رسالتان بين طه حسين وأحمد أمين

8 يونيو 1936

إلى صديقي أحمد أمين

أخي العزيز:

قرأت فصلك الأخير الذي تناولت فيه النقد فصورت ما رأيت من ضعفه، والتمست له العلل والأسباب. وما أكثر ما يمكن أن يتصل بيني وبينك من الجدل لو أنني وقفت عند هذه القضايا التي أرسلتها إرسالاً، وحكمت بها على النقد قبل عشرين سنة، وعلى الأدب الآن! ولكن الفصل فصل صيف، لا يسمح بالجدل الطويل والحوار المتصل، لأننا مشغولون عن هذا وذاك بما تعلم من أعمالنا اليومية الثقيلة التي يقتضيها آخر النشاط الدراسي وأول هذه الأيام التي يفرغ فيها كل منا لنفسه ودرسه وراحته وراحة من يتصلون به، فلن أجادلك في أكثر هذه القضايا التي لا أكاد أقبل رأيك فيها. ولو أني أرسلت نفسي على سجيتها لما جادلتك في شيء مما ألممت به في هذا الفصل، ولقرأته كما أقرأ كثيراً مما تكتب مستمعاً دائماً، عارفاً أحياناً، ومنكراً أحياناً، ومتحدثاً إليك بما أعرف من آرائك وما أنكر

نعم لو أني أرسلت نفسي على سجيتها لاكتفيت بما كان بينك وبيني من حديث أول أمس، ولكني مدفوع هذه المرة إلى أن أتجاوز السجية، وأخرج عن العادةالمألوفة، وأرد بعض الأمر إلى نصابه، لأنك تجاوزت فيه ما ينبغي من الأنصاف. وأنا أبرأ إليك من الغرور وأربأ بك عن الجور، وما أشك في أن أمثالي من الكتاب الذين عرضت بهم أو عرضت لهم في فصلك القيم يبرؤون إليك مثلي من الغرور ويربأون بك مثلي عن الجور، ويرون مثلي أنك عرضت لقضية النقد ولقضيتهم هم في النقد عرضاً سريعاً، حظ اللباقة فيه أعظم من حظ التثبت والتدبر والأناة

وأظنك قد عرفت الآن القضية التي أريد أن أجادلك فيها، والمذهب التي أود لو أصرفك عنه. فأنت ترى، أن جماعة النقاد الذين كانت إليهم قيادة الرأي الأدبي، أو قيادة الحياة العقلية منذ حين، قد اصطنعوا الشجاعة أول أمرهم، وآثروا الصراحة أو كانت الصراحة لهم خلقا، فكتبوا كما كانوا يرون، وأخذوا بحظوظهم الطبيعة من الحرية؛ لم يحفلو بالجمهور، ولم يخافوا الرأي العام، ولم يحسبوا لمقاومة المحافظين حساباً. ونشأ عن شجاعتهم تلك، وعن صراحتهم هذه، أن بعثوا في الحياة العقلية نشاطاً لم تألفه مصر، فكان الصراع العنيف بين القديم والجديد، وكان الخصام الشديد بين الحرية والرجعية، وألفت الكتب ونشرت المقالات وأذيعت الفصول، وأنتفع الأدب بهذا كله واستفاد النقد. وكل هذا صحيح عندي ولاشك فيه، ولكنك ترى بعد ذلك أن هؤلاء الكتاب قد أوذوا في مناصبهم وفي أنفسهم وفي سمعتهم وفي أرزاقهم، فلم يثبتوا للأذى، ولم يمضوا في المقاومة، ولم يعنهم اتباعهم وأولياؤهم على الثبات، وإنما عطفوا عليهم عطفاً أفلاطونياً لا يشبه ما يجده أمثالهم في أوربا من الأتباع والأولياء، فلانوا ودانوا وجاروا وداروا، وآثروا العافية ومضوا مع الجمهور إلى حيث أراد الجمهور، ونشأ الجيل الجديد فاقتدى بأخوته الكبار وسار سيرتهم، وأصبح النقد مصانعة ومتابعة وأصبح الأدب تملقا وتقليدا.

وهذا أيها الأخ العزيز هو الذي أخالفك فيه أشد الخلاف، وأنكره عليك أعظم الإنكار، يدفعني إلى ذلك أمران: أحدهما أن رأيك بعيد كل البعد عن أن يصور الحق؛ والثاني أن رأيك يمسني، وأؤكد لك أنه يحفظني كل الاحفاظ ويؤذيني كل الإيذاء؛ ولعله يحفظني ويؤذيني أكثر مما احفظني وآذاني كل ما لقيت من ألوان المشقة والإعنات. فهل من الحق أن هؤلاء الكتاب الذين تشير إليهم قد أدركهم الضعف والوهن، فمالأوا الجمهور، وصانعوا السلطان وآثروا العافية في أنفسهم وأموالهم ومناصبهم؟ ومتى كان هذا؟ أحين عصفت العواصف بمصر فأفسدت أمرها السياسي والعقلي وألغت نظامها الحر إلغاء، وفرضت عليها نظاماً أخر مصنوعاً ألغيت فيه كرامة الأفراد والجماعات وتجاوز العبث فيه بالحرية كل حد معقول؟ تعال أيها الأخ العزيز نبحث معاً عن هؤلاء الكتاب أين كانوا في ذلك الوقت؟ وماذا صنعوا؟ وإلى أي حد جاروا وداروا وآثروا العافية؟ لست في حاجة إلى أن أسميهم، فأنت تعرفهم كما يعرفهم الناس جميعاً. لم يكن لأكثرهم منصب في الدولة؛ ولعلي كنت من بينهم الوحيد الذي كان يشغل منصباً من المناصب، فلما عصفت العاصفة أقصيت عن هذا المنصب فأدركت الزملاء ووقفت معهم حيث كانوا يقفون، ومضينا جميعاً إلى حيث كان يجب أن نمضي، واحتملنا جميعاً ما كان ينبغي أن نحتمل من الأثقال. فكنا أيها الأخ العزيز ألسنة الساسة وسيوف القادة، والسفراء بينهم وبين الشعب. وكنا سياطاً في أيدي الشعب يمزق بها جلود الظالمين تمزيقاً. وكنت ترى وكان غيرك يرى آثارنا في الظلم والظالمين، وبلاءنا في مقاومة العدوان والمعتدين، وحفاظنا لهذا الشعب الذي لم يكن له قوة إلا قوتنا يومئذ. وكنتم تعجبون منا بذلك وتحمدونه لنا وتؤيدوننا فيه. وكنتم تقومون على الشاطئ وتروننا ونحن نغالب الأمواج ونقاوم العواصف نظهر عليها حيناً وتظهر علينا أحياناً، فكان بعض الناس يصفق لنا إذا خلا إلى نفسه لا إذا رآه الناس، ويعطف علينا إذا لم يحس السلطان منه هذا العطف. ولست أزعم أني قد استأت بهذا الفضل، فقد كان نصيبي منه أقل من نصيب كثير من الزملاء. لم أدخل السجن وقد دخله منهم من دخله. أترى أن مواقفنا تلك كانت مواقف المنهزمين؟ أترى أنا شغلنا عن النقد الأدبي بأنفسنا وأموالنا وإيثار للعافية ومجاراتنا للسلطان؟ أم ترى أنا شغلنا عن النقد الأدبي بالدفاع عن قوم لم يكونوا يدافعون عن أنفسهم لأنهم لم يحسنوا هذا الدفاع أو لم يقدروا عليه أو لم يريدوا أن يتورطوا فيه؟ أليس أول ما يجب على المؤرخ الأدبي وعلى المؤرخ بوجه عام أن يكون منصفاً؟ أترى من الأنصاف أن تزعم أن الذين حفظوا للشعب المصري مظهر مقاومته للظلم وأدوا إليه رسالة ساسته وقادته، وأدوا إلى ساسته وقادته ما كان يضطرب في نفسه من الآمال والأماني، وما كان يثور في قلبه من العواطف، كانوا منهزمين يدارون ويجارون ويؤثرون العافية؟

مهلاً أيها الصديق فقد يفهم من الشعوب قصر الذاكرة، ولكنه لا يفهم من خاصة الناس وقادة الرأي وحفظة التأريخ. والغريب أن رأيك هذا في إخوانك الكتاب يظهر أنه قد أعجبك حتى ألهاك عن حقائق ما كان ينبغي أن تلهو عنها. فهؤلاء الكتاب المنهزمون في رأيك لم تشغلهم هذه السياسة العنيفة المنكرة عن الأدب ولا عن النقد؛ وإنك لتعلم أنهم جميعاً كانوا يخاصمون في السياسة وجه النهار ثم يفرغون لأدبهم آخره؛ وكلهم قد أنتج في الأدب أثناء المحنة، وفي الأدب الخالص الذي لا يتصل بالسياسة ولا يمت إليها بسبب؛ ومنهم من اتخذ السجن وسيلة إلى هذا الإنتاج؛ ومنهم من لم تصرفه ظلمة الحياة العامة وشدة الحياة الخاصة عن أن يجول في عالم الفن جولات ثم يعود منه ومعه زهرات في الشعر أو في النثر يهديها إليكم لتلهوا بها وتستمعوا بشذاها، وتستعينوا بذلك على المضي في أعمالكم الهادئة المطمئنة.

مهلاً أيها الصديق فقد يخيل إلي أن هؤلاء الكتاب أنفسهم لم يهملوا النقد نفسه في ذلك الوقت ولم يقصروا في العناية به؛ وإذا لم تكذبني الذاكرة فأنهم قد نقدوك أنت وتناولوا كتبك بما ينبغي لها من العناية والدرس؛ وإذا لم تكذبني الذاكرة فقد كانوا يفرضون على أنفسهم برغم السياسة وأثقالها وأهوالها، وبرغم الحياة الشاقة التي كانوا يحيونها، والتي عرفت منها شيئاً وغابت عنك منها أشياء؛ كانوا يفرضون على أنفسهم أن يقرءوا ما يظهر من الكتب والدواوين وأن يقولوا رأيهم فيه؛ كانوا يفرضون على أنفسهم صفحة أدبية في الأسبوع يفرغون لها اليوم أو أكثر من اليوم، ويعرضون فيها للنقد كما تحبه وترضاه، ولست أدري كيف نسيت أن المقالات التي كانوا يذيعونها في النقد أثناء هذه الأعوام الأخيرة، قد كانت تثير من الخصومات شيئاً كثيراً، منه ما يثور بينهم هم، ومنه ما يثور بينهم وبين الأدباء الناشئين. ولعلك لم تنس بعد أن خصومة ثارت بيني وبين هيكل حول ثورة الأدب، وأخرى بيني وبين العقاد حول اللاتينية والسكسونية، وثالثة بيني وبين العقاد حول ديوان من دواوينه. فأنت ترى أن إخوانك لم يقصروا ولم يفتروا، ولم يسالم بعضهم بعضا. ولم يأمن بعضهم شر بعض. ولعلك لم تنس أني قد اتخذت الراديو في بعض الأحيان وسيلة من وسائل النقد، فكنت اشتد حيناً على الكتاب الذين استمرت مريرتهم وتم لهم النضج، وأرق حيناً آخر للكتاب الذين لم تستقم لهم الأمور بعد؛ وأنا أفهم أن تطالبنا بالمزيد وألا تكتفي منا بما نعطي، فنحن نطالب أنفسنا بالمزيد ولا نكتفي من أنفسنا بما ننتج، ولكن هذا شيء ووصفنا بالمداراة والمجاراة وإيثار العافية شيء آخر.

وبعد فليس السبيل على الذين أدوا واجبهم الأدبي كما استطاعوا ومازالوا يؤدونه كما يستطيعون برغم ما يملأ حياتهم من الهموم وما يعترض طريقهم من الشوك، وإنما السبيل على الذين يتاح لهم الهدوء ويستمتعون بالبال الرخي والحياة المستقيمة المطمئنة ثم لا ينقدون لأنهم لا يقرءون، أو لا ينقدون لأنهم يقرءون ويشفقون إن أعلنوا آرائهم أن يتنكر لهم الناس وأن يسلقهم أصحاب الكتب بألسنة حداد.

إلى هؤلاء أيها الصديق تستطيع أن تسوق الحديث، وعلى هؤلاء أيها الصديق تستطيع أن تصب اللوم صباً.

وأخرى لا أريد أن أختم هذا الفصل قبل أن ألم بها إلماماً. فأنت تذكر قوماً قد استووا على عروش الأدب وقد أمن بعضهم بعضاً وخافهم الناشئون، فأنت إذن تعيد الخصومة بين من يسمون الشيوخ ومن يسمون الشباب جذعه. وأظنك توافقني على أن التفكير في هذه الخصومة لا يخلو من بعض الحزن. فقوام هذه الخصومة فيما أعلم أن الأدباء الناشئين ضعاف أثِرُون عجلون، يخيل اليهم أن النقد يمحوهم من سجل الأدباء محواً، مع أن النقد يثبتهم فيه إثباتاً. يريدون أن يبلغوا بالجهد اليسير ما بلغه أسلافهم بالمطاولة والمحاولة واحتمال الأذى وكثرة القراءة والدرس، ويريدون أن يتم لهم ذلك ما بين طرفة عين وانتباهتها كما يقول القائل؛ وفيهم كبرياء لا تخلو من سخف، ومن سخف يذكر بأخلاق الأطفال؛ فهم إن كتبوا رأوا لأنفسهم العصمة، ولم ينتظروا من النقاد إلا ثناء وحمداً. فأن أدركهم بعض النقاد قالوا: حسد وتكبر واضطهاد وأثرة وتثبيط للهمم. وفيهم غرور يخيل إلى كل واحد منهم أنه ممتاز من أترابه جميعاً. ومهما أنس فلم أنسى كاتباً أضاع مودة وصداقة حباً وعطفاً لا لشيء إلا لأني جمعت بينه وبين كاتب من معاصريه في فصل واحد، وكان ينبغي أن يمتاز في رأيه، وإلا لأني دعوته إلى أن يستزيد من القراءة فعد هذا إسرافاً واعتداء.

أمام هذا الجيل الرخو من الأدباء الناشئين يضيق الناقد المخلص بالنقد ويزهد فيه ويصد عنه صدوداً في بعض الأحيان، ولكنه لا يلبث أن يرى حق الأدب عليه فيستقبل من أمره ما أستدبر، ويثني على قوم وهو يعلم أن ثناءه سيملؤهم غروراً وسيخرجهم على أطوارهم، ويعيب قوماً وهو يعلم أن عيبه إياهم سيدفعهم إلى اليأس إن كانوا أخياراً، وسيدفعهم إلى القحة إن كانوا أشراراً.

ونحن برغم هذا بل من أجل هذا نمضي في طريقنا لا نقف كما يظن بعض الناس، ولا نرجع كما تظن أنت أيها الصديق، لأنك في أكبر الظن قد لا تتابعنا أحياناً، وقد تطلب منا ما نطلب من أنفسنا وتحول ظروف حياتنا بيننا وبينه.

أما بعد، فأني أحب أن أؤكد لك أني أنا خاصة ما زلت عند رأيك القديم في، صريحاً إلى أقصى حدود الصراحة، جريئاً إلى أقصى حدود الجرأة، مستعداً في هذا العالم إلى أن استأنف ما فعلت منذ عشر سنين، وإلى أن أستأنف ما فعلت منذ أربع سنين. وإني لشديد الأسف أن كانت ثقة الأستاذ كراتشكوفسكي بي أقوى وأشد من ثقتك أنت، فأنه لم يتردد في مقدمة ترجمته للأيام أن يتنبأ بأن ما عرض لي من الخطوب ليس كل شيء، وأنه ينتظر أن يعرض لي مثله، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها فلا تتعجل، فمن يدري؟

وأنا أرجو بعد هذا كله أن تتلقى هذا الفصل بصدر رحب، فأني أهديه إليك تحية صديق يضمر لك اصدق الحب وأوفاه.

طه حسين



****


15 - 06 - 1936

إلى أخي طه حسين


عرضت في مقالي السابق لضعف النقد الأدبي في مصر، وخاصة في السنوات الأخيرة، وذكرت أن رقي النقد لم يساير رقي الأدب، فقد كان الإنتاج الأدبي قليلاً، وكان النقد يؤدي مهمته في هذا القليل ويعرف جمهور القراء به، ويبين مزاياه وعيوبه، وتختلف أنظار النقاد فيه، ويعرضون له من وجوهه المختلفة، وفي كل ذلك فائدة للأدب وتبصرة للقراء؛ ثم كثر الإنتاج وارتقى، وقل النقد وضعف، واكتفى جمهور النقاد بنقد الكتاب من فهرسه ومقدمته. واليوم أزيد هذا الرأي شرحاً وبيانا، وحجة وبرهاناً.

في كل عام يخرج هيكل وطه والعقاد والزيات والمازني وزكي مبارك وغيرهم كتباً عدة، ويخرج الشعراء قصائد كثيرة، ويخرج مؤلفو الروايات روايات تعد بالعشرات، ولكن قلب الصحف والمجلات لترى نقدها نقداً صحيحاً فقل أن تعثر عليه. هذا أقرب كتاب إلينا وهو كتاب (محمد) لتوفيق الحكيم. هو من غير شك عمل جديد في بابه من حيث وضعه للسيرة النبوية في قصة؛ ولكن أين النقد الذي قوبل به الكتاب؟ وأين ما كان من البحث حول قيمة ما فيه من فن، وهل هذا العمل في فائدة التأريخ والأدب أم لا؟ وهل من الخير أن نشجعه أم لا؟ ثم هل هو صور محمدا (ص) صورة صحيحة أم لا؟ نعم أنه اعتمد في كل ما نقله على عبارات السيرة، ولكنه أختار أجزاء وحذف أجزاء، وألف بين هذه الأجزاء، وهذا التأليف بين أجزاء معينة وترك غيرها يجعل الصورة ذات ألوان خاصة يسأل عنها المؤلف كما يسأل عن كتاب كتبه بنفسه وعبر عنه بعبارته.

لم نجد شيئاً كثيراً من ذلك؛ ومر الكتاب بسلام. وأظن أنه لو ظهر من نحو عشر سنين لكان له شأن أخر، ولنال من النقد ما يستحقه. وليس يعنينا أن المؤلف يغضب من النقد أو لا يغضب، فالنقد ليس من حق المؤلف وحده، وإنما هو حق الناس جميعاً وحق الأدب والتاريخ.

وهل أتاك نبأ ما كان منذ شهرين، إذ نشر شاب في الإسكندرية رسالة في (الحديث)، تعرض فيها للرواية والرواة، ونقد بعض المحدثين، وطعن بعض الأسانيد، فأجتمع مجلس الوزراء وقرر مصادرة الرسالة؟ مع أن المعتزلة منذ ألف سنة قد أنكروا أكثر الأحاديث إلا ما أجمع الرواة على صحته، ولم يكفرهم من أجل هذا أحد، ولم يصادر كتبهم من أجل هذا أحد. ومنذ أكثر من ألف سنة حكى الشافعي في كتابه (الأم) حكاية قوم من المسلمين أنكروا حجية الأحاديث بتاتاً، ولم يشنع عليهم أحد، ولم يقل بكفرهم أحد، وجادلهم المجادلون في هدوء وثبات كما يجادل المؤمن المؤمن. ومنذ عشرين سنة على ما أذكر، كان ينشر المرحوم الدكتور صدقي في (مجلة المنار) مقالات ضافية متتابعة يدعو فيها إلى الرجوع إلى القران وحده، وينقد الرجوع إلى الحديث، ورد عليه جماعة من العلماء، وطال الأخذ والرد والدفاع والهجوم، ولم يجتمع إذ ذاك مجلس الوزراء ويقرر مصادرة المنار كما أجتمع وقرر هذه الأيام. ألا يدل هذا وأمثلته على أننا أصبحنا أضيق صدراً وأقل حرية؟ ومن الغريب أن أحداً لم يحرك لهذا ساكناً ولم يفه ببنت شفة! ولو وقع هذا الحادث من عشر سنين لقام له الكتاب الأحرار وقعدوا، ودافعوا ونقدوا وهذه لجنة التأليف تصدر كل حين كتاباً بل كتيباً، وتهديها إلى الأدباء والصحف والمجلات، ثم تنتظر من يقومها وينتقدها ويبين مزاياها وعيوبها، ويشرح للجنة رأيه في مسلكها وفيما تخرجه من الكتب، ويرشدها إلى وجهة قد تكون خيراً من وجهتها، فلا تجد إلا القليل النادر والنتف القصيرة التي لا تجزئ وسبب هذا أننا لا ننظر إلى النقد النظر الذي يستحقه من الإجلال والإكبار؛ فمنا من ينظر إلى النقد على أنه إعلان عن الكتاب؛ ومنا من ينظر إليه على أنه مجاملة لصديق أو تحية لصاحب أو استغلال لموقف؛ وقليل جداً من ينظر إليه على انه ميزان دقيق كميزان الذهب يوزن به النتاج الأدبي وزناً محكماً فلا يفوته شيء. وقد أجاد العرب كل الإجادة في تسمية هذا المنحى الأدبي (نقدا) أخذا من نقد الصيرفي الدراهم والدنانير ليعرف جيدها من زائفها.

وقد أدى هذا النظر إلى الصحف والمجلات وكثيراً من الكتاب عدوا هذا العمل عملا ثانوياً يضاف إلى أعمالهم الأساسية، فهم معذورون إن ثقلوا بالأعمال وكان نقد الكتب أحدها فلم يولوها العناية اللائقة بها، ولم يمنحوها ما يجب لها من وقت ودرس وتمحيص. وقد أدركت هذا الواجب الجرائد والمجلات الأجنبية التي تحترم نفسها فاختارت كتاباً من خيرة الكتاب لا عمل لديهم إلا النقد، ويقرؤون الكتب والقصائد والقصص ونحوها ويدرسونها درساً عميقاً، ثم يظهرون القراء على نتيجة جهدهم ومدى درسهم وقصارى بحثهم.

وشيء آخر كان له دخل كبير في رقي النقد الأوربي وضعف النقد العربي، وأعني به (التخصص)؛ وهذا ظاهر في المجلات الأوربية وكتابها. فأما المجلات فتخصصت، فمجلة للجغرافية خاصة، ومجلة للاجتماع، ومجلة للأخلاق، ومجلة للقصص، ومجلة للسياسة، ومجلة للثقافة العامة. فإذا ألف كتاباً في الجغرافيا أو الاجتماع أو الأخلاق فالمجلة الخاصة بذلك تنقده؛ وإذا هي نقدته عن خبرة تامة بالموضوع وتخصص فيه. وبهذا يفخر المؤلف بأن مجلة كذا مدحت كتابه وأثنت عليه، لأن المدح صدر من واسع الاطلاع عميق البحث يحترم نفسه وقراءه. وأما الكتاب فيشعرون هذا الشعور نفسه، فلا يتعرض ناقد لكتاب ليس من موضوعه الخاص وإن كان مثقفاً فيه ثقافة عامة. فإذا عرض على أديب كتاب في علم النفس أحترم نفسه وقراءه فلم يكتب فيه، وعد ذلك كأديب ينقد رياضيا، أو شاعر ينقد فلكيا، وأنه مهزلة لا يصح أن يقع فيها، وأن الشأن في المعارف كالشأن في الطب، فكما لا يصح أن يداوي طبيب عيون مرضاً باطنياً ولا طبيب الأذن مرض اللثة، فكذلك لا ينقد أديب تاريخياً ولا قصصي جغرافياً؛ إلا إذا تعرض للكتاب من ناحية الأسلوب. بل هم سائرون إلى أكثر من ذلك فيريدون أن يتخصص الأدباء في فروع الأدب نفسه فلا ينقد قصصي كاتب رسائل، ولا ناقد الرسائل والمقالات قصصاً.

إن شئت فانتقل بعد معي إلى الحال عندنا. هل يتعفف أكثر النقاد عن أن ينقدوا ما ليس من اختصاصهم؟ فالكاتب الأدبي عندنا يرى أنه يستطيع أن ينقد في يوم واحد كتاباً عن تاريخ نابليون، وكتاباً عن جزيرة العرب، وديوان شعر. وهو يرى أنه يستطيع أن ينقد كل شيء فلا يأتي بشيء. ومن أجل هذا قدر الناس أكثر النقد العربي بما يستحقه فقط. فمدح المجلة والصحيفة للكتاب لا يدل على شيء وراء هذه العبارة، ولا يدل على أن للكتاب قيمة ذاتية. ولا يستطيع مؤلف عربي أن يتقدم إلى هيئة محترمة ببحوثه ليقول إن مجلة كذا العربية قرظتها وقالت فيها كذا. كما يفعل من يتقدم بمؤلف كتب بلغة أوربية فيستدل على قيمة عمله بأن مجلة كذا نشرته، ومجلة كذا قرظته.

ثم الناقد الحق قاض عادل. والقاضي العادل لا يقضي حتى يدرس قضيته من جميع نواحيها فلا تفوته جزئية منها؛ وهو عالم بالقانون وبالمواد التي تتصل بقضيته محيط بها؛ وهو ماهر في تطبيق المواد على قضيته محكم تطبيقها، وكذلك الناقد والقاضي الذي لا يرجع إلى قانون إلا قانون العدالة المطلقة مخطئ؛ والقاضي الذي يحكم ذوقه وحده مخطئ، والقاضي الذي يدخل الشخصيات في قضيته مخطئ؛ وكذلك الناقد. وكل ما هناك من فرق أن القاضي يحكم وفق قانون موضوع، والناقد الأدبي يحكم وفق قانون لم توضع كل أحكامه ولم تعرف كل مصادره؛ وذلك راجع إلى الفرق بين طبيعة القوانين العلمية والوضعية وقوانين الذوق؛ ولكن على كل حال لا يصح للأديب أن يصدر حكمه بناء على أنه يستحسن أو يستهجن فقط، وإلا كان في استطاعة كل من أمسك القلم أن ينقد. إن كل فرع من فروع الأدب من قصة وشعر ونثر فني له قوانين تبين رقيه وانحطاطه؛ وكل عنصر من عناصر الأدب من خيال وعاطفة ونحوهما له مقاييس تقاس بها درجة قوته وضعفه؛ وكل ما في الأمر أن بعض هذه القوانين عرفت واستكشفت، وبعضها غامض في دور الاستكشاف. ويجب على الناقد أن يرجع إلى هذه الأسس في صدور أحكامه كما يرجع القاضي إلى قانونه؛ وهذا يسلمنا إلى القول بأن الناقد الحق يجب أن يكون مثقفاً ثقافة واسعة عميقة، وأن يبني حكمه على علل معقولة كما يبني القاضي حكمه على (حيثيات) واضحة، ولسنا ننكر أن الأديب يعتمد في حكمه على ذوقه وشعوره بالجمال والقبح، ولكن لا يعد هذا الذوق راقياً إلا إذا أسس على علم واسع ومعرفة بقوانين الأدب.

وهكذا ضرب لا يزال ينقصنا منه الشيء الكثير؛ فأكثر أحكامنا على النتاج الأدبي أحكام مجردة لا تعلل بعلل مقنعة، ولا يرجع فيها إلى قوانين ثابتة، وبذلك تفقد قيمتها ويقل احترامها.

لقد قال قائلون إنك تعيب النقد العربي ولا تنقد، وتعيب قلة الجرأة ولا تجرؤ، وتدعي قلة النقد ولا تبني في بنائه الذي تنشده حجراً.

قد يكون هذا صحيحا ولكن هل من العيب أن يشرح المريض مرضاً عاماً أصيب به هو وغيره؟ وهل من الشر أن يرفع صوته بالشكوى من كان هو وغيره سبب الشكوى؟ وهل يحجر على الإنسان أن يقول إن هذا ليس بجميل إلا إذا كان جميلاً، وليس بعادل إلا إذا كان عدلاً، وليس أبيض ولا أسود إلا إذا كان هو أبيض أو أسود؟ إن مطالبة الإنسان ألا ينقد إلا إذا كمل، وألا يعيب إلا إذا خلا من العيب يحقن في نفوس الناس آراءهم وقد تكون صالحة، ويسلبهم الحرية وقد يكون في حريتهم العلاج. على أن المريض قد يكون اصدق في وصف المرض من الصحيح، والجاني قد يصور الجناية بأحسن مما يصورها البريء.

أما بعد، فقد شرحت وجهة نظري في بعض وجوه العيب في النقد العربي من ناحيتها العامة. فأن أراد أخي طه أن يحورها من عمومها إلى شخصيتها، وينقل المسألة من النقد الأدبي إلى النقد السياسي، ويجعل الأمر يدور حول أنا وأنت ونقدت ولم تنقد، وكتبت ولم تكتب، وبئست ونعمت، وشقيت وسعدت، لم أجاره في ذلك، ووقفت حيث أنا إلا أن يعود إلى أساس النظرية، ويقرع حجة بحجة، وبرهاناً ببرهان؛ فأني إذن أساجله القول في ذلك حتى ينجلي الحق ويظهر الصواب.
والسلام عليك من أخ يضمر لك من الحب والوفاء ما تضمر له.

أحمد أمين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى