إبراهيم محمود - التأريخ للجهل..

توضيح: لفت نظري وجود مقالين منشورين حديثاً في موقع " الأنطولوجيا " الأثير عن " الجهل " لكل من الأستاذين سعيد هادف وعاشور فني ، وهو تقييم لمقال سابقه ولا يخلو من جانب انطباعي، ذكَّرني بما ينبغي التأكيد عليه، وهو أنني نشرت كتاباً باسم " مفكّر النهضة الثانية: ابراهيم البليهي " حول مقولات: الجهل، التخلف، الريادة والاستجابة "، عن دار الحوار، اللاذقية، سوريا، ط1، 2017 "، أتعقب جهد هذا المفكر بصدد مقولة الجهة المحورية في كتاباته ومناقشتها. وبغية إضاءة هذه النقطة، أورد بعضاً مما هو وارد في الكتاب، من باب تأكيد حق من جهد في هذا المقام، وما زال يكتب ويحاضر حول هذه الفكرة وخطورتها :
في وسع المتابع لكتابات البليهي أن يتأمل المؤثّر المحيطي: الاجتماعي والبيئي فيها ولا كتابة دون تسمية بيئتها مباشرة أو بصورة غير مباشرة تبعاً لموضوع البحث وما ينطوي عليه من أفكار تنضوي تحت لواء فكرة محورية، أو تكون في مجموعها مغذيات مجتمع معرفي في العمق، حيث إن مقدار الإلحاح على التعلم، والتشديد المكرَّر على وبائية الجهل وسُبل توغله في المجتمع، لا بد أن يتناسب والمكابدة التي يعيشها على مستوى الصياغة الفكرية والأدبية، أضف إلى ذلك، تلك الطريقة المطلوبة ليس لطرح فكرة أو هناك، من خلال مئات المقالات، وهي تُنشَر في صحيفة سعودية رسمية طبعاً " أي الرياض "، وهذا جانب له اعتباره بالتأكيد، إنما كيفية طرحها، ومن هم الذين يمتثلون بوجوههم أمامه، أو هو نفسه يكون متخيَّلاً وماثلاً أمامهم في سجال وليس حواراً، لأن النفَس المحسوس في الكتابة لا يخفي سخونة المتوجَّه إليه، أي المراد من الكتابة.
النفس ناطقة بحيويتها كلياً أو جزئياً، وهي تتمثل عقلاً بمقدار معين، ولا علم لي بنفس تعرَف بمسمياتها: المطمئنَّة، الأمّارة بالسوء، الموسوسة، دون الإحالة إلى العقل الذي يستغرقها أو يمكن أن تسمّى دونه .
في موضوعة الجهل، يمكن أن يمدَّ الناظر وهو باحث متعدد المستويات في الاتجاهات كافة، وماذا ينتظره أو يقف له – حتى – بالمرصاد، ومن يمكن أن يعنى به، من يمكن أن يتهيأ لتلك العملية المثالية والمبتغاة" عملية الإصغاء إليه، ومن يمكنه الدخول معه في حوار ودّي، أو تلك العلاقة التي تفعّل محتوى الفكرة المطروحة لأنها لا تقتصر على جهة معينة بل تشمل الجميع، وليكون لهذا الجميع " حق " المساءلة عما أسنِد إليهم فيها باسمه.
وما يقوله وهو يستدرك مقولة الجهل وأخذ العلم بحيثياتها، يوسّع حدود الرؤية فيها، أي ما يحيل الفكرة ذاتها إلى أجساد تتحرك في متن البحث وعليها علامات وتبين قدرات ( وبهذا يتضح أن الجهل الذي أعنيه ليس فراغاً ولا عَدَماً وإنما هو بنية متينة محصنَّة ذاتيًّا وتملك دفاعات ذاتيه قوية تتحرك تلقائيًّا لمواجهة أية فكرة مغايرة طارئة إن التصورات الخاطئة السابقة للعلوم الحديثة هي موانع قوية راسخة صلدة تحول دون النهوض كما أنها المانع للتفاهم والتقارب والتآخي الإنساني إنها تُنيم العقول وتتحكم بالعواطف وتديم التخلف وتؤجج الأحقاد وتُشعل الحروب وتبدِّد الطاقات الإنسانية وتمنع تحرير العقل الفردي والإجتماعي والبشري وتستبقي الإنسانية في هذا الدرك من الصراع والضياع والتخبط وإهدار القابليات الإنسانية العليا..).
نعم، الجهل ليس فراغاً، وإلا لمَا كان هناك الامتلاء بالمعرفة المتوخاة أو المطلوبة، ولا عدماً، وفي هذه الحالة ما كان لباحثه أن يستشعر حضوره في كل كلمة منطوقة، بقدر ما يكُونُ الجهل بتلك الشبكة الهائلة والمريعة، وهي الفاتنة بمحفزاتها وحصيلتها النفعية الخاصة في مجتمع تكون تلك الإرادة شديدة التمركز في التلقائية فاعلة ولاعبة الدور اللافت باسمه، وربما بمزيد من الاطمئنان، أعني الطمأنة للمعنيين بالشبكة تلك أن لا خوف مما هم عليه، حيث " عراقة " الإرادة المتشكلة ضامنة لهذا الرصيد الاستثماري للقيم المجيَّرة دوام الاستمرار و" الازدهار المعكوس "، ولكنها قاعدة متَّبعة كونها تستغرق النسبة الكبيرة، ذلك ما يخلط بين الجهل والتخلف، وهذا ما سنتطرق إليه، إذ التخلف نفسه وبوصفه الجليّ التجذُّر في المجتمع كثيراً، يحوز حتى أنشطة الخافية، ويملك مع الزمن تلك الدفاعات الذاتية، والمقاومات التي تصد كل محاولة اقتراب من منظومته الاجتماعية والتربوية والسياسية والوجاهية...الخ، وأرى أن هذا التفريق يحتاج إلى مزيد من المكاشفة المفهومية لكل منهما: كيف يكون الجهل تخلفاً، والتخلف جهلاً؟ لا شك أن تفاعلاً بينهما ملحوظ بيسر، وثمة تناوب أدوار، أو تقاسم مهام على أعلى مستوى في الاجتماع والاقتصاد الفكريين والنفسيين، والمؤلف إذ يشدد على أهمية هذا الجانب " تأسيس علم الجهل "، وبناء على ترتيبه لهذه العملية، يكون الجهل في وضعية الشمول، بينما التخلف ففي مقام التضمن، ولكنه إجراء نظري بحت في هذا المعمعان القيمي، إلى جانب المفهوم الفلسفي الدقيق، وقد يصل بنا التفريق وواجب التحديد الدلالي إلى مأزق، لا فكاك منه، أي إلى بيزنطيّ الطبيعة: التخلف أم الجهل، الجهل أم التخلف؟ " لنتذكر هنا طبعاً : الدجاجة أم البيضة ؟ ".
وربما كان هناك تنبُّه مفيد ومأخوذ به، وهو أن علم الجهل وما يترتب عليه من إقصائه أو تذليل عوائقه، أو دحر كل ما يمكّنه من البقاء، أو الحيلولة دون ظهوره بوضعية سيادية على العلاقات القائمة، علم لا يخفي مقصوده، إذ في اللحظة التي يضاء بها كمفهوم سرعان ما يتضح العطل أو الأعطال التي يسببها، أو ما يكون تخلفاً، فأن نكتشف التخلف ونحدد أدواته، يعني لزوم اعتماد علم الجهل، كما لو أن الجهل مقوَدُه والممرات التي يمرّر عبرها مؤثراته، أو نظم التعاطي مع الوقائع.
ذلك ما يتضح تالياً أيضاً ( إن كل ثقافة مغلقة تُقَدِّم نفسها للمنتمين إليها على أنـها القولُ الفصل والصوابُ التام والكمالُ المطلق ويتشرَّب المنتمون إليها هذا اليقين ويغتبطون بـهذه الراحة ويقضون حياتـهم كلَّها مقلدين ومرتاحين بـهذه الغفلة ولكن فئة قليلة من الأفراد تنكسر بين يديها زجاجة التقليد فلا تستطيع الاستسلام لما هو سائد حتى تفحصه وتعرف حججه ولا تقبل ادعاءاته حتى تراجعه وتتأكد من براهينه وهذا هو الشرط الأساسي للتحقُّق وربما كان الإمام أبو حامد الغزالي مثالاً بارزاً للعالم الحريص على التحقُّق والملح على التثبُّت والساعي إلى المعرفة الحقة وهو يقول عن تجربته في محاولة الوصول إلى الحق في كتابه ( المنقذ من الضلال ) : (( .. وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور ـ دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري ـ غريزة وفطرة من الله وُضعتا في جبلّتي لا باختياري وحيلتي حتى انحلَّتْ رابطةُ التقليد وانكسرت عليَّ العقائدُ الموروثة .. ))..)، ولعل طيف الغزالي المتعدّي لمراحل معرفية وحياتية مختلفة، ليكون مقرَّه النفسي فيما أودعه كتابه، لعله طيف مذوّب في نفس كاتبنا بصورة ما، وقد عاش تجربة مديدة ممرحلة، وفي الغزالي مؤاساة!
ربما ذلك ما ينكشف في مضمونه جهة المحصّل معرفياً ( وهكذا نصل إلى أنه لا بد أن يتعلم الناس بأن الجهل المركَّب هو أكثر الحقائق البشرية شيوعاً وأنه أشدها خفاء وأن معظم البشر مغمورون به غير أنـهم يتوهمون غير ذلك فهم يعتقدون بأن الجهل المركَّب حالة نادرة تعرض لبعض الأغبياء في ظروف نادرة في بعض المسائل وهذا الوهم هو نفسه منبعٌ من منابع الجهل وقلعة من قلاعه لأن الأذكياء أشد خطراً على الحقيقة من الأغبياء فهم إذا لم يتربوا على نشدان الحقيقة ولم يعتادوا على التحقّق يكونون بجهلهم المركَّب أشد غروراً وأكثر ثقة بأنفسهم وأشد تعنُّتاً في الإصرار على مواقفهم المبنية على الجهل المركَّب ثم إن ذكاءهم يجعلهم موضع ثقة الناس ويتيح لهم ذلك نشر معرفتهم الزائفة وترسيخ بنية الجهل المركب وأية نظرة على معتقدات وأوضاع الناس في كل الأمم تنتهي بالباحث إلى الاقتناع بأن الجهل المركَّب هو الأصل وأن اكتشاف هذه الحقيقة البشرية الفظيعة هو الاستثناء وأن هذا الاستثناء هو المنفذ الوحيد لأضواء الحقيقة ؟!! ...) .
ذلك التشديد على " موبقات " الجهل، وكيف لا يُتنبَه إليها في هذه الحالة. وكيف يكون التنبه وثمة استغراق فيه؟ ذلك من " جماليات " الأفعال المجتمعية المثابة، والتي تحتّم المعنيين بها، ومتلقي عوائدها على استحضار محفزات أكثر، وفي ظل تعطيب القوى العقلية المغايرة لها، وهو ما يعود إليه" أي الجهل " في أمكنة أخرى: مقالات تحمل اسمه،أو ضمناً، كما في " بنية الجهل: لزوم دراسته"، وتكرار القول وبصيغة أخرى ( الجهل علمياً من أقوى عوائق الحضارة.. الجهل المظنون عملاً هو مصدر الكثير من المشكلات والمعضلات الإنسانية ، المهم التعرف على منابعه والكشف عن طبيعته..)، أو في مقال آخر، وهو " تزكية الذات أحد منابع الجهل والجور والتخلف " وثالوث العلاقة معزَّز الروابط، وقوله الدال على مدى الاهتمام والانشغال بشئونه ( الرؤية القاطعة والماحقة هي أغزر منابع الجهل والجور والتخلف).
وهو إلحاح ينير خلفيته، بقدر ما يفصح عن استفحال خطره وما يجب القيام به في مكان آخر طبعاً، والمكان الآخر ليس أكثر من المكان الواحد نفسه: مجتمعه أولاً وما يليه، أي كل ما يعتبره امتداداً لمجتمع يعمُّ فيه جهلٌ مأخوذ به، في مقتنياته، أو في تلك الوسائط النفسية التي تمكّن المتعاقدين معه، وإن لم يعترفوا بذلك، من أن يستمروا في تجديد هذه النوعية من الأطر في السلوكات، كلما شعروا بقرب انتهاء صلاحية استعمار أحدها، ليصار إلى استيلاد البديل أو البدائل، وهي تبرز نوعية القوى المساهمة في ذلك،وهو ما يرجع بنا إلى نقطة اللابداية، إنما إلى القيام بأكثر من عملية مسح ميدانية لتقصي مراجعه وتوابعه وطرق تخديمه وتفعيله في الرؤوس والنفوس( إن جَهْلَ الإنسان بطبيعته التلقائية وإن دقةَ وتعدُّدَ وتعقيدات أجهزته الآلية وتَحَكُّمَ الهرمونات وإفرازاتـها التلقائية وهيمنةَ محتويات اللاوعي وكونـها مصدر استجاباته وردود أفعاله إن هذه كلها تتطلب من الإنسان أن يتعرَّف على طبيعته التلقائية وأن يلمَّ بتكوينه المعقَّد وأن يحاول إعادة برمجة نفسه وأن ينمي ميوله الجيدة وأن يبني عاداتٍ نافعة ويروَّض رغباته الرديئة ويبرمج ذاته بالمعارف الدقيقة والمهارات العالية والأفكار الخلاقة .) .
في متابعة الباحث البليهي لشاغل نفسه وتفكيره، وهو في وسط لا أظن أنه موارب له ظهره، وإنما يتحفظ على جل ما يتفوه به أو يسطره على الورق أو يعلنه هنا وهناك بالصوت والصورة بالتأكيد، وبقدر ما يحاول استطاعته وهو الحد من انتشار نفوذه، وهو في هذا الوسط المشهود له بالانغلاق العلمي، والاحتفاء بمآثر الجهل، وفي مسعى منه لـ" فك الحصار "، لأن ما يقوم به يمثّل " حربه " ولو أنه يمارس كل جهوده الممكنة تجنباً لأي صدام، وقد ألمحنا سالفاً إلى أنه لا يخاصم أحداً، ولكنه لا يهادن أحداً بالمقابل، كما قلنا، وعلينا ألا ننظر في الجهة المومَأ إليها بهذا التعبير، ألّا نعتبر الكتابة على هذه الشاكلة وثيقة تعهُّد خطية بأنه إنسان " مسالِم " لأن المودَع نصوصَه يُعلِم بتوتر علاقات. وربما بين تجنب الخصم، وتجنب المهادنة، ثمة أكثر من إشكالية التصرف، إنها سياسة دفاعية عن ذات مجتمعية، ولكنها بعلامتها هذه تقوم بعملية ترجمة لنص مجتمعي غير مخوَّل به، أي حين يفصح عما لديه وما يجب أداؤه وبناؤه، دون أخذ الأذن من أحد، أو الاستفسار عما إذا كان ذلك ممكناً، وهو في الحد الأقصى يمثّل أقل من الأقلية بالذات: أقلية يحتفَظ بحقها في التعبير عما يجري، وأقلّية مضمونة الحقوق فيما تسمّي، وأقلية معروفة بمكتسباتها التي تتعدى نطاق ذاتيتها، إنها فردانية بارزة، وهنا يحصل الافتراق قطعاً!
كيف يقارب جهله، الجهل الذي يُسمّي المأخوذين بالتخلف والذي ينوسم به مجتمع كامل؟ كيف يبرز هذا الجهل " الجهل المقدس، بتعبير الفرنسي أوليفيه روا، وهو عنوان لافت لأحد كتبه "، ومن يكون وراءه، وحينها أين يكون العقل المعلّم وعلم العقل الذي يعرَّف به الجهل؟...
ما الذي يُرى في أفق المشهد الثقافي وناقده، وهو المدرِك لمسلكه في التسميات الفارقة؟ ثمة ما يعمّق المسافة بينه وبين الأغلبية، ومفهوم الحرص الشخصي هنا لا يُعتد به، لأنه في الوقت الذي يتحدث عن مجتمع يتنفس ما هو تلقائي، أي متكتم على نفسه دفاعي ضد كل ما يبلبل لسان " جهله " المعرَّف به كثيراً، يشير بإصبعه إلى ما هو متخوف منه، ولكنه الطريق الذي يعتبره الوحيد الممكن، أو الممكن الوحيد إن أريد لهذا المجتمع دخولاً في العصر والتاريخ الحيين، وهنا أسمّي الفلسفة، وليس أي فلسفة . إنها الفلسفة اليونانية ورابطها القيمي، ومن ثم المسار النهري والذي يلاحَظ في تدفقه وتوسع ضفافه وشارة العبور والسباحة فيه: الليبرالية!

إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى