جعفر كمال - الشاعرة لميعة عباس عمارة.. الموائمة بين التخيِّل والموهبة



الشعر، بداية هو شجو الروح للواعجها وعذاباتها ومستقرها في مكان ما، حيث قلنا في دراسات سابقة، إن من صفات الشعر تجلي المتخيل الفطري analytical، أي قدرة الشاعر، الشاعرة على قياسات تحديد القدرة على الموائمة بين الخيال والموهبة، وهو ما يعبر عن الانسجام المشترك لتخصيب أفكار جديدة، تتساوى وتتلازم في جودة الذكاء الإبداعي creative، ما يتضمنه مقدرة الشاعرة على الابتكار والمغايرة، حتى يشار إليها هي من تخلق الطفرة النوعية في النص، وقد احتوى الذكاء الشعري "الإبداع" على خمسة نقاط مهمة وهي:

1- التلاقي العاطفي الروحي من حيث قواعد التكوين الإلهامي وثقافة الشاعر / الشاعرة.

2- التمازج والتباين بين الاتصال بالواقع والانفصال عنه.

3- تفاعل الوعي المحسوس المرتبط بالذات الشاعرة.

4- عمق المتخيِّل التوليدي وتعدد بلاغته.

5- تراتب التنوير الجمالي اللغوي والإيقاعي.

هذه العناصر تشكل الأبعاد الأولية للشعر وفكره الإنساني، وهي في الوقت ذاته الحلقة المفقودة التي لا يعرفها الكثير من الشعراء والشواعر، وعليّ أن أشير إلى أن معرفتها ضرورية كونها ترتبط بالخصوصية النوعية المتناظرة ثقافيا وفنيا عند الشاعر / الشاعرة، وكتابي هذا يتضمن جدل النقيضين الماديين، لأن الحقيقة مادة، والوهم مادة ايضا:

1- الموهوب، الموهوبة.

2- المؤدي، المؤدية.

إذن نحن بصدد السؤال المطروح من هي الشاعرة؟

من خلال هذا الاتجاه النقدي ونقودات أخرى، سوف نأتي إلى دراسة هذا المفهوم الأزلي في فصول لاحقة، نوضح فيها مقدار القيمة الجمالية الشعرية مع اختلاف قدرات الشاعرية عند الفرد، الذي يؤدي فعله إلى تأملات عميقة تعضد من الذوق الشعري، التي تتحد في بنيتها الفنية من حيث تلاقي بسط رشاقة المشاعر، الحوار الذي في طبيعته أقرب ما يكون جدليا في بديهته.

ولكي ابدأ بالشاعرات اللاتي تَمَكنَ من وضع أسس ومعالم واضحة في بناء أسلوبية التنوع، في ألفة الصناعات البديعية، التي يمكن أن نسميها بالمحرك الفعلي في تتوج تجنيس وطباق الألفاظ، أي أن تكون متشابهةً في الأعجاز والأوزان، تتضمن معاينة الخبرة في القصيدة الشعرية الفصيحة، التي يظهر أثرها واضحاً بتأثيره على حركة الآداب العربية المعاصرة. فالاعمال الناجحة لابد من أن تحتوي على العطاء الأدبي والثقافي الوفير، المنسجم مع طرافة وجمال وجزالة المأولات المنتجة لتفعيل إجادة النظم، بالقدر الذي استقاه الشاعر / الشاعرة من طبيعة الحدث، خاصة ما توفر في الشعر النسوي العربي، لغة وفناً وموضوعا، فكان شعرهن بديع النقلة، سهل البديهية، جزل العطاء، احتوى على أجمل ما يوصف في جمالية الافتتان المرثر على مشاعرها، أو لنقل التغزل الغرامي الروحي للشاعرة وهي تهيم في عشقها البديهي، وكأنها ضمن حلقات خلوة التصوف. وإن كن قلة من ابدعن في هذا المنال.

فقد تنقل شعرهن بين الطبيعة ومختلف مظاهرها، وبين ريضان أخرى:

أولاً: استخدمن الاستعارة المنسجمة بالوصف الاباحي والعذري، أو ما تشابه مع محاكاة الهيام ومعانيه واسبابه وأعراضه وما يقع فيه وله.

ثانيا: الشعر التراجيدي وهو الأقرب إلى الشعر النسائي، لأنه يحث العاطفة المتزيدة بشاعريتها الموردة لما يحضرها من مرغوبها الانفعالي، وهذا طبعا أتى من ظلم المجتمع العربي لها.

ثالثاً: العبثية في الشعر النسائي عادة ما تكون قليلة جدا، لكنها إن وجدت فتكون غاية في اللطف والمناغاة والهجن، وقد اشتهرت في هذا اللون الشاعرة السورية غادة السمان، والشاعرة الكويتية سعاد الصباح، والشاعرة العراقية آمال الزهاوي، حيث ابدعن في توليف وتطريز هذا اللون بمعان صارخة تدل على الدلالة بأوجز معان أجودها إشارة، من جهة تصريحها بالمقصود. لكن عند الأخريات تكون العبثية عدوانية صلفة سمجة غير محببة، وهذا يرجع لعدم ثقتها بنفسها، كونها غير واثقة من نصها المكتسب، لأنها مكرورة من الآخر الذي يكتب لها.

أن المصبات الشعرية التي تفيض بالمهارات ذات القيمة الدلالية، تكون معبرة عن الانفعالات بشكلها الحساس التي تمثل قائلها من خلال المبصرات الوجدانية ، كما عرفها بيتر سالوفي: "القدرة على فهم المشاعر وعلى الوصول أو إنتاج المشاعر، التي تسهل الخيال المعرفي." وذلك لما أضفن من لغة شعرية مبتكرة، تلك القصائد تغتني بصيغ الملموس الإبداعي الذي ناغم الصفات البديعة في أغلب أعمالهن، فكان معبراً عن خلجات النفس في أدق مهارات الذكاء العاطفي، يوحي على أن كيف للشاعرة والقصيدة تستطيعان المجانسة على سياق وعي منسجم، فتناجي إحداهما الأخرى بالاحساس العاطفي، بواسطة مصبات توارد الأفكار الذهنية، المفسر الحقيقي للمفاهيم الموضوعية المادية، من عمق وحدانية الوحي الروحي الملاقح ما بين الذات الشاعرة والنص، باتصال ميتافيزيقي سحري مشبع بالبعد الانفعالي. مع أني لا أدري لماذا على الشاعرة العربية أن تضع نفسها في الظل خلف الرجل، فالمرأة الشاعرة كانت وما زالت تعتبر نفسها وصيفة فنية لملوك الشعر من الرجال، باستثناء الخنساء، ونازك الملائكة، وليلى الاخيلية، وزرقاء اليمامة، وولادة بنت المستكفي، والعباسة أخت الرشيد.

تميزت المرأة الشاعرة منذ القدم بشدة الجزع، وطول الصبر، فوصلت الكتابة الشعرية النسائية إلينا وقد تمثلت في أربعة إتجاهات في اساليبها:

1- الرومانسية كانت وما زالت سلوتها ومبتغاها. وقد انحصر هذا الاتجاه بالوصف، بخاصة وصف الذات وتصويرها بما تعانيه من كمد وحرمان. فقد غاص هذا الوصف في أعماق الموصوف وأبدع في تصويره. فكانت الأدوات متحفزة تجمع كل ماهو جميل، وذو رائحة فواحة توصف نفسها بها. كالقمر والفجر وبنات زحل والورود والفاكهة والمسك والسفرجل والبخور وضوء الفانوس أو الشمعة والدرر والياقوت، وما إلى ذلك من بديع وثمين، على اعتبار أن المرأة إحدى أجمل هذه الوصوفات.

وقد تغزلت الشاعرة الحسناء سلمى بنت القراطيسي بنفسها وبجمال جسدها، وهي ابنة بغداد التي عاشت في القرن الرابع الهجري قائلة:



* عيون مها الفلاة فداءُ عيني واجياد الظباء فداء جيدي

ازيّن بالعقود وإن نحري لأزيّن للعقود من العقود

ولا اشكو من الأوصاب ثقلاً وتشكو قامتي ثقل النهود

ولو جاورت في بلدٍ ثموداً لما نزل البلاء على ثمود



2- اكثرن من الرثاء المعبر عن ظلم القيود التي تفرضها القوانين الوضعية عليهن. وغالباً ما ابدعن بابتكار الصور المتحركة المجسمة في هذا المجال، وهو الفائض في شعر الكثير منهن على امتداد التاريخ الشعري العربي النسوي. وهن يكسبن الصورة الشعرية ألوانا تعبر عن الاستياء، في موضوعاتها المختلفة.

3 - الغزل الروحي في خلوتها. فيكون هذا الإتجاه جيد النظم، قوي السبك، شديد الملاحظة، على اعتبار أن الذات الشاعرة هي النموذج المثالي، وهي الخصوبة، وهي التأصيل بنهوض اللغة التخيلية، وقد أكدت المعطيات الحضارية الإنسانية والإبداعية احياء هذا الاتجاه.

1- سالوفي، بيتر: الذكاء العاطفي، ترجمة حمزة الجبالي، جريدة النهار، الصفحة العلمية.

4- "اللوليات" أو شعر "الدللول" أي الشعر المعبر عن مهاتفة النفس للنفس الدال على الحنين للطفل إرضاءً وتنويماً، وغالباً ما يكون هذا الشعر شعبياً يعرف عنه إنه سهل البديهية، رشيق الإيقاع. لأن مشاعر الأم تكون في تلك اللحظات متوقدة وواسعة الخيال، وصادقة الاحساس والمناجاة.

ومن خلال ادراك مرحلة الوعي القائم على المشخص المادي، الذي تنقله الحواس البصرية المرتبطة بمكان ما في العقل، الممول الحقيقي للعملية الإبداعية، المسئولة عن توارد الرؤى والأفكار ومدلولاتها البينية المتناسقة مع حركة الفيض الموحي للكتابة الشعرية، المنسجمة مع حالة الرعش الذاتي عند الشاعرة، كون الفيض الشعري أشبه بمخاض ولادة، إما أن تكون عسيرة، وإما أن تكون سلسة الإرهاص، ففي الحالتين تشكل الفصاحة اللفظية عاملاً مهماً في وعي وتخصيب المعاني وأسس بنائها. ولهذا تكون الجودة في النص هي ما يميز هذه الشاعرة عن غيرها، حيث إن التقمص العاطفي، وثقافة الوعي، وحساسية المزاج التفاعلي، والتدفق الخيالي، ومشاعة المحاكاة البصرية، هي من تضبط الأفكار وتعلو بالقابلية للتكيف النوعي في جودة التعبير:

الأولى: فالنص بلغ البناء الايحائي مقبوليته منذ لحظة ولادته الأولى.

فالثانية: يكون النص عسيراً لكن مع التنقيح والتهذيب، يكون ربما قد بلغ مقبوليته.

فالشاعرة التي بانت في الحالة الأولى نسميها الموهوبة، المقترنة بثقافة الوعي الحسي في الخيال، كما أسماها ريبو: ب"التشخيص Personfication" والمقصود وعي التشخيص البصري، لأن الحس الميتافيزيقي عند الشاعرة المُبتَكرة هو من يميز العمق الإبداعي بين الموهوب والمؤدي، ومن المفيد أن نلاحظ هنا أن الحس المجسي الإنفعالي هو من يفجر الحالة الإبداعية بين ذات الشاعرة، وبين المنظور المحكم ضمن دائرة الرؤيا المبصرة للشيء المشخص، أي أن الصورة الشعرية تصب الحانها في ذاتنا لأنها الانعكاس الايعازي للعقل. قال أحمد بن أبي طاهر طيفور في كتابه بلاغات النساء، حول: ضبط النزاعات والمزاج في جودة الكلام، ورقة المعنى: " جاء في جواباتهن، وطرائف كلامهن، وفائدة نوادرهن، وأخبار ذوات الرأي منهن، على حسب ما بلغته الطاقة، واقتضته الرواية، واقتصرت عليه النهاية، مع ما جمعنا من اشعارهن.*" ولهذا كان التمييز بين الملهمة شعرياً، وبين المتعلمة للشعر، أي المؤلفة له، وهن الأكثرية اللاتي يغص فيهن الناشر الألكتروني، مع أننا لم نجد واحدة من هؤلاء تنشر في الصحافة الورقية، ولهذا نقول في الأولى: نص شعري حقق ولادة حقيقية من مركزية تغذيها ذهنية واحدة.

وفي الثانية: نص وهمي غير معروف من أين جيء به، بمعنى ليس له مصدر إبداعي واضح.

1- أبي طاهر طيفور، أحمد: كتاب بلاغات النساء، المكتبة العصرية صيدا بيروت، الطبعة الأولى 2000، ص15.

ليس من غرضنا في هذه الدراسة أن نعرض للقول في أصل الأسماء من النساء ذوات بنية التسفيط الكلامي، إنما هو أن نضع أيدينا على المسميات واجناسها، وذلك لتبيان القيمة الفنية واللغوية عند هذه أو تلك، من حيث الأطوار والأجيال التي تأثرن بها، وتبيان أسس مستوياتها المختلفة من طبيعة منحدرها الثقافي والاجتماعي، وحتى الاخلاقي كما أشار الجرجاني آنفاً، والقصد في العنصر الأخير أي "الأخلاقي" مقدار الوعي في احترام الرد، وجمالية الحوار مع الآخر، ومن خلال قراءتي لتلك النصوص، وجدتني ألامس مدى ما تشوه من الشعر على يد بعض النساء اللاتي سمين أنفسهن ب"الشاعرات"، وهن في الحقيقة كائن جزئي في ذلك النص. سأتناولهن في الجزء الثاني من هذا الكتاب، وللأسف اقول إن المواقع الألكترونية كانت وما زالت "مكررة لرداءتها" فصارت "المواقع" للمقلدة المكان السهل والخصب لنمو مثل هكذا طحالب سامة معلقة على شعيرات فايروسية خصبة.

وبحق فقد برزت أسماء لشواعر عربيات غاية في الأهمية والوضوح، من حيث الاستلاب البوحي في مقامات الشعر الفصيح، وبعده الفني من نظم الكلام وتأثير صوره الراقية والمثيرة للآخر، فكل شاعرة من هؤلاء حققت منجزها الشعري بدراية ذات ثقافة تمتعت بلغة غاية في الفصاحة، واتخذن طرقاً ذات مؤديات فنية أحكمت البناء الشعري أجمله، فحققن للشعر العربي مكانة واضحة ومهمة بين الآداب العالمية، فاجتذبت كل واحدة إلى نفسها الثقافة العالمية واستفادت من سعتها، لا سيما الشعر، كونه الجزء المعلن في موهبتها، شذبته وهذبته واعتنت به كرضيعها، وإنني لا أدعي أن كتابي هذا يشمل كل الشواعر العربيات، بل إنني أرى أنها البداية لدراسة ستكون مستفيضة بوعي اسماء اتصف شعرهن بجمالية الاحتراف الفني واللغوي هؤلاء اللاتي تفيض مواهبهن الأدبية بالنبوغ والنجاعة، بذات القيمة الشعرية التي حققت ركائز اعتمدت مواطن الفصاحة بطلاقة اللسان وسلامة الفطرة.

أستطيع القول إن الشاعرات العربيات الواردة أسماؤهن في دراستي هن ما أرى أنهن لم يأخذ عليهن التاريخ مواقف مضادة، أو نقداً سلبياً، حين يردن التعبير عن الافكار وتصوير محاسن المشاعر الخالصة، التي تعتمد بلاغة الخيال، ومحاكاة التعبير، عبر تخصيب تتجلي به محاسن الكلام، ذلك الجنس الخفيف على السماع، والرشيق الحاصل على متعة الذوّقِ في صياغته وتجنيسه، شرط أن لا يكون شاذاً، ووحشياً، وغير مألوف.

1- أبي طاهر طيفور، الامام أبي الفضل أحمد: كتاب بلاغات النساء، المكتبة العصرية صيدا- بيروت، الطبعة الأولى 2000، ص 38.



توزعت هذه الأسماء على مستوى الساحة الأدبية العربية، وسوف آتي إلى دراسة شاعرية كل واحدة بفصل مستقل، هذا لأنهن أسسن واغنين بفعلهن الأدبي النوعي، نطاق التأويل المتفاعل مع صحة التفكير، باعتباره طوراً مهماً من أطوار إنتاج النص، عبر مؤثرات وجدانية تتمتع بخوصية كيفية، ولغة فصيحة مألوفة يفهمها المتلقي.

ولكي ابدأ بالشاعرة المتمكنة من شعرها في حركة أدبنا العربي المعاصر، التي حققت منجزها الشعري منذ ولادتها الشعرية، تمتعت بثقافة لغوية وفنية أحكمت البناء الشعري أجمله، مؤكدة تأسيس لغة شعرية توازي في مسارها التنويريي، مكانة الحركة الإبداعية العربية:

أرى أن الشاعرة لميعة اتخذت من السلم الغرامي العاطفي، ما يميزها عن الشاعرة نازك الملائكة، التي كانت حادة في بنية شعرها الاجتماعي العام، ونازك من شاركت السياب في حداثوية البنية المجددة للقصيدة العربية وقد تميزت بثقافتها، وفي الوقت ذاته اختلفت مع السياب في بلاغة الأسلوب الواضح في بنائها الشعري، من خلال اعتبار ملكتي التفكير والذكاء، مع تصاعد صدح الأسلوبية السيابية الغنائية المموسقة في حينها. بقصائد مهمة غيرت من المجرى التاريخي في البنيوية الشعرية في القصيدة العربية العمودية، أي أنه أحدث انقلابا هائلا في البنية الداخلية والخارجية للنص الشعري، فقد متع القصيدة التي سميت بالسيابية بقدرة غير منتهية الإبداع، وبما هو متجدد في كل قصيدة من قصائده. أما الشاعرة السومرية لميعة عباس عمارة، ومن خلال مقدرتها اللغوية، التي أخذت ترسم ملامحها المحددة لسماتها الخاصة، بين أسلوبين: أسلوب السياب، وأسلوب نازك الملائكة، بتأصيل تجديدي قوي البنية ورشيق القوام، فهي لم تقترب فنيا من السياب ونازك جداً، وفي الوقت ذاته لم تبتعد عنهما، فكانت توسط إبداعها مدخلا لنيل استقلاليتها، أي أنها حاولت جاهدة أن تطور من أدواتها التي قاربت ركب الكبار، أمثال: السياب، ونازك، والبياتي، وبلند الحيدري، والبريكان، وصلاح عبدالصبور. وآمال الزهاوي، فكانت تسير بمحاذاة هؤلاء الشعراء، مصممة على البقاء حيت قناعتها بقوة الاتصال الوسطي، تعمل على تطوير الأنساق الرمزية التجديدية، وأحكامها اللغوية والفنية، في قصائدها المثيرة للوجد الإنساني. أي أن تفكيرها انصب في خلق أحادية التركيز على جودة المعنى، وذلك بالبحث المضني عن أفكار لتجديد أدواتها، وإذا كان لابد من ذكر مميزاتها الشخصية فهي: لماحة ذكية باستنطاق المعارف والحقول اللغوية والفنية. مخلصة لفنها ولنفسها. تعتد بذكائها ولا تبخل به على الآخر.

فقد حققت الكثير من التغيير في العمق العاطفي للجملة الشعرية. حين أثارت فيها تدفقاً رومانسياً نوعيا، فجعلت القارىء يتصور بنظرة أن الشاعرة تعيش حلة الغرام الفطري في كل أوقاتها، وعلى وفق هذا الفهم، تقدم الشاعرة أسلوبها اللغوي الشعري المعبر عن استقلالية نهجها، على أنها تمتع الحقل المعرفي بمؤثراتها المعرفية الوجدانية، التي تصب ثورتها العاطفية اللغوية في بال المتلقي، تأخذه إلى ساحاتها الإبداعية فتأسره ليس في هذا وحسب إنما جاءت شاعرية عمارة تمتع القاريء بلقطاتها الخيالية السريعة الجريئة، التي اتخذت من الاحاسيس السمعية والبصرية، دفقاً تحويلياً ذا صيغ مرنة الاستبصار والتأمل، والخروج من أسر ما تسمى الضرورة البنائية الحتمية، إلى فضاء رحب التنويع في البحث عن البدائل، التي يستفيض فيها الموضوع بأكثر من زاوية، عبر معان تعبر بدقة عن مشاعرها وعواطفها، تعكسها من خلال بنية إيقاعية متباينة، حسب تباين المفهوم الغريزي في قدراتها ووعيها المنصبُ أصالة نتاجها عبر أنساق لغوية نحوية سماها السياب: "لغة مختلفة الأوزان والتفاعيل" حيث أنها أعتمدت التنسيق الذاتي في منجزها الفني، فأوجزت التعبيرات الصوتية بمصاحبة الاشارات والحركات المعبرة عن حاجاتها المختصة بالتوليفة الشعرية. وكأنها أي الشاعرة تتحرك بالقصيدة شعوريا، فتخلق نصا فطرياً ذا بعد تنويري تحركه الذبذبات الصوتية بإيقاعاته، التي تصاحب التدفق النوعي في إتقان الصنعة في تكوين النص وبيان رفعته، المعبر عن تمويل الوعي الفكري ورفد حاجاته ومقتضياته. وعند معاينتي كتاب اللإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين الآمدي. وجدتني مصاحباً رأيه عن أن تكون الكتابة عميقة ونافعة، أقرب إلى المعقول، وأوفق للذوق في البيان والمبيَّن، قوله: "لم يخرج البيان عن التعريف والدليل، والمطلوب الحاصل من الدليل، لعدم معنى رابعٍ يُفسّرُ به البيانُ، فلا جزم أختلف عليه القارئ."*

إذن فالشاعرية عندها بنية حيوية غير ساكنة، بل هي قابلة للتنوع والتغيير، تتدفق بأحاسيسها فتحرك محكات قياس البصيرة التي تتفاعل مع الذكاء الفطري، معلنة عن تطورية جذور اللغة المتدفقة في ألبابها الحسية العاطفية،

1-علي بن محمد، سيف الدين الآمدي: الإكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية، الطبعة السادسة 2011، ص24

وقد بان هذا الوهج الشعري منذ مراهقتها الناعمة، بوصفه سلوكا عقلياً تفاعل مع الوجدانية المرهفة في جوانيتها، التي تنوعت بها الاتجاهات الفكرية في مصبها الأدبي، محاولة البث بشأن الأصل الغريزي لعشقها المفتون باللغة والأدب، كونه أصبح جزءاً من شخصيتها، وكأنها وصلت حد الولع والإدمان على قراءة الآداب العربية والأجنبية، منذ بداية دراساتها في المرحلة الدراسية المتوسطة تؤدي كتابة الشعر المحكي، ومن ثم أخذت تطورات الجناس بتأثير السياب عليها بشكل مباشر، مما أسهم ذلك في تطورها الإدراكي للانتقال إلى القصيدة الفصحى، فأخذ وعيّها ينصب بتنوع النتاج المكتسب من عائلة متحررة أدمنت التغذي بالشعر والمطالعة الأدبية فسميت بالعائلة المثقفة، خاصة وان ابن عمها الشاعر الكبير عبدالرزاق عبدالواحد، وهذه القصيدة:

لماذا اعشقك أنت..؟
لم اخترتك بين امجادك
الزاهرة؟
ومثلك يحلم كرم الجنان
يسيل على كفه العاصره
* **


لماذا جعلت طريقي انتهاء
والغيت قدسية الذاكره ؟
اكان
اكتمالا لمجدك ان سيقال
وهامت به الشاعره ؟
لماذا
يحط المساء
حزينا على نظرتي الحائره
وفي القرب اكثر من معجب
واني اكثر من
قادره؟
انا طائر الحب
كيف اختصرت سمائي
بنظرتك الآسره ؟


مثلت الشاعرة لميعة عباس عمارة اتجاها اسميه تطور التوليفة المعيارية المركبة، فيما تبثه الكلمة من اصوات تحرك المعاني باتجاهات ذات منحنى يقتضي الدلالة الحسية. حيث جعلت من الصوت الباطني في رؤاها الشعرية ناطقا معبراً عن إرشاده اللغوي والفني، وكأنك تحسه وتسمعه، من حيث مساراته الجرسية الرشيقة في بنية جملتها الشعرية، وعند بروز عمارة كانت أغلب الآراء الأدبية المهمة تلتقي معها، فكان السياب، وجبرا أبراهيم جبرا، كونها استخدمت المشاعر العاطفية كجزء لحل أزمة القصيدة السياسية، خاصة وأن الشاعرة كانت قد تأثرت بالفكر الماركسي التطوري بعد أن كانت تقرأ مجلة الثقافة الجديدة التي تنشر المقالات المترجمة لكارل كروشن وبول ماتيك، وجورج سيبيرو، كان لهؤلاء التأثير الضمني على كتاباتها، التي تتفق مع ثقافات وفلسفات جديدة كالداروينية ذات المنحى التطوري لاتجاهات علمية لها تأثير واضح على المتلقي. ولأننا بصدد تراتب الاحتراف، كان أهم عثرات التغيير في بنية القصيدة هو ابتعادها عن غرامها مع السياب، بعد أن كان وعيَّها منصبا على دمج المدرك المشاعري الحسي المتقد بداخلها، وبسبب انهاء تلك العلاقة أصبحت أدواتها تتكون بفعل قربها من جبرا ابراهيم جبرا.

فتحققت قدرتها على معاينة الألفاظ واستخدامها للتأثير فاعليتها على الآخر. ولهذا كانت قد تخطت العثرة فأصبحت مميزة بين الشاعرات العربيات الأخريات. باستثناء نازك الملائكة، فقد كانت قمة جبل شاهق متفردة بجودة شاعريتها ذات الفضاء المفعم بالحيوية والبلاغة والمعرفة.

وبعد ذلك تنوعت الإبداعات الجناسية عندها تبعاً لمعطيات النهضة المجتمعية في بداية الخمسينات التي صاحبت ظهور أكثر من شاعرة عربية حققن شأنا أدبيا كبيرا، مقابل ظهور ثلة من الشعراء الرجال كانوا يتبوؤن مقاصد الفنية الشعرية الإحداثية المجددة في العمود إلى التفعيلة أو الحر. فقد كانت الساحة الأدبية حينذاك مكتظة من مشرق الوطن العربي حتى مغربه. من العراق: بدر شاكر السياب، سعدي يوسف، البريكان، بلند الحيدري، البياتي، الحصري، من مصر: صلاح عبدالصبور، ولاحقاً أمل دنقل، من لبنان: يوسف الخال، شوقي أبو شقره، خليل حاوي، والسوري أدونيس المقيم في لبنان، ومن النساء: من العراق نازك الملائكة، وعاتكة الخزرجي، وآمال الزهاوي، وناهضة ستار، ومن لبنان مي زياده، ومن المغرب مالكة العاصمي. والسورية غادة السمان،

وفي هذه القصيدة للشاعرة لميعة عباس عمارة التي عنونت على شكل سؤال حواري، تتحرك فيه الذات الشاعرة باتجاه تطوير فضائها التنويعي، وتطعيمه بأحدث الأساليب ذات الومضة السريعة لتشغيل جماليات المعنى بقولها: "لماذا اعشقك أنت؟" والسؤال مشروع لماذا أنت من بين كل البشر، فبلاغة المعنى تكمن في طبيعة السؤال التحليلي، كم من الخصل الناجعة يمتلك هذا المنتقى سواء أكان رجلاً على لسان شاعرة، أو امرأة على لسان شاعر، ألأن هذا الشخص تلاقحت صفاته واحاسيسه وبنيته الجسدية مع نظرتها الجنسية الثاقبة، فكان تطابق طباع الأفكار بمن التقته من بين الجميع، ترى أهيَ الموضوعية؟ أم العبثية؟ أم الفطنة الفطرية المتولدة من الحتمية الذاتية؟ كل هذه الأسئلة يجيب عليها التوليد البصري والصوتي، لأن هذين العاملين يتحدان في قانونية حسية واحدة، يعملان على تأسيس المبتكر الإبداعي في الطبيعة الذهنية عند عمارة، فهو الاتجاه الذي احترفته الشاعرة المحرك العاطفي للمشاعر الباطنة، بعد أن أدارت مداد الصورة المعنية بالتوليف والمعالجة. فيكون الخيال أكثر أهمية، بذلك الوقت الثقافي الممتليء بالاحساس والتوهج والتجلي.

ثم تأتي الصوّر التالية لتشبع مساحة السؤال تأثيرَ ألقه الحسي التنويري وتحديداً في: "لم اخترتك؟ " ثم: "ومثلك يحلم." لم أهمل تكملة الجملتين الشعريتين، إنما أحلتها إلى حقل تحليلي آت، كونها وصفية تفسيرية أكثر مما هي تصب في رؤية التكثيف اللغوي ببنية المعالجة والاستنتاج، لأن بداية القصيدة سؤال. تعكس استنتاجية البنية الفطرية التي يولد النص في احشائها، ولهذا تبقى الصورة الشعرية كاملة بمجالها الرومانسي العاطفي وحسب، لكنها سطحية خالية من البنية التلاقحية الإنفعالية، وضعف إرهاصات بلاغتها الدلالية على نحو يكثف مفهوم الصورة النوعي فقد حصل في الجملة الشعرية التالية: " يسيل على كفه العاصرة." ما الذي يسيل على كفه "العاصرة"؟ هنا تتلاقح الرؤية التحليلية لتحط على الغصن المكثف بالمعاني الغنية بدقة تصويرها، هي "الكف" التي استدعتها الشاعرة في معالجتها الواضحة من خلال بنية أدواتها التغيرية في هذا المعنى، إذن فالذي يسيل على "الكف" هي: "امجادك الزاهرة" في الصورة الأولى. وفي الصورة الثانية: "كرم الجنان"، لذا نجد الشاعرة استدعت حرف الجر "على" بدلا من "في" للضرورة الوزنية، فالسيل يكون في التجويف، والماء يسيل في النهر، وإذا سال في الصحراء أو في الجبال يحفر له أخاديد يسيل في تجوفيها، هذا إذا كان الماء، أما الشاعرة فقد نحت نحو الاستعارة لكي تحقق للمعنى جودته برأيها، فجعلت من "الأمجاد" و "الكرم" يتمنيان ويحلمان أن يسيلا على كفه العاصرة لهما، فصار المعنى مختلفا بدقته، لماذا؟ لأنها قالت "العاصرة" بمعنى الكف التي تعصر الشيء وتحتفظ به، وهنا وقع الاستدعاء في النحو البنائي للمعنى، كون "على" تمثل ما يسيل على المكان ويروح يسيل في مكان آخر، كقول قائل يقول: "وضع حياته على كفه" هذا لأنها ثابتة، بمعنى المصير، ولهذا يكون التحليل كالتالي: إذا إنتهى السيلان من على "الكف" ستكون خالية من مجده وكرمه، لكن الشاعرة لو استخدمت: في، لكان للكف الاحتفاظ بكرمه ومجده لأنها عاصرة.

لماذا جعلت طريقي انتهاء
والغيت قدسية الذاكره ؟
اكان
اكتمالا لمجدك ان سيقال
وهامت به الشاعره ؟


ثانية تبدأ الشاعرة مقطعها الثاني بسؤال: "لماذا جعلت طريقي انتهاء؟" لكن في هذه المرة تُحَمِّل سؤالها شكوى شعورية، في الوقت ذاته تمنحه كبرياء الأنثى المنيعة، عندما تكتشف نيات الحبيب غير الواضحة، فجاء الجواب يذكر الحبيب بغرضه من هذا الحب: "أكان اكتمالاً لمجدك أن سيقال \ وهامت به الشاعره". من هنا لابد من تبيان قرار المنهج الصوتي عند الشاعرة، فالصوت في هذه المقطع كما هو الحال في المقطع الذي سبقه، يأخذ شكل المناداة المعبرة إلا من صوت العتاب، الذي يمكن أن يصل للآخر عن طريق العينين، أو ردة الفعل المفاجئة، أو حتى الامتناع عن اللقاءات أو الرد السلبي، كل هذه أسباب يوصلها الشخص من خلال صمته اللساني الموحي للصوت الاحتكاكي أن ينطق بالانفتاح كما هو حال الاسترخاء النسبي، حتى الشعر هو صمت معبر بصوت الذات المتكلمة دون أن تنطق، وقد سمي هذا بالنداء الداخلي، وفي الشعر نقول النداء الروحي، أو مرآة التفكير، فهو يتلقى الإيعاز من منطقة الإرتباط الذهني، المسئولة مسؤولية مباشرة عن تحويل الأحساسيس البصرية والسمعية إلى معان لغوية، فالصوت عند الشاعرة دلالي يعبر بندائه النفسي، أكثر مما هو صوت معلن يعبر بشكواه العاقلة أو الثائرة، عبر ذبذبات صوتية يستقبلها المتلقي من خلال تركيزه على الإشارات الصوتية في المجاز حيث يقول: "والمجاز ذات قيمة في الشعر والنثر*" فالخيال هو الداينمو الذي يحرك النبض التوليدي في مجسات الشاعرية، ولذلك ركز العلماء على طبيعة الصوت ومساراته بوصفه ايعازا وقفياً، كما وأنه أداة لتبيين الضرورات الحياتية بمختلف أغراضها، أما أهم ما يجعل النداء الروحي الصوتي إنسانياً، هي المشاعر الحسية العاطفية في حلاوة الطبع، ومن هذا المبدأ خلقت الصورة الشعرية من لغة تنقت أحسن كلماتها، لكي تقتنص اللفظة إيقاعها المحمل بالرموز، تلك التي تعكسها بنية اللغة، فتكون أداتها المعبرة عن العاطفية المتفاعل توترها الحسي تصاحبها الذائقة التخيلية. يؤكد جان بياجيه: "أن الفكر الرمزي لا ينشأ من الإشارات الأولى، بوصفها رموزاً ذاتية غير لغوية" وبهذا نقترب ببحثنا من داروين بدفاعه عن نظرية "التاتا" القائلة: "أن اللغة نشأت نتيجة قيام الإنسان بإحداث بعض التعبيرات الصوتية التي كانت تصاحب إشاراته وحركاته المعبرة عن حاجاته، إذ كان يُحرِّك اثناء ذلك لسانه وفكّيه لاشعورياً، ثم تطورت هذه التعبيرات، فكفت يداه عن الحركة، وحلّ اللسان والشفتان مكان اليدين في وظيفتهما التعبيرية*".

1- غنيمي هلال، محمد: النقد الأدبي الحديث، دار العودة، دار الثقافة بيروت، الطبعة الأولى 1973، ص 116.

2- داروين، تشارلز: علم الأحياء التطوري، الناشر جون موراي، ترجمة مكتبة النهضة بيروت 1973، الطبعة الأولى، ص 114.

من هذا المنطق فالمحاكاة التي تنشىء على بنية علانية الصوت، كالإشارات والرموز التعبيرية تخلقها اللغة الخاصة عند هذه الشاعرة أو تلك، كونها عبارة عن مجموعة اشتراطات تكوينية، من العقل للذات التي تتحرك ضمن فعله الدلالي، والذي يعبر عنها الوجه والعينان وحركة الشفتين واليدين. وهذا ما يفسر السر الفسيولوجي الجديد الذي استخدمته الشاعرة عماره، في مسارها المستقل الذي عبر عن أشكال توليفها الأدبي، وهذا يتجسد في هذا المقطع الشعري الأخاذ بفتنته. والسؤال الذي يبدأ كل مقطع جاء صوتيا تحركه الذات المتفاعلة مع الصورة البينية، فكان السؤال ينم عن ثقة الشاعرة بفتنتها وثقافتها ومكانتها الاجتماعية، من مساء يحط حزينا على نظرة مكلومة معذبة بحيرتها، وقولها: "لماذا يحط المساء حزينا على نظرتي الحائرة." بينما في الجو المحيط بالشاعرة هناك أكثر من معجب أو عاشق يلوذ بطرفها، فتقبله أو ترفضه، فهي قادرة على إيجاد الحبيب كما ترمش عينها، لكنها كما قالت في المقطع الأول إنها: "لماذا اعشقك أنت؟ \ لم اخترتك؟" وهاتان الجملتان الشعريتان هما المحور الدلالاي الذي تدور حوله الجمل الشعرية بكل مجسات معانيها، وهذا بحد ذاته إمعان نوعي في النص المدوَّر يجدد حالتها الشعرية، من مبدأ فواعل المنهج الصوتي التحويلي، وعند تشومسكي ذات المنحى الديكارتي سماه: "النحو التوليدي" وعند جان بياجيه ذات المنحى الكانطي سماه: المنهج البنيوي التكويني.

هذا المنهج مرتبط ارتباطاً مثلوياً بنظريات اجتماعية وبيولوجية "نفسية" لها تأثيرات عديدة على سيكولوجية الشاعرة ومنها: التحليل النفسي، العوامل الشخصية، ردود الأفعال السلبية منها والايجابية، حيث التقلب السلوكي الشخصي، المعرفة المكتسبة، أي مدى بُعد وعمق الخزين الثقافي عند الشاعرة. ولو أخذنا هذه العوامل مجتمعة ودرسناها عند هذه الشاعرة أو تلك، لوجدنا التفاوت العميق بين شاعرة تنتقد نفسها في حال تلمس غموض يكمن في الناتج الفني الشعري عندها. وبين أخرى تثور ثائرتها إذا أرا أحدا التصويب للغتها، فتحاول عبثاً أن تغطي على علاتها اللغوية والفنية، متهمةً الآخر بالتجني عليها، إذن الشاعرة والشاعر واحد يخضع كل منهما لهذه العناصر، التي توجب التعامل مع الآخر على أساسها، وتبيان مرادها من حيث نجاعته المشخصة فيه. والتي من مهمتها أن تفسر سلوكية المتكلم، هذا لأن معالجة المعلومة الانفعالية تعني قدرة الشاعرة على الفهم والاستبصار من خلال الحدس التنويري في المخيلة، وبيان ملكة الموهبة، هما من يهيء للشاعرة إنتاج إبداع يشخصها من حيث تمييز أدواتها ومقدار فاعليتها، بواسطة الوعي الكمي المنتج للجذر الفطري المعبر عن منتجها المادي التوليدي لمهارات المخيلة، المعبر عن الدوافع التي تحكم الجذر الإبداعي، أي البناء الانسيابي في شغلانية النص. فنجد الشاعرة عماره في اغلب قصائدها تدرج الخصل الإنسانية كمعالج حقيقي للنيات التي تحتاج للمعالجة العاطفية، أو السلوكية المبهمة عند الآخر، وهذا يتمثل في إدراك الوعي الحسي عند الشاعرة، وغايتها أن تصل إلى أهداف اجتماعية نبيلة.

ففي قصديتها: "لو أنبأني العراف" نجدها تعبر وتكشف عن قدرتها على استخدام الانساق الحسية الداخلية المشبعة بإرهاصات حيوية تكمن في المعالجة الفطرية في محاكاة الصوت الذي يولد في المشاعرية التي تصور الشيء، وهذا الاسلوب النوعي يسعي إلى الخلق النموذجي في مضمونه وشكله. ولعلني أجدني في قصيدة "العراف" أحوم حول مبتغاي فيما يختص بالمنهج الصوتي عند لميعة.

لو أنبأني العراف

أنك يوما ستكون حبيبي

لم أكتُبْ غزلاً في رجلٍ

خرساء أصلي

لتظلَّ حبيبي

لو أنبأني العراف

أني سألامس وجه القمر العالي

لم ألعب بحصى الغدران

ولم أنظم من خرز آمالي

لو أنبأني العراف

أن حبيبي

سيكونُ أميراً فوق حصانٍ من ياقوت

شدَّتني الدنيا بجدائلها الشقر

لم أحلم أني سأموت

لو أنبأني العرّاف

أن حبيبي في الليل الثلجيَّ

سيأتيني بيديهِ الشمسْ

لم تجمد رئتايّ

ولم تكبر في عيني هموم الأمس

لو أنبأني العراف

إني سألاقيك بهذا التيه

لم أبك لشيءٍ في الدنيا

وجمعتُ دموعي

كلَّ الدمعِ

ليوم قد تهجرني فيه

العلاقة بين الرومانسية، والصوت:

الرومانسي. أو العاطفي، أو لنقل ما يبثه الزمكاني الحسي في الدماغ، من إشارات للتخيل ذات الكفاءة الانفعالية. أو اللغة المبصرة لفهم الانتقالات والتغييرات المحركة لاستنطاق فاعلية الرمز، "العراف" وهو المنجم أو المتكهن من يدعي القدرة على كشف الغموض في كل الأزمنة، فنجده وكأنه يرى السر ما لم يراه غيره، فيبدأ في وضع الحلول الكاذبة للمعلومة الدالة على استبصار منظوره المقدس الفردي، وهذا ما ذهبت إليه الشاعرة بالكشف عن الحيل والخرافات والتمثيل، بعد أن اشارت إلى التناقض الذي يصاحب العراف في صوتيته، أو إشاراته، وتتفاعلاته الحسية مع الوهم، وكأنه تضيق فيه المناهل السحرية التي توهم زائرته، والشاعرة تخضع المستوى الفكري في معاينة شاعريتها كمنتج دلالي إرتقائي، يقوم على أساس التفاعل بين التفكير والمعالجة، فالصورة الشعرية التي قادت القصيدة من بدايتها حتى نهايتها جاءت أشبه بالساري تحركه الشاعرة باتجاه مبتغاها، فكانت هذه الجملة: "لو أنبأني العراف" فالعراف هو الرمز المستعار الذي يحكم المعاني لكي تصب بإرتقائية المعنى، المسوغ لتفوق معالجات الشاعرة للحدث، وغايتها تضاعف ثمرات المعنى، واتساع فوائده. أما الوجه الآخر لهذه الصورة فإنها تكمن في صيغة "لو" بمعنى لو كنت أعلم ما سيحدث من وراء هذه العلاقة لما تقربت وتفاعلت، لأن "لو" جعلتها الشاعرة مفتوحة الآفاق على كل المرامي لما سينتج من وراء هذه العلاقة، إذن فالمعنى الذي يدور من بداية القصيدة حتى اكتمالها ينصب بالبناء المدور، حيث تأخذ بالألفاظ إلى الالتزام بنسق واحد على مراحل علاجية مختلفة تهيأ للمستوى الفني رفعته، فتكون الإشارة الصوتية الداخلية هي المحرك الذي يقوم بفعل المسوغ التعبيري، أن يستخدم الدلالة كأداة للرمز "العراف" الذي استدعته الشاعرة من الواقع الشعبي، ووظفته بصفته الذات المنبئة، فأصبح التناسق "Consilience" يُكَيّفْ ويحافظ على سمو المعاني ودقتها.

لو أنبأني العراف

أنك يوما ستكون حبيبي

لم أكتُبْ غزلاً في رجلٍ

خرساء أصلي

لتظلَّ حبيبي

التتناسق بين "لو" و "أنك" أحدث توافقاً استقرائياً في بنية المعنى بوحدته، على اساس: لو أن العراف "الذات الشاعرة" أنبأ العاطفة أنكَ ستكون الحبيب، لما كتبت الشاعرة غزلا في رجل آخر، فالألفاظ بهذا السياق أحدثت هزة قوية في أعماق المعنى النوعي "Specific"، الذي أنصب في بنيته المفاجأة، فجعلته يتفاعل مع القدسية تصلي له خرساء "الرومانس" عبر الدلالة الصوتية الروحية، واللمس دون أن تنطق بحرف، لأن الصوت التعبيري يكون في التجلي عبر المناجاة الإشارية، وفي المحاكاة المعنوية، أشبه بمحاكاة الغيب، تحدث حين تتوافق مشاعرها مع مشاعره نفسياً، تحركها لغة الرغبة في التبادل الحبي.

لو انبأني العراف

أني سألامس وجه القمر العالي

لم ألعب بحصى الغدران

ولم أنظم من خرز آمالي

استعارة المعنى "النبأ" في الجملة الشعرية الأولى، التي بنيت القصيدة كلها على النطق بها بالتدوير، ومن ثم تبدأ الشاعرة بترتيب الجمل الشعرية المعنوية وفق سماتها الدلالية، التي تعالج بنيات المعنى واشتقاقاته، بخاصة أن الشاعرة أحاطت شاعريتها بالرومانسية الخفيفة الولوج حين قالت: "أني سألامس وجه القمر العالي"، ليس كل مباشرة في النسق الفني لا ينصب تصريفها بالتلازم الشعري، لأن المعنى سيكون متعبا للمتلقي، ولكني أرى أن هذه الجملة لم تيأس من تدفقها المعنوي، فقد حرضت المعنى على التناسق والتلازم، وأجازت النطق بتصريفها الدلالي، لذا كانت المباشرة غير المملة تثير شهوة القراءة والتتابع. فاللغة في هذه الجملة لم تحددها الغاية من الكتابة إنما هي الأدوات التي تزخر في مبتغاها التعبيري، ولذلك قالت في تمام المقطع الذي أكمل الصورة الشعرية قولها: "ولم أنظم من خرز آمالي" وهذا يعني الترتيب الذاتي، المسهب بخيالات ألق عبارة جانست الأوصاف والخواطر ضمن سلة تضيء بالشروق، وتفيض بالمشاعر، فاستعارت ثيمة "خرز" لكي تتم للتعبير دلالته الرياضية، وتعني التلاقح النسيجي في البنية المعنوية، أن يكون التعاطي العاطفي محسوساً بمقاربته الإدراكية، ولكي تستمر الشاعرة في ترتيب الصور الشعرية ضمن بناء حديث استعارت ثيمة "الحصى". ليكون التعبير أعمق تفكيراً، فنجد التسامي المعنوي بين "الحصى" و"الخرز" يبدأ النهوض بالألفاظ لأن تحدد معانيها القاسية، لكي تعزز من المقاربة بين الفكرتين: "الخرز" و "الحصى" بنسيج يبنى بفعله إنسجام ضمني يتسع بفوائده التعبيرية لغةً وفناً.

لو أنبأني العراف

أن حبيبي

سيكونُ أميراً فوق حصانٍ من ياقوت

شدَّتني الدنيا بجدائلها الشقر

لم أحلم أني سأموت

عودة للحكاية الشعبية التي تنطق بأحلام الفتيات اللاتي ينتظرن "القسمة" أو ما يسمى بالحياة الزوجية، فيأتي الحبيب على حصانٍ من ياقوتٍ، وربما يكون هذا الحصان يأتي كالطائر من مصدر هبوب ريح عذبة، حسب خيال العاشقة المنتظرة، أو الصانعة لهذا التمني، "Desire". ويكون الحبيب ذات شأن اجتماعي كبير حددته الشاعرة: "بالأمير". وقد أفاضت الشاعرة بقدرتها النحوية على معالجة بنيات المعاني ضمن نغمية النسق الصوتي، فاصبحت اللغة الشعرية في هذه القصيدة تعمل على إثارة مجموعة أفكار وانفعالات ومواقف حبيّة، وهو أشبه بالزخ اللغوي الفني في شاعريتها، مفعلة بذلك كياسة الكلام وذكاء المعنى، إذا ما تعرضت للنقد، أو التأثر، تصبح الشاعرية قادرة على ترجمة ابتكارها النحوي والفني، إلى لغة مؤثرة تتميز قواعدها اللغوية، وقوانينها الفنية.

تستمر الشاعرة ترسم بالكلمات، وتتميسم بالمعاني، على إيقاع الجدائل حين يراقصها الجسد فتزيد من أنوثة المرأة ولعاً وإعجاباً بنفسها، لا بل تحرك أدق مشيمات الأنوثة فيها. فالجديلة عند المرأة العربية أحد أهم عناصر المكون الجمالي، ومثير فتنتها، وقد قال الشعراء الكثير الكثير عن الفتنة المحركة لأنوثة تلهث بالرقة والمتعةً، وقولها: شدتني الدنيا بجدائلها الشقر" والشاعرة العربية مثلها مثل المرأة العادية تتغنى باللون الأشقر، لأن شعر المرأة العربية أسود في العموم، واللون الأسود يلائم الوجه الصحراوي المثير للوجد، والغني عاطفياً، حتى إنها أي الشاعرة لا تحلم يوما بالموت وهي بصحبة الأمير الذي جاءها معتليا حصان الياقوت.

لو أنبأني العرّاف

أن حبيبي في الليل الثلجيَّ

سيأتيني بيديهِ الشمسْ

لم تجمد رئتايّ

ولم تكبر في عيني هموم الأمس

تؤكد الشاعرة في كل قصيدة، أن خبراتها الأكاديمية، وثقافتها المنوعة، الفطرية منها والمكتسبة، على إنها تصوغ الإحساسات المشاعرية في المعاني المبتكرة في نشأة حداثة أسلوبها، وتنوع ما تبتكر من جمالية المحسوس الصوتي في باطنية جملها الشعرية، حيث أن قدرات الذكاء عندها هي المصنف على إنها المدلول النوعي، في اكتساب المهارة اللغوية والفنية التي جعلتها أساسا لارتقاء النجاح. فإذا كان سقراط قد عرف الإنسان من خلال عبارته الشهيرة: "أعرف نفسك" وتبعه ديكارت بعبارته الوجودية: "أنا أفكر إذن أنا موجود" وحال الشاعرة من حيث بنية الصوت التحويلي أرادت من خلال تقافة مدركاتها الحسية الواسعة، أن تحقق وتفعل نجاح هاتين العبارتين بقولها: "أن حبيبي في الليل الثلجيَّ \ سيأتيني بيديه الشمس" إذن هو الفعل المفكر بابتكار الشيء، لأن الجانب الوجودي واضح في بنية هذين الصورتين، فلغة التضاد أصبحت مطيعة، أي إنها جعلت من الحبيب يأتيها بيديه بالشمس فهو روعة الابتكار، وكأننا نقرأ أسلوب المغافلة، أن الحبيب رغم وجوده في الليل الثلجي، لكنه سيغافل الليل الثلجي، ويأتي لها وبيده الشمس، إله الدفْ المكون الأساسي للحياة، من كل ما يحيط بها من نعمة وخير وما إلى ذلك، فلولا الشمس لاتوجد حياة على الطبيعة، إذن فالشاعرة زاوجت المعنى في صورة قل نظيرها، لأنها جاءت بالحياة كلها أي الشمس.

في الجزء الثاني ساتناول أسلوبية المهارة الصوتية، وتنوع مناقشة الأفكار، والافاضة في بلاغة المدركات الحسية التحولية، في شعرها العمودي. وهذه القصيدة مثالاً:

جسر الرصافة

لمهى الرصافة في الهوى سفر لعيونها يتفجرُ الشعرُ

سهر الضياء على شواطئها وصحا على لألائها النهرُ

واثارت النيران رعشتهُ فتعلقته طيوفها الحمرُ

تكبو السموم فما تقاربها وتزورها الانسامُ والقطرُ

وابو نواس سامرٌ مرحٌ في كأسه تتألقُ الخمرُ

يومي لأهل الكرخِ في مرحٍ ما تؤجرون به هو السكرُ

دار نخيل الكرخ اطيبه فعلام طبع نزيله مرُ

ولما الرصافةُ في تأنقها بالكرخ ليس لها ذكرُ

ياثقل كرخي نجابذه لطف الهوى ووصاله نزرُ



في هذا المجال علينا أن نشير إلى اهتمام الشاعرة بالمكان الثلجي وهي تقصد روسيا وتأثرها بالمكان الذي كان يمثل الانتماء السياسي العاطفي بين اليسار العربي وبين الاتحاد السوفيتي الشيوعي سابقاً، فالشاعرة تتمنى لو أن فارسها يأتي في الليل الثلجي من جهة تلك البلاد.



00

00



من دواوينها الشعرية:

  • الزاوية الخالية 1960

  • عودة الربيع 1963

  • أغانى عشتار 1969

  • يسمونه الحب 1972

  • لو أنبائى العراف 1980

  • البعد الأخير 1988

  • عراقية





    هامش:
    1. سالفوي

    2. كتاب فصول عن المرأة هادي العلوي.

    3. بلاغات النساء لأبن طيفور

    4. نفس المصدر

    5. كتاب الموازنة لابن بشر الآمدي

    6. التطور المعرفي عند جان بياجيه

    7. نظرية النحو التولدي عند نعوم تشومسكي

    8. الوساطة للشيخ الامام عبد القاهر الجرجاني.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى