أيمن مصطفى الأسمر - النهاز..

ليس سهلا على أي إنسان أن يجعل نفسه في قلب الأحداث سواء شارك فيها بالفعل أو لم يشارك، لكن هذا ما قررت أن أفعله منذ أن كنت طالبا صغيرا في المرحلة الإعدادية ثم الثانوية وبالمثل عندما انتقلت للدراسة بالجامعة، تعلمت أن أضع نفسي في قلب كل نشاط أو حدث مدرسي أو جامعي، وبعد تجارب بعضها مؤلم تعلمت أيضا أن أختار النشاط الذي يبرز اسمي وصورتي ويعود علىّ بالمكاسب والفوائد، وأن أتحاشى المشاركة في الأنشطة التي قد تؤدى إلى إصابتي بالضرر والأذى أو تضعني في مواجهة سلطة ما خصوصا إذا كانت هذه السلطة قوية ومتحكمة ومسيطرة على الأمور، لكنني تعلمت أيضا أن لا أتيح لأحد فرصة أن يأخذ علىّ عدم مشاركتي في مثل هذه النوعية من الأنشطة والأحداث، فقد تأتى الأيام بما لا يتخيله عقل إنسان فتنقلب الأمور رأسا على عقب ويصبح ما كان صوابا قاطعا وحقيقة ثابتة بالأمس خطأ فادحا وجرما عظيما غدا، هكذا بدأت في فرض نفسي على أي حدث أرى أنه سيحقق الشهرة لاسمي وشخصي وسيضمن لي التواجد دائما في بؤرة اهتمام المجتمع الذي يدور فيه الحدث حتى ولو لم أكن جزءا أصيلا منه، قد يكون ذلك بانتهاز أي فرصة لالتقاط بعض الصور أو لقطات الفيديو التي تجمعني مع شخصيات الحدث في أوضاع تدل على اقترابي الشديد منهم، كنت أستغل لتحقيق ذلك ظروف الموقف وعوامل الإحراج وبعض ما في النفس البشرية من فجوات وتناقضات وقصور، وقد أطلق شعارات أو أرتجل كلمات تتماشى مع سياق الحدث وتحوز رضا القائمين عليه فيضطرون للإنصات إلىّ بل تشجيعي والإشادة بكلماتي وشعاراتي باعتبارها نموذجا يعبر عن رأى الجمهور بما يتماشى مع أغراضهم، ومع الوقت طورت طرقا وأساليب كثيرة ومبتكرة للتغلغل بصورة أشد داخل كل حدث يهمني التواجد فيه واستغلاله لصالحي، وعندما أنهيت دراستي الجامعية فضلت أن أمارس عملا حرا لا أتقيد فيه بقوانين ولوائح وتسلسل هرمي لاتخاذ القرارات، كما أنه يتيح لي أن لا أكون مرؤوسا بشكل مباشر لشخص ما، وبعد سنوات من تمرسي في إتباع هذه السياسة بدأ الكثيرون من أصحاب المصالح على اختلاف اتجاهاتهم وأهدافهم في معرفة قيمتي وأهمية الاستعانة بي ترويجا لمصالحهم وتحقيقا لأهدافهم، شمل ذلك السياسيين ورجال المال والأعمال والصناعة، التجار وأصحاب الحرف الصغيرة والعمال، ثم توسع أيضا ليضم الفنانين والرياضيين، أما الجهات الأمنية المختلفة فقد كنت حريصا على أن تكون علاقتي بها طيبة دون التورط بشكل واضح في عمليات تجسس أو إضرار بالغير، كنت حريصا كل الحرص على أن أقدم خدماتي دون الحصول على مقابل مادي مباشر لمن لديهم القدرة على دفع المال، عوضا عن ذلك كنت أحصل منهم على خدمات وتسهيلات تفوق في قيمتها قيمة المال بكثير، أهم هذه الخدمات هي الدفع بي ضمن صفوة المجتمع من سياسيين ورجال أعمال، علماء ورجال دين، مثقفين وفنانين ورياضيين، وكلما توغلت في هذه الأوساط كلما ازدادت قدرتي على إبراز اسمي وشخصي واكتساب المزيد من أصحاب المصالح إلى جانبي، وأحيانا كنت أحصل على معلومات وتسهيلات ذات أهمية خاصة تتيح لي تحقيق السبق على نظرائي في مجال العمل الذي أمارسه فينمو عملي وتتزايد أرباحي بسرعة كبيرة، وعندما قررت الزواج نجحت في الارتباط بفتاة من عائلة مرموقة تتمتع بسمعة طيبة وصلات واسعة، كان هذا مؤشرا واضحا على قبولي بشكل نهائي كي أكون فردا ضمن أرقى طبقات المجتمع، على الجانب الآخر جاهدت كي أحافظ على علاقة طيبة بالبسطاء من الناس وجعلت من نفسي داعما لمطالبهم وحاملا لها إلى أفراد مجتمعي الجديد دون أن أنغمس تماما فيها، هكذا في الثلاثينات من عمري أصبحت نجما من نجوم المجتمع يتردد اسمي بكثرة في وسائل الإعلام المختلفة من جرائد ومجلات ومحطات إذاعية وتليفزيونية، تعددت أسفاري إلى خارج البلاد لتواكب أحداثا مختلفة ومتنوعة الاتجاهات، وعندما بدأ الحديث يتردد تدريجيا عن توريث الحكم من الحاكم إلى ابنه وجدت أن غالبية أفراد طبقتي الجديدة يسايرون هذا الاتجاه بشكل أو بآخر، رأوا في ذلك دعما لمصالحهم وامتيازاتهم التي يتمتعون بها في ظل الحاكم ونظامه، كان المنطق البسيط يحتم علىّ أن أسايرهم إلا أن حذري الذي نما معي على مدار السنوات من انقلاب الأمور فجأة وضعني في موقف شديد الصعوبة بالغ التعقيد، قررت أن أسلك قدر استطاعتي سلوكا غامضا وضبابيا لا يجعل منى مؤيدا أو رافضا صريحا له، كنت بالطبع أعرف شعور العامة السلبي تجاه هذا الأمر وعدم ارتياحهم له، لكنهم كانوا أيضا مغلوبين على أمرهم مشغولين بلقمة عيشهم فظل تذمرهم حبيس صدورهم أو مطروحا فقط من باب التسلية وقتل الوقت، وعندما وقعت بعض الاحتكاكات الخفيفة هنا وهناك على خلفية هذا الأمر كنت بعيدا بشكل مطلق عنها، لكن الأمور تصاعدت فجأة دون سبب واضح وبدأت أشعر أنها تخرج عن نطاق سيطرة الحاكم وأركان نظامه والداعمين لهم من أفراد طبقتي الجديدة، كانوا على العكس يتهكمون على من يتظاهرون ضد الحاكم وابنه وقيادات حكمه ويعتبرون ما يفعلونه لونا من ألوان الترفيه والتسلية، عن نفسي كنت أخشى من الثقة المفرطة لديهم خصوصا لدى القيادات الأمنية وكبار المسئولين ورجال الأعمال، فقد تعلمت من تجربتي الخاصة أن الثقة الزائدة تؤدى إلى التراخي وعدم القدرة على الإمساك جيدا بكل خيوط اللعبة، هداني تفكيري أن أستغل ظروف أعمالي التي توسعت كثيرا للتواجد بصورة شبه دائمة خارج البلاد، سحبت أموالى تدريجيا وأودعتها في بنوك خارجية واشتريت بها عقارات وشاركت في استثمارات متعددة، وفى اللحظة التي رأيت فيها قارب الحاكم ورجاله يوشك على الغرق كنت بالفعل خارجه بل خارج البلاد بأكملها، التزمت الصمت لفترة حتى بدا واضحا أن أيام الحاكم ورجاله باتت معدودة، بدأت تصدر عني بعض الإشارات التي توحي باستيائي مما يحدث من محاولات يائسة لترويع الشعب الذي انتفض فجأة وخرج بالملايين إلى الشوارع والميادين، وعندما سقط الحاكم بالفعل تريثت قليلا ثم عدت معلنا دعمي لتنفيذ سلسلة إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية تأخرت طويلا، أظهرت تأييدي للجيش الذي تولى السلطة معلنا عن رغبته في تسليمها للشعب سلميا في أقرب فرصة غير أنني كنت أعرف أن هذا اليوم قد لا يأتي قريبا، راودتني فكرة أن أؤسس حزبا سياسيا أخوض به الانتخابات المحتملة، وحثني كثيرون على ذلك، ثم عدلت عن ذلك لأنه يتعارض مع السياسة التي اتبعتها طوال حياتي، أجبرني تقلب الأمور واضطرابها على الترقب لفترة فقد تتهيأ لي الظروف وأنتهز الفرصة للوصول إلى ما هو أكبر بكثير من منصب رئيس حزب.

ديسمبر 2011
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى