سايمون أبرام - احتطاب..

"سأذهب للإحتطاب أمي.." عبارة مقتضبة إنزلقت بنعومة من بين شفتيها،لتصطك بأذني أمها،ذات صباح مشرق،في تلك القرية التي تخاصرها دغلة كثيفة، تتمنطق الجمال،وتئتزر الروعة..تأبطت فأساً وحبلاً،لم ترد صحبة أحد،فلم تدع واحدة من صديقاتها لرفقتها،خلا جرة ماء صغيرة للإستذادة..يممت وجهها شطر الغابة..هي لاتتسرع الخطى بل تتمهل،وقدماها الساحرتان تداعبان الأرض برفق..تتوغل كرش الغابة في درب ثعباني ملتو،تحيطه حشائش قصيرة،بائسة مصفرة،قد قست عليها،نقمة شمس الصيف المتوهجة..وأغنية تراثية تمجد أحد الأسلاف،تنساب ألحانها وسط الشجر،تنبع من حنجرة فتاتنا الماسية،تخلب الآذان،تأسر الوجدان..عقارب الزمن تدب دبيباً وهي تبطئ..أخيراً،أدركت عمق الغابة،تخيرت مكاناً راق لها جذعاً لشجرة قد غدرت به أهوال الدهر..وضعت جرتها..كانت أفنان أشجار الطلح الشوكية الشائكة ترزح تحت أسر طيور الزرزور المشاكسة،وقد تدلت أعشاشها المنتفخة المستديرة بكثرة،تتأرجح تحت إمرة ريح السموم الجهنمية،والتي تصفع بطن الغابة بين الفينة والأخرى..والعصافير تلك توائم للفوضى،أعداءا للسكون،وحيثما إجتمعت غطت الأجواء شقشقة وزقزقة لا تنتهي،إلا بحلول سلطان الظلام ضيفاً ثقيلاً على المستعمرة.أمسكت يدا تلك الحسناء الغضتان بالفأس..تموضعت بالهجوم..رفعت الفأس إلى أعلى في لوحة سحرية أخاذة،ثم هوت بها على الجذع البائس..أصدر الإرتطام صوتاً هائلاً تطايرت لها الطيور في الجوار..أعادت الكرة مرة ثانية والجذع يئن..تتساقط أجزاءه،فتجمعها..يستمر العمل،والجبين الناعم يلفظ لآل ساخنة مالحة تنحدر مدراراً،تتساقط على الجذع البائس تارة،وعلى الأرض تارة أخرى..أحالت وجه الأديم تحت قدميها إلى فرو فهد أرقط.
وذئبان بشريان بأسمال بالية وقفا بها بغتةً،إنبثقا من ثنايا الشجر،تنفث منهما روائح غير مفهومة تحرض على الغثيان،بعيون مكدرة ملتهبة يتطاير منها الخبث شرراً،وشعر كث منفوش أغبر كما لرفاة قسى عليها الدهر..تيقن هذان أن فريستهما تفوق روعة وبهجة على سابقاتها هذه المرة..أنوثة نارية،يتساقط في مداراتها المجوس والرهبان..إعتليا صهو الشهوة..ينشدان الرقص على ذروة الشبق..إنتصبت رايات الشر ورفرفت..أشهرا أشياءهما،وهما يبغيان إفتراسها في مرأى من الشمس،في تلك البقعة النائية،حيث لا يقرب معين أو يدنو منقذ..قد آن أوان الرقص،تسربل المكان بالحمى،والأنثى تلك ظلت يداها الغضتان ممسكتين بالفاس وعيناها تجولان وتصولان يمنة ويسرة..تموضعت بالهجوم،والوحشان يحاولان الإنقضاض عليها..رفعت الفأس إلى أعلى وهما لا يزالان يقتربان بحذر شديد رويدا رويدا،وهي قمة في التركيز،وحبات عرق تتفجر من تحت جناحيها شلالاً لبحيرة حارة.تماوجت الأفكار في دماغها وتلاطمت،والذكريات تهبط كالشهاب..فها مشهدٌ لنسر عجوز أقرع،ينقض على سرقاطة متشردة،بوحشية غريبة..بقر أحشاءها بمخالب فولاذية مرعبة ومنقار متين معقوف،أحالها إلى كومة لحم ودم..ذلك مبعث رهبة قاتلة.وبعد هنيهة..هوت الفأس على يافوخ أحدهم..إرتفع عن الأرض،ثم إرتطم بها..إنفجر المداد بركانا،فتخضب الثرى بسائل أحمر قانئ..إهتز الجسد المسجي،وهو يتراقص،والروح أخذت في الإقلاع،ثم سكن سكونا أبدياً..أما الرجل الثاني،فهاله المشهد..إرتجف جسده..ولى أدباره..فغاص في أحشاء الغابة عميقاً عميقاً..ولم يوجد له أثر فيما بعد.



سايمون أبرام / جنوب السودان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى