سهير القلماوي - الطفلة الراقصة

كان اليوم يوم عيد الأطفال فأخذ أهل المصيف يتوافدون على فندق كبير وكل معه طفل أو طفلان. وقد ارتدت الأطفال أزياء مختلفة جميلة. فهذا الطفل من سكان الجبال، وذاك راجات الهند، وهذه شريفة، روسية، وتلك راقصة إسبانية. وهكذا اجتمعت للمتفرجين مجموعة طريفة جميلة من أزياء مختلفة يزيد جمالها أن ممثليها كلهم أطفال تقل أعمارهم عن العشر سنوات.

وصدحت الموسيقى الراقصة وحملت نسمات البحر أنغامها إلى الآذان فهزت القلوب هزاً لذيذاً مطرباً. واندفع الأطفال في حماس بريء يرقصون ويضحكون ويهللون. وكانت هي بينهم طفلة في السابعة أو الثامنة من عمرها. مرتدية لباس راقصة حديثة لونه أخضر جميل. وقد بدت منه تقاطيع جسمها جميلة منسجمة بديعة التكوين. وما كاد نصف الأطفال ينأى عن مكان الرقص ليستريح حتى اندفعت هي إليه ترقص رقصاً فنياً رشيقاً مدهشاً. واتجهت إليها الأنظار كلها. وخجل الأطفال من رقصهم البسيط الفطري فانتحوا ناحية يفسحون المجال لتلك الطفلة الراقصة.

ما دهشت لرقص قدر ما دهشت لرقصها، وما هزني الطرب لمنظر أعجبني قدر ما اهتززت لمنظرها، أي جمال! أي فن! أي طفولة مرحة بريئة ساذجة! هذه هي الحياة عندها: رقص وموسيقى، فرح ومرح، حب وإعجاب، لقد دوى التصفيق في أذنها مراراً فاتسعت له حدقتا عينيها اتساع النشوة والرضى، وأغراها التصفيق بالمزيد، بل بالتفنن في المزيد، فمازال بها ظمأ إلى الإعجاب والاستحسان. ترى أتظل الحياة لها هكذا؟ أتظل هي هي مرحة، طروباً لاهية، راقصة؟ أم ستضطرها الحياة إلى تذوق ألوان أخرى منها؟ أستعرف الألم، أستعرف العذاب؟ أستنسى المرح؟ أستظل راقصة أم سيبدل الدهر رقصها نحيباً مشجياً؟

لهفي عليك، طفلتي يوم تودين الرقص فلا تستطيعين! لهفي عليك نوم تذكرين أيام طفولتك بالحسرة اللاذعة والألم الأليم! ترى أستظل نظرتك كما هي إلى تصفيق الناس وإعجابهم بك؟ أستظلين ظامئة إليهما تسعين إلى المزيد ولا ترضين إلا به، أم ستستتفهين هذا الإعجاب وتزدرين هذا التهليل والتصفيق؟ ترى أتظلين حريصة على رضى الناس عنك أم ستعلمك الأيام أن رضاءهم أرخص من أن تسعى إليه؟ كم أخاف طفلتي هذا الإعجاب، كم أخافه على أخلاقك وعلى حياتك المستقبلة. ستتعودينه، وستفقدينه وستتألمين أمض الألم لفقده، ثم سترينه يكال لغيرك كيلاً، ولكن الحياة ستسلمك إلى نوع من الرضى اليائس، ستعرفين بعد أن تصهرك الآلام أن الأيام دول وأن الدوام نقيض الحياة، ستؤمنين بكل هذا ولكن بعد دروس ودروس. دروس لا كدروس الرقص التي تعلمتها فرحة لذيذة منعشة. ولكنها دروس قاسية مؤلمة موئسة.

ودوى التصفيق فانحنت الطفلة الراقصة وكم كانت رشيقة في حركاتها الشاكرة الراضية، كم كانت الغبطة تشع من عينيها بريقاً لامعاً. وانتحت الطفلة ناحية ثم عزفت الموسيقى دور رقص روسي، فقامت طفلة أخرى في لباس رقص روسي وأخذت ترقص رقصة صعبة بديعة. وكال لها المتفرجون التصفيق كيلاً، فأدرت رأسي أبحث عن الطفلة الأولى. كانت في ركن بعيد تنظر إلى الراقصة الجديدة نظرة المتعجب المعجب الفرح، وتتبع حركاتها حركة حركة فتصفق لها كلما قامت بحركة صعبة فأتقنتها، كانت أشد المعجبين بالراقصة الجديدة حماساً وأخثر المتفرجين تصفيقاً لها. يا للطفولة البريئة الطاهرة! لم تخط الغيرة بعد سطراً من سطورها ولم يخط الحسد كلمة من كلماته. يا للطفولة المرحة الطروب ما أجملك وما أطهرك!

وصدحت الموسيقى ثالثة فقامت الطفلة راقصة لاهية طروباً، ودوى لها التصفيق وانتشت بنشوة الإعجاب بها من جديد، تفننت في رقصها وأبدعت. فلمت نفسي على أوهامي وخيالي. حصن الطفولة مازال حصيناً لم ينفذ فيه سهم من سهام الدهر بعد. ليتك تظلين طفلتي هكذا. ليت الحياة تدعك كما أنت عصفورة من عصافير جنتها تغنين وترقصين وتلهين. ليتك لا تعرفين للحياة معنى غير ما تعرفين الآن. أبقي طفلتي كما أنت راقصة. فرحة مرحة إلى ما شاء الله. الحياة الحياة ما هي؟؟: رقصة. فأرقصيها لاهية.

للآنسة سهير القلماوي
ليسانسيه في الآداب

مجلة الرسالة - العدد 28
بتاريخ: 15 - 01 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى