محمود العزازمة - زيارة مختلفة ..

كنت أجلس خلف منزلي صباحا أتشمس .أمامي فنجان قهوة .تنعكس صورة وجهي على جدار خزان الماء الحديدي ،فأراه وجها غير حليق وبائسا نسبيا ،حيث تحاول عيناي تلافي ضوء الشمس ،فتنكمشا للداخل ،الأمر الذي يزيد من انقباض وجهي ،فأشعر أنه وجه لرجل في غاية العوز والإفلاس والألم ،وأحيانا أشعر أنه وجه رجل سجين .
كثيرا ما أتأمل صورتي على صفحة الخزان ،حتى أنني تأكدت أنني وضعته في مكان غير مناسب.
ورن التليفون:
- يا هلا حمدالله .
- اسمع ستتصل بك امرأة اسمها فلانه الفلاني لا أعرفها كثيرا ،من عندنا من منطقة كذا ،هي كاتبة وتريد أن تتعالج في عمان ،لو استطعت أن تسدي لها بعض العون.
عجبت من حمدالله كيف يكون صاحيا في هذا الوقت ،لا بد - والعلم عند الله - أنه واصل سهره منذ البارحة ،ثم قلت إلى نفسي :حمد الله كويس ها هو يتذكرني ويتصل من بلاد بعيدة ،ولأنني أعرف في قرارة نفسي شخصيته العبثية غير المسؤولة -أحيانا - لم آخذ أمر المكالمة على محمل الجد.
تلافيا لصورة الرجل البائس ،أعطيت خزان الماء ظهري.
ومضيت أتأمل شجرة الليمون الخضراء ،وأحاول أن أجذب نفسا من أنفي لأتشمم رائحتها ،ثمّ قمت وبدأت أطوف حولها فيما يشبه التمشي. هذه الشجرة زرعتها أيام كنت معلم في وزارة التربية ،الله كم كنت فقيرا ،أمشي حوالي ثلاث كيلو متر إلى مدرسة القرية الابتدائية ،وتستهلك قدماي حذائين شهريا ،منحني الشجرة أحد الطلاب في طريق عودتي ،وسألته من أين سرقها ،فأقسم يمينا أنه وجدها ملقاة بجانب الطريق وليست لأحد ،فحملتها إلى بيتي وزرعتها ، أتذكرها كم كانت صغيرة منتوفة الورق ،وواظبت على سقايتها حتى كبرت .
رن الهاتف .
- أنا من طرف حمدالله.
- أهلا وسهلا.
- من فترة وأنا أريد التعرف بك.
أحسست أنها تكذب ،وقلت :أستغفر الله أنا أخوكم وفي خدمتكم.
- أنا في عمان.
- أين في عمان؟
- العبدلي.
- تحتاجين لخدمة؟
- إذا سمح وقتك.
- سأتيك الآن ،أنا في قرية تبعد عن عمان حوالي أربعين كيلو ،أحتاج لساعة وأكون عندكم.
- هذا رقمك؟
- هذا رقمي.
وجهها ليس قمحيا كما كنت أخمن ،أقرب للشعيري الفاتح ،ممشوقة القوام ،جسد غير متهدل ،أتوقع أنها تمارس الرياضة.
وانطلقنا ،أكدت لها أن عمان جميلة ،وشعرت أنها وافقتني الرأي وإن كنت ألمح شكوكا في صدغها المتطلع من النافذة ،كانت تريد مكانا للاستقرار فيه ،مدّ لها أحد الأطفال المشردين أثناء وقوفنا على الإشارة علبة العلكة لتشتري ،فنقدته بعض الأوراق النقدية دون أن تمد يدها للعلبة . رأيت الطفل ينهمك بفرح في عدها ،ثم ركض مختفيا بين السيارات.
وسكتنا.
ليتها تمنحني أي إشارة عن أوضاعها المادية ،أعرف أنها موظفة في جهة حكومية في بلادها ،لكن أعرف تلك البلاد جيدا ،ثقافة الناس القائمة على أخذ القروض المزدوجة قرض للأب وقرض للزوج والاستهلاك الفضفاض ،أريد أن أعرف بعض ظروفها المادية لأختار لها فندقا مناسبا ،وسط البلد ،سقف السيل ،تترك المدرج الروماني على شمالك وتتجه جنوبا ،فنادق كثيرة نظيفة وزهيدة ،وفيها غرف ليلتها بثلاثة دنانير.
أشعر تجاهها بمسؤولية ،حالة لا تأتي إلا نادرا ،إنها ابنتنا في كل الأحوال ضمن كار الكتابة والأدب ،وفي نفس الوقت هي إنسانة تمرّ على ما يبدو بمعضلات حياتية ،وفي الوقت ذاته رأيت أن جمالها لا يقاوم ،رائحتها اللذيذة بجواري ،شعرها أسود فاحم ،مخبأة أجزاء كثيرة منه تحت منديلها ،فكرت برغبتي في تأمله كاملا حتى آخر أطرافه ،وجهها مدور ،مائل للبياض ،خدها الأيمن معلم بحفرة صغيرة في داخلها نقطة خضراء أكسبته جمالا زاهيا ،مع هذا أعي أنني أستطيع كبح أي رغبة خارجة عن السياق.
كتبت مجموعة قصصية ،ربما مجموعتها الأولى ،قرأتها ولم أكن أعرفها ،قرأتها قبل اثنتي عشرة سنة ،كنت للتو متخرجا في الجامعة ،وأعمل مراقب دوام في مشروع سد الكرامة ،في مكتبة المشروع ،كان هناك رجل متقاعد من الجيش اسمه أبو شداد ،تبرع ببعض الكتب الدينية والأدبية ،منشئا مكتبة صغيرة متواضعة للعمال ومن بين هذه الكتب كانت مجموعتها القصصية ،وقد استعرتها ،وقضيت نصف ليلة في قراءتها ،كانت أجواؤها شاعرية وأنثوية ،تتعرض كثيرا للمحن التي يمكن أن تحيق بامرأة متزوجة ،أذكر أن أحد مقاطع القصص يذكر أن رجلا في سرير الزوجية يغط في نوم عميق ،وبجواره امرأة تتأمل وجهه المحير ،وتعاتبه على بعض الأمور ،وتذكره ببعض الذكريات .
لم تذكر لي أي لمحة عن أحوالها المادية ،شقت بنا المركبة ميدان عبد الناصر ،واتجهنا غربا في طريق عمان صويلح ،كان فندق القدس على يميننا ،قلت لها ،هذا فندق نظيف ،مع أنه غال ،خمس نجوم.
التفتت إلي ،وقالت :
- ضخم ،يثير الريبة. وزمت شفتيها كأنها تشعر بالاشمئزاز.
لدي مشلكة خاصة مع أب أولادي ،طلقني مرتين بدون سبب.
هنا أخبروني أن هناك نوعا من الزواحف اسمه السلحفاء البرية ،تعيش في الجبال فقط ، تخيّل ؟
تذبح ،ويعمل منها شوربة لذيذة تشبه شوربة الدجاج ،سيشربها زوجي لمدة أربعين يوما ،سيعود لي ،وتهدأ حياتنا ،قلت :
- أربعين يوم ؟ كثير .
- لازم أربعين يوم.
- يعين الله.
أحسست أنها سريعا ما أخذت راحتها ،حدثتني عن أطفالها ،الصغير فيهم اسمه راشد وتدلعه بـ رشودي ،وأفصحت عن عاداتها الخاصة ،حيث طلبت قدّاحتي لإشعال سيجارتها ،وأصبحت تتكلم دون قيود وبطرق سردية محملة بالناحية الأدبية:
-(إن الحياة تفتقر لكل ما هو حي ) قالت هذا وهي تتأمل عامل البلدية وهو يتأبط منشار كهربائي ويجز عنق الشجرة في محاولة للتقليل من حجمها.
أما عبارة (لله درك ) فكانت تجري على لسانها كردة فعل على معظم العبارات التي أقولها لها.
قلت أعرفها ببعض الأماكن الثقافية ،ولاحظت أنها ازدادت انطلاقا ،تعلق على كل ما تراه عينها ؛في بهو المركز الثقافي الملكي قريبا من المسرح الكبير وقفنا ،طريقة مزاحها خشنة قليلا ،تقرصني في بطني حين تضحك ،وتقول:
- اضرب كفك ،ووسط الناس الواقفين تجلد كف يدي بباطن يدها ،وتحدث صوتا مجلجلا،أتلفت يمينا وشمالا ،وأقول:
- ليس هكذا يا بنت الحلال.
وصلنا لفنادق سقف السيل ،أطلت برأسها لمشاهدة الغرف ،ورمقتني بعدة نظرات مؤنبة ،أحيانا يخيل إلي وأنا أعطيها ظهري أنها تضرب كفا بكف.
استأذنتها لإجراء مكالمة تليفونية .
اتصلت بشقيقتي آمنة ،قلت لها :
- لدي ضيفة أديبة وتحتاجك.
وأضفت ،لو تأخذينها عندك في البيت .
- أين أنت ؟
- وسط البلد.
- اسمع.
- - نعم.
- ركِّبها في تاكسي ،وصف له البيت ،وما عليك من الباقي.
قلت قبل أن أغلق الهاتف :
أوصيك يا آمنة بها ،هذه أديبة وغريبة ،أنت عارفة ما معنى أديبة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى