدقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى