مقتطف أمير ضهير - ظل بريجيت.. (مسودة) - الفصل الأول من رواية

مرت الأيام سريعة في موسكو، وبدأت المفاهيم المترسخة داخلي بالذوبان كالثلوج بعد أن قمت بالتخلص من الصوت الغريب الذي كنت أسمعه يصدح في عقلي، لكني لا أشعر أني على ما يرام. لم يعد هناك شيء يمنعني من إشعال سيجارة كل دقيقة دون توقف. أو إلقاء قارورة ماء على الرصيف؛ ثم مغازلة فتاة شقراء في محطة الحافلات بألفاظ بذيئة. إنني أشبه الآن ذلك الجورجي الفظ صاحب المقهي الذي ينظر لي منذ ساعة كاملة وهو يلعن الحظ الذي جعلني أتناول قهوتي الصباحية في المقهى الذي يملكه.

لاحت ابتسامة ساخرة على وجهي وأنا أتذكر محاولاته المتكررة في الساعة الأخيرة لحثي على طلب شيء آخر غير القهوة. تركت النظر للجورجي الذي يكاد ينفجر غضبا وتناولت سيجارة جديدة وأشعلتها ثم تناولت فنجان القهوة بحذر شديد لأرتشف رشفة صغيرة للغاية من بقاياها، كنت أخشى أن تنتهي القهوة قبل أن أخرج من المقهى، فأنا لا أريد أن أطلب فنجانا آخر اليوم.

عاد أمر الصوت المختفي يقلقني من جديد، لقد حاولت جاهدا التخلص منه حتى نجحت، وعلى ما يبدو بدأت أشعر بالحنين إليه! نفضت رأسي بعنف في محاولة لمنعه من الخروج مرة أخرى. من ثلاثين عام وهذا الصوت يرافقني، إنه يمثل كل الأفكار والقناعات والمبادئ التي تمت زراعتها في عقلي منذ الصغر دون أن أملك حق الاختيار أو النقاش أو حتى السؤال عن سبب أي شيء مما يتم حشوه داخلي، لقد كنت مجرد أداة صامتة تتلقى الأفكار باستسلام تام.

حاولت طرد الأفكار التي بدأت تعصف بعقلي وجلت ببصري في أنحاء المقهى. كان أشبه بمتحف صغيرة، يغلب على جدرانه اللون الرمادي المائل للبياض مع بعض التحف الفنية ورأس غزال محنط يتدلى من الجدار خلفي.

حانت مني التفاتة نحو سيارة فارهة تتوقف بجانب الطريق العام ورجل وقور يخرج منها وقد خط الشيب فوديه وبرفقته طفلة صغيرة لا تتعدي العشر سنوات. كان صوت عكازه الفضي يصنع موسيقى رتيبة وهو يقطع الواجهة الزجاجية الخاصة بالمقهى باتجاه البناية المجاورة. رمقتني الطفلة الصغيرة بنظرة باردة فلوحت لها بيدي مع ابتسامة ودودة إلا أنها تجاهلتني تماما وملامحها الباردة لم تتغير وكأنها حُفرت في جحيم سيبيريا العميق. تجاهلت الموقف بسرعة وقمت بتناول سيجارة جديدة من العلبة الفضية التي أهداني إياها أحد الأصدقاء وأشعلتها. لا أدري لماذا لم يفارق وجه الفتاة خيالي، فقد كانت تبدو كأنها خرجت من كابوس مرعب رغم ملامحها البريئة. هناك شيء غريب في وجه تلك الفتاة جعلني لا أتوقف عن التفكير في ملامح وجهها الباردة حتى بت أشعر أن رياحا باردة بدأت تعصف بجسدي وتصيب أطرافي بالقشعريرة، رفعت يدي أمام عيني في محاولة للسيطرة على رجفة خافتة بدأتُ بالسيطرة عليها. أثارت حركة المقعد المجاور لي إنتباهي وإذ به صديقي فايز يجلس وهو ينفث بعمق سجائره في وجهي. قلت له:

- منذ متى أنت هنا؟

- هههههه، يبدو أنك شارد للغاية، أم أنها لعنة الفاتنة كاترينا.

ثم ضحك بصوت مرتفع. احتقن وجهي وأنا أتناول سيجارة جديدة وقلت له:

- لا تًعد فتح الموضوع مرة أخر، لقد كنت أفكر في شيء آخر.

رفع حاجبه بنوع من السخرية وهو يقول:

- أهو صوت الضمير؟

نظرت لعينيه ببرود وانأ أنفث بقايا سجائري في وجه وأقول:

- بل صوت عقلي.

اعتدل فايز في جلسته وتبدلت ملامحه وهو يقول بجدية:

- دعك من هذا الصراع الداخلي وتقبل نفسك كما هي، لدينا الآن موضوع أكثر أهمية، السيد كلارك ينتظرنا في جناحه الآن، ويجب أن نذهب حالا.

تناولت علبة سجائري الفضية ثم مشيت باتجاه الجورجي صاحب المطعم الذي انفرجت أساريره لتخلصه مني أخيرا.

قمت بإخراج ورقة من فئة المائة دولار ثم قدمتها له مع ابتسامة ساخرة رسمتها على وجهي وأنا أقول:

- تفضل يا سيدي، لدي فنجان قهوة فقط، وقد كانت القهوة لذيذة للغاية، شكرا لك.

احتقن وجه الجورجي مع علامات الاستغراب على وجهه وهو يتناول المائة دولار ويقول:

- أنت تملك النقود يا سيدي، لماذا لا تطلب شيء آخر غير القهوة، منذ بدأت بارتياد المقهى وأنت لا تشرب إلا القهوة فقط وتجلس ساعات طويلة معها.

ضحكت وأنا أتناول باقي المائة دولار وقلت بصوت مرتفع:

- أنا لا أتناول الإفطار، فقط فنجان واحد من القهوة صباحا هنا، إن أردت يمكنني أن آتى وأتناول فنجان القهوة المسائي هنا أيضا.

تحول وجه الرجل للون الأحمر وهو يتفوه بكلمات غير مفهومة قبل أن يمسك فايز بيدي وهو يقول:

- دعك منه، السيد كلارك ينتظرنا.

أستغرقت رحلتنا بالسيارة بعض الوقت حتى وصلنا إلى جادة كوتوزوف وتوقفنا أمام فندق أوكرانيا، كان المبنى قديم وضخم وله مظهر مهيب يعيد الذاكرة للحقبة السوفيتية. قمنا بترك السيارة أمام المدخل الثاني حيث استلم موظف الاستقبال في الخارج مفاتيح السيارة وتوجهنا للمدخل قبل أن يقاطعنا رجل طويل القائمة أبيض البشرة له ملامح فرنسية واضحة وهو يمد يده لفايز مصافحا:

- أهلا بك سيد فايز، سننتظر السيد كلارك في جناحه، سوف يصل بعد ساعة من الآن وهو يبلغك اعتذاره.

ابتسم فايز وهو يقول:

- لا بأس، سوف ننتظره.

حاولت مد يد لمصافحة ذلك الرجل الغريب، إلا انه سارع بالسير أمامنا باتجاه المصعد. شعرت بامتعاض شديد لهذا التجاهل الواضح، وقلت لفايز:

- تبا لك ولصديقك الفرنسي الأحمق، كان يمكنه أن يصافحني على الأقل.

ضحك فايز بصوت مرتفع جعل جميع من كان في بهو الاستقبال ينظر إلينا بنوع من الاستغراب قبل أن يقول:

- هذا ليس صديقي ولم أره من قبل في حياتي، ولا أدري إن كان فرنسيا فعلا، لكن لا تستعجل سوف تفهم كل شيء بعد قليل.

وصلنا للطابق الثالث والثلاثين وما هي إلا لحظات حتى كنا نجلس على أريكة فاخرة في جناح السيد كلارك وإحدى الفتيات تقدم لنا مشروبا ساخنا.

قمت بإخراج علبة سجائري وتناولت منها سيجارة ووضعتها في فهمي وهممت بإشعالها قبل أن تلتقط يد رقيقة السيجارة من فهمي وصوت فتاة صغيرة تقول بفرنسية سليمة:

- غير مسموح بالتدخين هنا، السجائر يمكن أن تقتلك سيدي.

رفعت رأسي باتجاه مصدر الصوت وارتسمت علامات الدهشة على وجهي وأنا أشاهد نفس الفتاة الصغيرة التي رأيتها قبل قليل في المقهى لكن باختلاف واحد، لقد كانت ترسم على وجهها أعذب ابتسامة يمكن أن تشاهدها على وجه طفل على الإطلاق.

حاولت التحدث دون جدوى، ثم استجمعت كل قوتي وأنا أقول:

- متى وصلت هنا، لقد رأيتك قبل قليل هناك في القسم الآخر من المدينة.

بقيت الفتاة محافظة على ابتسامتها وهي تقول:

- أنا لم أغادر الفندق منذ أمس، لكن هذا لا يعني أني لم أراك وأنت تدخن بشراهة قبل قليل في ذلك المقهى؟

شعرت بغصة في حلقي قبل أن يناولني فايز كأسا من الماء وهو يقول:

- اهدأ، سوف أخبرك بالتفاصيل بعد قليل.

راقبت الفتاة وهي تبتعد عنا وأنا أحاول السيطرة على حالة الدهشة التي تملكتني وتوجهت بنظري نحو فايز:

- ما الذي يحدث؟

ارتسمت على وجه فايز ابتسامة كبيرة، فعلى ما يبدو أن حالة الدهشة التي تملكتني جعلته يشعر بالسعادة، ثم قال:

- استمع جيد، لدينا ساعة سأخبرك بكل شيء قبل وصول السيد كلارك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى