حيدر عاشور - امرأة حديدية.. قصة قصيرة

شاع صيتها بين الطلبة بالتزامها الأخلاقي وتمردها على كل من يخالف قواعدها ومبادئها التي نمت وتربت عليها، وعقدت عليها المراهنات في انحرافها أخلاقيا أو صداقتها وذهبت جميعها ادراج الرياح لصلابتها وقوتها ورصانة خلقها وشخصيتها المتميزة بالطرافة والابتسامة التي لا تفارق شفتيها المصاغتين صياغة إلهية أطلقتهما على طبيعتهما ومن يراهما يجدهما محمرتين بحمرة السماء لا بحمرة الطبيعة وهما يتوسطان ذلك الوجه الملائكي المبيض الذي تشع منه الأنوار بهاء ونظارة وعيناها كوكبان كبيران اختزلا الكون وجماله.... وذات صباح ربيعي دخلت بوابة الجامعة بأناقتها المعهودة من خلال تلك الملابس التي تغطي جسمها القويم من رأسها حتى أخمص قدميها لا يظهر سوى ذلك الوجه بأوصافه الملائكية توجهت من فورها باتجاه مكتبة الجامعة لتغرق في القراءة والكتابة دون أن ترفع رأسها فقط تجيب على من يطلق عليها السلام فترده بأحسن القول صوتا.... أصبحت نوال الاسم الأول في الكلية من ناحية غريبة جدا على الحرم الجامعي وظاهرة لن تتكرر فهي الوحيدة المتميزة في الدراسة والأناقة (الحجابية) بلا صديق وصديقة أو معاشرة أو محاولة ,الكل يطلبها وهي لا تطلب من احد أي شيء مهما كان صغيرا أو كبيرا وانقسم الطلبة والأساتذة قسمين’ قسم بارك التزامها الروحي وآخر يخطط ويبرمج لكشف أسرارها ومعرفة ابنة من ومن أية عائلة تلك التي تنجب فتاة بهذه الرصانة وقوة الشخصية والإيثار المؤثر بكل من حولها ...ونشطت المخططات وأرسل جماعة من الشباب إحدى صديقاتهم لخوض تجربة الصداقة، واقتربت منها وقدمت نفسها:
ـ مرحبا: أنا وعود كاظم من قسم اللغات ممكن أن أتعرف عليك!
نظرت إليها نوال وبعد ابتسامة رائعة وترحيب دبلوماسي رقيق شخصت فيها نقاطا كثيرة لا تتلاءم وشخصيتها ومبادئها المعتادة عليهما وكي لا تجرح مشاعرها طلبت منها الجلوس لغرض التحدث إليها بشكل خاص لكونها الزميلة التي تحاول الاقتراب منها كصديقة .وتسارعت وعود في طلب خاص حيث قالت:
ــ ممكن أن أقدم لك قدحا من الشاي في (كافتيرا) الجامعة
ــ أسفة,تلك الأمكنة لا تتفق معي... هنا في المكتبة المكان الأكثر دفئا والأجمل ذوقا لما يمتلكه من قدسية معرفية.
شعرت وعود بالفشل وبالوقت نفسه بالخجل على تلك الأخلاق الرفيعة التي تملكها نوال فجلست دون أن تنطق بأي كلام فقط تنظر بوجهها مرتبكة وحائرة ولكنها أعطت وعدا لزملائها بمراهنة منحهم جسدها إن لم تستطع ترويضها وتقريبها وإدخالها مجموعة الطلبة الرافعين شعار لا فتاة تملك العفة الكاملة وعليهم اكتشافها ووضعها في لوحة المنحرفات أو الشاذات. قالت لها نوال: أنا لا اتفق مع ميولك وتصرفاتك.
ـ يعني ترفضين أن أكون صديقتك!
ـ كلا أنت إنسانة طيبة وجيدة ومنفتحة وأتشرف بمعرفتك ولكن لا أستطيع أن أمنحك فرصة أن تكوني صديقتي ما لم تلبسي لبسي كي تكوني قريبة مني بالشكل والطباع.
ـ ماذا تريدين مني بالضبط؟
ـ تغيري نحو نفسك أولا ونحو السماء ثانيا اتركي ما تحرمه السماء وترفضه.. تزهدي من معاشرة أصدقاء السوء الذين تلتقين بهم فيكيدون لك المكائد ويشوهون سمعتك بحجج الانفتاح والديمقراطية والحرية وأنت فتاة أجدك جميلة وذات خلق وممكن أن تعيشي حياة أفضل وقد تمنحك السماء زوجا وبيتا وتعيشين حياتك بنعيم السمعة والشرف وعليك أن تفهمي معنى الانفتاح والديمقراطية والحرية.
ـ ما هو الانفتاح بنظريتك؟
ـ ليس نظريتي بل واقع عالمي بل ثقافة التفتح حول ثقافات العالم والتقارب والتلاقح المعرفي ، على من يمتلك كلمة منفتح، تعني بأنه جزء لا يتجزأ من هذه الثقافات ونحن نفهم الانفتاح خطأ أن نمارس كل الأشياء القبيحة بلا حياء ونقلد الجانب السيئ منها فهناك موجات من التخلف المعيشي مرت على بلادنا منها أنواع الملابس الشاذة وترتيب الشعر وقصه وارتياد أماكن غير لائقة، فالإنسان المتفتح يترفع على الأشياء المبتذلة والرخيصة وهي من مخالفات الشعوب المتخلفة.
ـ هذه جزء من حرية الفرد في التصرف إذا لم أتمتع في حياتي متى أتمتع!
ـ هل تعتقدين هذه حرية هي أن يرخص الإنسان نفسه ويمنح جسده وان يعطي اعز ما يملك من اجل متعة وهمية ليس مبنية على عقد شراكة اسري، هذا هو وهم الحرية المعلن أما الحرية الحقيقية أن نمنح أنفسنا ثقة بالنفس ونسير في هذه الحياة مرفوعي الرأس ونفهم ماذا نريد منها وأي شيء نمنحها .... ممكن أن تكوني معي صريحة جدا ونناقش أمرنا بحرية وديمقراطية كي تصل إليك الفكرة كاملة ... لماذا تم اختيارك لي صديقة ؟ هل لكوني ابتعد عن مغريات التصرف المباح في الحرم الجامعي ؟ أم لكونك فتاة ذات صيت سيئ في هذه الكلية وترغبين أن تعالجي عقدتك بالنقص باتجاه عقدة التزامي بأخلاقي وقيمي ، أرجوك كوني واضحة معي .
هنا أصبح وجه وعود أحمر مصفرا وارتبكت لهذه الصراحة المطلقة ولا جواب يخرج منها بهذه الصدمة الكبرى وهذا الكلام الكبير الذي لم يتجرأ احد أن يقول لها انك مومس ولكن بطريقة مهذبة يعرفك في هذه الكلية القاصي والداني ... ساد الصمت لحظات ونوال شاخصة ببصرها نحو وعود تنظر ردة فعلها، ولكن وعود وقعت على الأرض مغشيا عليها وتجمهر الطلبة حولها وسكبوا الماء على وجهها وفاقت من غيبوبة مؤقتة ولكنها مبتسمة فقالت:
ـ نوال كيف أكون إنسانة حقيقية مثلك واكسب ثقتك وصداقتك؟
ـ كوني قوية ومن هذه اللحظة سمي نفسك بالمرأة الحديدية وثقي بها وابتعدي عن كل هذه الأعمال التي تسيء لك
ـ كيف وأنا إنسانة فقيرة لا املك شيئا اعتاش عليه ؟
ـ هل أنت واثقة أن تكوني إنسانة حقيقية ؟
ـ نعم .
ـ من هذه اللحظة أنت صديقتي ... سأزورك في مسكنك.
لم تفاجأْ وعود حين أطرقت نوال بيتها عصر اليوم نفسه وهي تحمل معها نفس الملابس التي تلبسها وبعض الهدايا... وفي اليوم التالي دخلت وعود الى الجامعة ولم تتجه نحو أصدقائها القدامى ولكنها ذهبت مباشرة الى المكتبة وأحدثت صدمة لكل من يعرفها ويتفهم تصرفاتها وإباحيتها المعلنة وغير المعلنة وبدأت تتصرف بكياسة ودماثة وتجمهرت حولها بعض الصديقات وبدأ طرحها في الحديث مغايرا عما كان قبل يوم واستمرت الأيام وطوت وعود صفحتها القديمة لتكون اعز صديقة لنوال .... لكن أصدقاء السوء استمروا على مخططاتهم ووعودهم مع وعود وحاولوا مرارا الاقتصاص منها ولكن بمفهومها الجديد للحياة استطاعت أن تهزمهم بعيدا عنها حتى وقعت في يوم من الأيام بفخهم باستدراجها الى منطقتهم بعد أن أرسلوا لها رسالة تطلب فيها نوال مساعدتها في بيتها وتجمعوا على وعود ونهشوا عرضها وشرفها بجنون الانتقام وبنفس الوقت أرسلوا رسالة إلى نوال تطلب بها وعود مساعدة في ذات المكان ولكن نوال لم تذهب وحدها بل مع أخيها وبعض أصدقائه لتفهمها ما يدور في ذهنية هؤلاء المرضى،وتفاجأت بانهيار وعود ونقلوها الى المستشفى بعد أن ابرحها الفاسدون ضربا مبرحا ... أودعوهم السجن بتهمة الاغتصاب ولم تتحمل وعود الحالة فارقت الحياة في نفس الليلة التي نقلوها إلى المستشفى والنتيجة هي انتحارها بأدوية قوية المفعول ... حزنت كثيرا نوال لفراق صديقتها وعود ولكن خلقت في الكلية مئات الوعود بذات الخلق والطباع وأصبحت نوال وصديقاتها نوعا واحدا وملبسا واحدا وكأن الكلية أصبحت للمحجبات من أصحاب نوال، جاءت الأمن لتعتقل نوال من محاضراتها بتهمة الترويج للدين ضد الدولة وشراء الحجاب لطالبات الجامعة بدلا من الزى الموحد ... وبقيت صورة نوال تتنقل كالفراشة بين صديقاتها فكلهن أصبحن نوالا.

*حيدرعاشور
*قصة قصيرة من مجموعة (زَهَايْمَرات)

10859575_857136837670523_969327706_n.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى