نعيمة البخاري - الأدب المحتمل..

تتخذ المحاكاة في التحليل الدلائلي عند جوليا كريستيفا Julia Kristeva، مفهوما جديدا وتمثل بناء لموضوع جديد محتمل، يطرح في استقلال عن ذات التلفظ. وتتمركز الذات هكذا عبر شبكة من السمات ومن الانفعالات السيميائية، التي تجعل اللغة الشعرية الحديثة لا تبقى في حدود المحاكاة الكلاسكية، ولا تكتفي بالتقرير، إنما تتوجه صوب المعنى، يعني وضعية الذات المتلفظة. يبدو لنا أن المحاكاة تتخذ مكانتها داخل هذا المجال للخرق النظري، حين لا تحيل الحقيقة على موضوع مبين عبر الشبكة السيميائية يوضع داخل الرمزي، يكون احتماليا.

تلاحظ جوليا كريستيفا أنه إذا كانت وظيفة المعنى هي وظيفة تماثل في الخطاب، وحضور للذات عند جاك دريدا J.Derridaفي قراءته لهوسرل Husserl .. يمكن أن تعتبر المحتمل، يعني الخطاب الأدبي درجة ثانية من الدليل الرمزي. وإذا ما كانت القصدية الهوسرلية، هي إرادة قول الحقيقة، فالحقيقة ستكون خطابا مشابها للواقع، وبالتالي سيكون المحتمل هو الخطاب الذي يشبه خطاب الواقع، يهدف إلى القول، وإلى تشكيل معنى. هكذا يمكن اعتبار المحتمل غير محصور في المعرفة الموضوعية، مع كونه ليس لا معنى، ومن حيث هو حالة وسطى بين المعرفة واللامعرفة. بإيجاز، يمكن أن نعتبر مشكل المحتمل هو مشكل المعنى، وبما أن المعنى هو أثر متداخل خطابيا، فإن الأثر المحتمل، هو مسألة علاقة بين الخطابات. إذا كان المحتمل يتميز بالتشابه، فهذا يدل على أن كل خطاب يوجه في علاقة تماثل أو تطابق أو تشابه مع خطاب آخر. يطرح هذا التقاطع مشكل المعنى، على اعتبار أن المحتمل هو امتلاك موضوع ما معنى. ويظهر أن فعل التشابه يسجن المحتمل الدلالي في أثر التشابه، وتقويمه يقتضي التشابه مع قانون مجتمع معين في لحظة معينة، وتأطيره في حاضر تاريخي. وعلى المستوى الدلالي، فالمحتمل هو أثر ونتيجة وإنتاج، وهو ليس بحاضر لأن خطاب الإنتاج الحاضر معرفة، وليس بماض. يمثل خطاب الإنتاج الماضي تاريخا، وهو بهذا يسعى إلى الكونية، وهو أدب وفن، يقدم خارج الزمن كتطابق وفاعلية متلائمة مع نظام موضوع سلفا. ويتشكل المحتمل كبنية لها قواعد ونسق بلاغي محدد ومعايير خاصة للتلفظ. وما يجعل من المحتمل تركيبيا، سيكون هو توافقه مع قوانين البنية الخطابية. ويتحدد المحتمل التركيبي كمحتمل بلاغي. ويوجد في بنية مغلقة، ويستهدف خطابا ذا نظام بلاغي. ويعوض المحتمل فعل التشبيه المسكوت عنه في المستوى الدلالي عبر مبدأ الاشتقاقية التركيبية.

إذن، نصبح مع الكلام احتماليين، ونحن لا نستطيع قول شيء لا يكون محتملا. فكل ملفوظ سيكون صحيحا نحويا هو محتمل. وهذا يرجع إلى كون المحتمل يتواطآ مع العرف الاجتماعي ومع البنية البلاغية. ويصبح الخطاب بهذا المعنى الاحتمالي، له بعد فلسفي، بما أننا نجعل من معايير مثل الحقيقة والخطأ والصحيح تتحكم فيه. كذلك تسوق جوليا كريستيفا مفهوم المحتمل قصد الإشارة إلى وجود علاقة بين النص ككل والبنية الاجتماعية المنتجة والمستهلكة. رغم ذلك ترى أنه من الضروري التمييز بين المحتمل والمعنى، على المستوى التركيبي، حيث نلامس آلية اشتغال العلامة. وتصل جوليا كريستيفا إلى أنه إذا كان المحتمل يدل على المعنى كنتيجة، فالمعنى يكون محتملا عبر آلية تكونه. ويشكل المعنى محتمل كل خطاب. وكل نص ينظم بلاغيا هو نص محتمل. وبالتالي تحتفظ بالمعنى لتعين به الكلام وإنتاجية النص، بما أنه لا يهتم بالبلاغة وهو يكتب كسيرورة كتابة. وبما أن المعنى هو من خاصيات اللغة كتمثيل، فالمحتمل هو المستوى البلاغي للمعنى، وللعلامة كماثول.

إذن، إن الأمر يتعلق عند جوليا كريستيفا هنا بموضوع «الأدب»، وبعمل عبر لساني، إنه إنتاجية النص، وخطاب يلقى لاستهلاكه واستبداله، وما يتطلب ذلك من احتمالية. يبدو أن مفاهيم المعنى وقصدية اللغة تشتغل كأثر ولا تسري إلا على حلقة الإخبار والاستهلاك التي تتموقع فيه الإنتاجية النصية. فتشكل المعنى، يكون حاضرا داخل البنية البلاغية كتشكل للمحتمل. ولا يمكن اعتبار الإنتاجية النصية إبداعا، إنما هي عمل سابق على الإنتاج، وعلميتها ناتجة من كونها ممارسة لسننها الخاص، وهدم للصورة التي تريد الأفلاطونية، إعطاءها عنها كخليط يجمع بين الحدس والقياس وكدقة غير كاملة وكشدود ممكن. وإ ذا كان المحتمل يلعب على انقسام العلامة إلى دال ومدلول، فهو يمثل توحيدا للدوال على المدلولات المغلقة، ويقدم نفسه كتعدد دلالي.

يمكننا القول إن المحتمل هو التعدد الدلالي للوحدات الكبرى للخطاب، لأن العملية المحتملة الدلالية تعمل على جمع الوحدات الدلالية المتناقضة، على كل المستويات المختلفة للبنية الخطابية، في علاقة تبادل أو في علاقة حصر. ويحيلنا هذا على أن المحتمل يتحقق عندما نتمكن من اشتقاق كل مقطع من مقطع آخر داخل إطار بنية الجملة. هذا العمل الذي يقوم على الهدم داخل المعنى، لإعادة بناءه من جديد، ويكون قابلا للتناول عبر المقولات المنطقية أكثر من المقولات اللسانية، التي تبقي النص عند حدود معناه التقريري. وتتحدد كإنجاز لحركة منتجة، ومدمرة وبانية في نفس الوقت لسيرورة تتعالق أطرافها التي تكون متعارضة أو متناقضة. إن الإنتاجية تنتمي لمنطق جدلي، يتوجه صوب ما يسبق المعنى ويتجاوزه. وطبعا هذه الرؤية، تدفع لتحقيق علمية هذه الإنتاجية وإلى طرق أبواب اتجاهات نفسية وفلسفية.

«لا يلغي المحتمل المحاكاتي القطيعة الوحيدة التي يراها فريغهFrege تنظم الدلالة. إنه يحتفظ بها ما دامت تحافظ على المعنى ومعه موضوع ما. لكن، يحمل هذا الموضوع الاحتمالي الذي ليس صحيحا ولا خطأ، بوضعيته نفسها، على الشك في مطلق القطيعة المؤسسة للحقيقة»([1]). يبدو أن فهم الإنتاجية النصية كإنتاجية مدمرة وملغية للذات، لا يحيل على تصور النص الأدبي كأدبية مكتفية بذاتها، لأن مثل هذا الحكم له صلة بقراءة تضفي طابع الاحتمالية على العمل الأدبي. لكن ترى جوليا كريستيفا أن تفكيك المحتمل ووضعية التلفظ، هو إلغاء الذات الملغاة. فاللغة الشعرية الحديثة بخرقها لقواعد اللغة، تمركز الذات. ويشكل هذا الخرق النظري لا انفصالا للمحاكاة عن اللغة الشعرية. وهذا يعني منع النظري من أن يصبح لاهوتيا، كما يدل كذلك على إخفاء الإجراء السيميائي الذي ينتجه النظري. تطرح جوليا كريستيفا سؤالا حول النظري Le thétique والمحاكاة. «إذا كانت المحاكاة على العكس تعدد التقرير، وإذا كانت اللغة الشعرية تمس المعنى، فبأي عمليات محددة يتحقق هذا التفكيك داخل الرمزي؟»([2]).

تجيب، بأننا نعرف عملية التكثيف والنقل، التي أشار إليهما فرويد، و أهميتهما تفسير الحلم، داخل عمل اللاوعي، ووظفهما كل من جاكبسون وكروزوسكي في بدايات اللسانيات البنيوية، في صيغة مفهومي الكناية والاستعارة. وترى جوليا كريستيفا أنه من الضروري أن نضيف لهما معطى آخر ثالثا. إنه التجاوز من نسق من العلامات إلى آخر، وباقتران النقل والتكثيف فيه، يتحقق بهذه العملية تحول لوضعية النظري، ينتج هذا النسق الدال داخل النص. وقد أشارت جوليا كريستيفا إلى ذلك في كتابها «نص الرواية» حيث بينت كيفية تشكل النسق الدال الروائي كنتيجة لإعادة توزيع عدة من أنساق العلامات المختلفة كما الكرنفال وشعر الغزل... «فالرواية، تعتبر كنص، وهي ممارسة سيميائية داخلها يمكن أن نقرأ، بشكل مركب، آثار عدد من الملفوظات»([3]). وهكذا فالملفوظ الروائي ليس متتالية صغرى. إنه عملية وحركة تربط، وتشكل ما تسميه براهين لهذه العملية. وهذه البراهين تمثل داخل النص، كلمات أو متتاليات من الكلمات. وتدرس جوليا كريستيفا الوظيفة التي تجمعها داخل النص. وهذه الوظيفة هي إيديولوجيم الرواية، وهو كلية تتحدد على مجموع مستوى النص الروائي لتمنحه قيمته الدلالية، وتعتبر هذه الوظيفة، وظيفة تناصية.

إن مصطلح التناص يشير إلى هذا التحويل لنسق أو لعدد من الأنساق، للعلامات إلى آخر. «لكن ما دام هذا المفهوم يدرك دائما بالمعنى مألوف لـ"نقد أصول" النص، نفضل عنه مصطلح التحويل Transposition، الذي له الفضل في توضيح أن التجاوز من نسق دال إلى آخر يقتضي تمفصلا جديدا للنظري وللتموضع الملفوظي والتقريري»([4]). فمن الضروري أن نعيد بناء النص انطلاقا من معطيات سابقة، عبر إعادة بناء داخلية التي تسمح بتمييز عناصر تنتمي إلى نسقين مختلفين. إذن سيسمح هذا البناء الداخلي، بتمييز وتحديد ما لم نستطع تمييزه مسبقا. وهنا نفتح قوسا لنشير إلى أن التحليل التحويلي هو تحليل سانكروني، يصف تنقلات الملفوظات الروائية داخل إطارات النص المغلق، دون أن يهتم بالسيرورات الدياكرونية التي أنتجت هذه الإطارات. ويبدو أنه من الممكن أن نعتمد على مصطلح التحويل لتحليل بنينة النص، وليس بنيته، لأجل أن نموقعه داخل مجموع النصوص الأدبية السابقة عليه أو المتزامنة معه. هذه المقاربة التحويلية التي تبدو بشكل أوضح على المحور الدياكروني، تظهر الحوار بين عدد من النصوص. ويبين ميكانيزم التحويل الإنتاجية النصية، التي لا يمكن الإمساك بها على مستوى الإنجاز النصي إلا داخل التناص: داخل تقاطع وتغيير لوحدات تنتمي لنصوص مختلفة. هكذا فعندما تريد جوليا كريستيفا أن تدرك بنينة النص الروائي كتحويل، فهي تفهمه كحوار بين مجموعة من النصوص، وكحوار نصي وكتناص.

إذا سلمنا أن كل ممارسة دالة هي حقل للتحويل لمختلف الأنظمة الدالة، نفهم أن قبول النص كتحويل، يعني أن ندركه كنسق لا يكتفي بذاته، وإنما يجب أن يرجع إلى الوسط المحيط به. وهذا ما يجعل من مفهوم التحويل يساعد على تحديد خصوصية الخطاب الأدبي كتناص. وتحدد جوليا كريستيفا النص ـ الأدب، كخطاب يقوم على نمط التناص. وهذا يعني أن فضاءه لن يتحدد إلا إذا أضفنا إلى بنيته، فضاء نص غريب يغيره. ويسمح لنا مصطلح التحويل بإضافة نموذج مولد للنص، يتمثل في التناص.

يبدو موقع تلفظ هذه الممارسة التناصية، وموضوعها متعددا ومتفجرا. كذلك «إذن يبدو هذا التعدد الدلالي ، كنتيجة لتعدد للمعاني سيميائي ولانتماء لمختلف الأنساق الدلالية»([5]).

تبحث جوليا كريستيفا في النظرية الفرويدية، فتجد مصطلحا، يسير في نفس السياق مع مصطلحي التكثيف والنقل. إنه مصطح قابلية التصوير la figurabilité وهو ضروري في عمل الحلم، فهو «المطلب الذي تخضع له أفكار الحلم: إذ أنها تتعرض لانتقاء وتحويل يجعلها قابلة لأن تمثل بالصور، البصرية خصوصا»([6]). و«تتحقق هذه القابلية للتصوير بفضل سيرورة قريبة من النقل، لكنها تختلف عنه،... سنسميها تحويلا transposition. هذه الإمكانية لإجراء الدال، للانتقال من نسق من العلامات إلى آخر، ومن أن يتبادلها ويتناقلها؛ ونسمي قابلية التصوير ذلك التمفصل الخاص لأجل نسق من العلامات بين السيميائي والنظري: يلعب التحويل دورا هاما ما دام يفترض فيه إهمال النظام القديم للعلامات، التجاوز بواسطة اندفاعية مشتركة بين النسقين، وتمفصل النسق مع قابلية للتصوير جديدة»([7]).

يؤكد فرويد على الدور الذي تلعبه المشاهد الطفولية المصورة في الحلم. وما يشغل الباحث هو الطريقة الذي يصور بها الحلم العلاقات القائمة بين أفكار الحلم، والتعبير الذي يصيب مادة الحلم من أجل تكوين الحلم. وتخدم عمليات النقل التي تخضع لها مادة الحلم، التكثيف، حيث إنه بواسطتها نعبر إلى محتوى الحلم. يرى فرويد إنه هناك نوعا آخر من النقل موجود، يظهر من خلال تغيير التعبير اللغوي عن الأفكار. هذه العملية تساعد على أن يستبدل عنصر بملفوظه، ملفوظا آخر، بخلاف النقل الأول الذي يحل عنصر محل عنصر آخر. وهذا النوع الثاني من النقل يعلل ما يختفي وراءه الحلم من مظهر اللامعقولية الخيالية. هذا الاستبدال في عبارات الحلم، يعني أن ما هو مشبه قادر على أن يصور في الحلم، وهو يسمح بإدماجه في موقف من المواقف التي يعبر عنها الحلم. لكن، لا تستفيد قابلية التصوير وحدها من هذا الاستبدال، إنما يمكن للتكثيف أن يستفيد كذلك، لأن فكرة الحلم تظل غير قابلة للاستعمال ما بقيت في عبارة مجردة. لكن إذا ما صيغت في لغة مشبهة، يسهل التعبير عنها من جديد. وتظهر نقط التماس وعلاقات واضحة، يقتضيها عمل الحلم. وهناك حالات يكون استبدال العبارة المشبهة بالمجردة، يساند التكثيف الحلمي، وذلك حين يؤ دي هذا الاستبدال إلى صيغة لفظية تحمل من ازدواج المعنى ما يساعدها على الإعراب عن عدد من أفكار الحلم. وهنا يدخل عالم النكات اللفظية كله في عمل الحلم ويسخر لأغراضه. إذن، قد يكون تحويل أفكار الحلم إلى صور بصرية كنتيجة لما تمارسه الذكرى البصرية، التي تحاول العودة إلى الحياة، من جذب على الأفكار المنفصلة عن الوعي، التي تجتهد من أجل التعبير عن الحلم. هكذا قد يصبح الحلم تبعا لهذا المنظور بديلا عن المشهد الطفولي المعدل من خلال النقل على الحاضر الراهن. ويمكن أن نتصور أن القسم الأكبر من عمل الحلم، يتم بإدخال تعديل لفظي ملائم في التعبير عن كل فكرة من أفكار الحلم. وإذا ثبت ان فكرة ثبت لفظها ورسخ لسبب من الأسباب، فسيكون لها أثرها في اختيار صيغ التعبير الممكنة عن سائر الأفكار وفي تحديدها. ويرى فرويد أن هذا قد يقع منذ البداية في نظم الشعر. فإذا ما التزمت القصيدة بالقافية، فمن الواجب على كل بيت أن يعبر عن معناه، بشكل يتناسب مع القافية. وتكون أحسن القصائد تلك التي لا تعتمد على القافية، إنما تأتي الفكرتان وقد اختارت لنفسها صورة لفظية.

يشير منطق الحلم عند فرويد بانتقاله بين الوعي واللاوعي، بتحليل سلسلة من عمليات الإنتاج والتحويل، إلى هذا التوجه الذي تؤسسه سيميائيات النص. هكذا فالعمل النفسي، ينقسم عند تشكل الحلم إلى عمليتين: إنتاج أفكار الحلم، وتحولها إلى محتوى الحلم. ويختلف هذا العمل عن عمل الفكر اليقظ. ويشكل هذا الاختلاف بين شكلي التعبير اختلافا طبيعيا، لا يترك مجالا للمقارنة. وإذا كان النص يفرض على النص إشكالية تتجاوز كثافة موضوع دال منتج، ويكثف داخل الإنتاج، سيرورة مزدوجة من إنتاج وتحويل المعنى، هنا يبدو تدخل التحليل النفسي ضروريا، بالنسبة للتنظير السيميائي، لأنه بحث لا نهائي عن ولادة جديدة. وهذا المنظور النفساني للغة باعتبارها لغة للعشق هو عند جوليا كريستيفا، أدبا وفلسفة للحب.([8])

كذلك ينظر فرويد للغة على أن لها «دور وسيط، لم يشر إليه، ولم يسجل، فنحن نظن أننا قلنا كل شيء حين نكرر بعد لاكان أن «اللاوعي هو مبني كاللغة»، لكننا نهمل مساهمة فرويد الذي بحث كرجل علم عن مصالحة «الجسد» (الطاقة) و«الفكر» (التمثيل)، دون أن يفرغ أيا من المستويين... إنها (اللغة) علبة للتوازن بين الحواسي و/أو الكمي (التوليدي، الغريزي) والتجريد... فاللغة تشكل إذن نسقا يتموقع بين البدني والنفسي: فهي نفسية وبدنية في آن واحد»([9]).

من هذا المنظور، تواجه عملية إنتاج الدلائليةla signifiance، هذا الاشتغال الدال بمنطق جديد، يساهم في بناء سميائيات غير منغلقة بفرضيات نظريات الدلالة التي تتجاهل وضع النص كممارسة دالة، وهذا يعود بنا إلى ما قلناه، على أن السيميائيات مجبرة على إعادة النظر في نماذجها، وإعطاءها بعدها التاريخي والاجتماعي. كذلك، هذا يعني أننا سنفحص مع جوليا كريستيفا دينامية الخطاب، وعلى الخصوص الخطاب الشعري، كمجموعة من الأنساق المنفتحة، التي تنفتح داخل نسقيتها، ليتمظهر المسار السيميائي للرمزية، وليتمفصل ذلك الخطاب المتداخل بين الرمزي الذي هو قائم على العلامات وتمفصلها التركيبي، وبين السيميائي كتنظيم لتنقل وتكثيف الحمولات الليبدية وتسجيلاتها.

«إذا تركنا المجال مفتوحا لحقل الخطاب ـ كذلك للتأويل ـ كحكي يتغذى من الإحساسات ـ الآثار التذكارية ويحولها (...) إلى علامات سردية موظفة لأجلها، يصبح الوجود الإنساني مسكونا بإيروس ـ تانتوس، وبمركب ثالث الذي لا هو لغة ولا غريزة، لكنه يضاعف حتميا الأولين: إنه الدلائلية»([10]). ينفتح مع جوليا كريستيفا التحليل النفسي على سيرورة للترميز، تتخذ اللغة مكانتها داخلها، كدينامية بين ذاتية، وداخل ذاتية. فمنطق الوعي واللاوعي يضاف له بعد آخر هو الخارج نفسي. وتحضر إمكانية لوجود أفق للوجود حيث تسجل الذاتية الإنسانية دون أن تختزل فيه، وحيث تتجاوز الحياة النفسية بالدلائلية.

يبدو هذا المفهوم أكثر اتساعا، خصوصا إذا تتبعنا مع جوليا كريستيفا انطلاقا من التحليل النفسي مع فرويد، مفهوم اللغة الذي يطرح تساؤلا معقدا على الباحثين النفسانيين، ويفسح المجال خصبا للبحث. إنه يرى اللغة تتمركز بين جانبين، حين يتكلم عن تمثيلات الأشياء، وتمثيلات الكلمات، فالكلمات لا تنفصل عن الأشياء، التي يجربها المريض بأحاسيسه وهذه الرؤية المميزة عند فرويد للغة، تقترح على التحليل النفسي النظر إلى اللغة، ليس كما يدركها اللسانيون، إنما «كتسامي يستعمل العلامات والتركيب، داخل السرد، ليستطيع التجاوز من الوجود الخارجي إلى الذات، إلى الآخر، الذي يجعل من الأنا ذات. لكن هل يتعلق الأمر بـ«اللغة» وحدها؟ أو بما كان يسميه فرويد العقلاني… «الجوهر الأعلى»؟»([11]).

تتوافق هذه الرؤية للغة مع مفهوم الثورة كما تحاول ترسيخها جوليا كريستيفا في جل كتاباتها، وتحليلها السيميائي، الذي يرى ان الثورة تكمن في الجنس وفي المعنى، وفي السياسة، وفي الوجود وفي الآخر. وهذا ما تعبر عنه النصوص الشعرية للقرن التاسع عشر إذن «المحاكاة واللغة الشعرية لا تنكر النظري: لكنها تتجاوز حقيقته (الدلالة ـ التقرير)، لتستخلص منها «الحقيقة» ... هذه الحقيقة الثانية، هي إعادة إنتاج للمسار الذي تقطعه الأولى لتوضع .

[SIZE=6]هكذا تستأثر المحاكاة واللغة الشعرية بالدخول في الصراع الاجتماعي الذي هو صراع إيديولوجي: إن مواجهة (الدلالة ـ التقرير) بل لكل معنى كذلك، إذن لكل تلفظ ينتج من طرف ذات مطروحة، يسمح بها ([12])». فالمحاكاة إذن لم يعد ينظر لها كتقليد، وإنما هي إعادة إنتاج لمسار التلفظ، فهي تهتم بالمعنى ـ كما سبق ذكر ذلك ـ ويبين بارت ذلك فيقول: «هكذا ففي كل سرد تظل المحاكاة أمرا محتملا. فوظيفة السرد ليست هي "التمثيل"، بل هي بناء مشهد يبقى دائما ملغزا بالنسبة إلينا، إلا أن هذه الوظيفة لا يمكنها أن تكون من مستوى يقوم على المحاكاة؛ إن صلة المقطع السردي بـ"الواقع" لا تكمن في التتالي "الطبيعي" للأفعال التي تؤلفه، بل في المنطق الذي يتحكم في عرضه وتقديمه، ... فالمنطق يتوفر هنا على قيمة محررة يشاركه فيها كل السرد؛ ... إن السرد لا يجعلنا نرى مثلما أنه لا يحاكي شيئا؛ إن ما يلهب رغبتنا في قراءة رواية ما، ليس هو الرغبة في الرؤية (وبالفعل فإننا لا «نرى» شيئا)، وإنما رغبة الوصول إلى المعنى، أي إلى مستوى أعلى للإخبار السردي، ... إنها اللغة وحدها مغامرة اللغة، التي لا نكف أبدا عن الاحتفاء بمقدمها([13])».
يبقى الموضوع الذي تطرحه المحاكاة الشعرية هو نتيجة لاقتصاد عزيزي للتلفظ. وهذا ما يجعل من المحاكاة واللغة الشعرية على الخصوص الحديثة تتجاوز المحاكاة الكلاسيكية، وتبحث في المعنى، وتشغل المكبوت. يبدو دورالدلائلية الذي تعرضه هذه الممارسات متصلا بالثورة الاجتماعية. كذلك يبدو واضحا أن هذه المقاربة التحويلية تبين على مستوى النص تلك البنينة التي تبرز ذلك التداخل بين مفاهيم من قبيل النص والتناص والإنتاجية النصية، وتجعلنا ننظر للأدب كخطاب يقوم على نمط التناص. وإذا كانت دراسة النص كخطاب وكعلامة، هي من قبيل إشكالات الممارسة الاجتماعية، تقتضي مواجهة الكلام، يعني الإنتاج بموت ـ الكتابة، يعني الإنتاجية النصية، فهذا سيجعلها تنفتح على مفهمة جديدة للنص كعمل وليس كظاهرة. هذا يقتضي إعادة بناء النص حسب نموذج تحويلي، يقوم على ميكانيزم الحوار بين النصوص. وهذا يعود إلى أن هذا النموذج التحليلي، يتخذ مفهوم الأدب كتمثيل. ومن هذا المنظور تعتبر جوليا كريستيفا النص ـ الأدب، «الأرضية حيث تلعب: تمارس وتمثل التغيرات الإبستيمولوجية والاجتماعية والسياسية»([14])؛ فهو «يحول داخل اللغة، لأجل التاريخ الاجتماعي، التغيرات التاريخية للدلائلية مذكرا بتلك التي ترسم داخل مجال خاص بالاكتشافات العلمية. وهذا التحويل لا يستطيع أن يقوم (...) إذا لم تستند الصياغة النصية على الممارسة الاجتماعية والسياسية، بالتالي تستند على إيديولوجية الطبقة التقدمية للعصر»([15]).
طبعا، هذا يقود إلى تمثيل إيديولوجية هذه الطبقة داخل المدلول، وبالتالي التساؤل حول ما يحيط بحقل منطق معرفي كخطوة، يجب أن تحاول دراستها الممارسات الدالة، بمنطق يدفع المعرفة إلى التجدد. إن الأمر يتعلق بمنطق اللغة وعلى الخصوص منطق اللغة الشعرية، التي توليه الكتابة اهتماما كبيرا، لتأسيس المعنى الشعري كوحدة ديناميكية. وهذا ما طرح على جوليا إمكانية تأسيس نموذج تشاكلي، يعني بناء المعنى الشعري الذي يتمركز اليوم في أساس اهتمامات السيميائيات.[/SIZE]

د. البخاري نعيمة - المغرب

هوامش

[1] - Julia Kristeva, la Révolution du langage poétique, ُEditions du Seuil. 1974 , p.58.

2- نفسه. ص 59.

2 - Julia Kristeva, le texte du Raman p. 13

3- نفسه .
4 - Julia Kristeva, la Révolution du langage poétique, , p. 59-60 .

5- ج. لانلانش ج. بونتاليس، معجم التحليل النفسي، م.س، ص. 404.

6 - Julia Kristeva, la Révolution du langage poétique, p.60 .

7- Julia Kristeva, Histoires d’amour, Ed Denoël, 1983, p. 9

8 - Julia Kristeva, sens et non-sens de la révolte, Pouvoirs et limites de la psychanalyses

I. Ed Fayard 1996, p. 78.
9 - Julia Kristeva, la Révolution du langage poétique, , p.130.

10- نفسه ص140 . .

11- Roland Barthes, Introduction a l’analyse structurale du récit, in communication N 8. 1966, p. 26-27.

12- Julia Kristeva, Semanalyse,ُEditions du Seuil .1969.p. 18.
13- نفسه. ص 17


.
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى