خيري حماد - 5 - الكائنات الغيبية في شعر شكسبير

الأشباح:

تشتمل الأشباح التي وردت في روايات شكسبير نوعين مختلفين:

أشباحاً مرئية وأشباحاً غير مرئية. أما الأشباح المرئية فهي التي في استطاعة كل شخص أن يراها ويبصرها. وأما الأشباح غير المرئية منها فهي التي اختفت عن أعين الجميع إلا عن أعين بطل الرواية.

استعمل شكسبير نظرية الأشباح في عدد غير قليل من رواياته ومؤلفاته، فهناك شبح في رواية الملك ريشارد الثالث لم يره إلا ريشارد وريشموند، وهناك شبح آخر في رواية يوليوس قيصر يعجز الخدم عن رؤيته بينما يظهر جلياً لبروتوس. وفي رواية سمبالين أشباح متعددة تظهر لبوشيموس في سجنه في حالة لا يراها الحرس والسجانون.

وكانت مخاطبة الأشباح تقتصر على نفر قليل ممن كانت لهم قوة التنبؤ والاستنباط، فكان في استطاعتهم أن يرسلوا الأرواح في مهماتهم الخصوصية. وقد ذكرهم شكسبير في كثير من رواياته كرواية سمبالين ورواية يوليوس قيصر بقوله: (قد استطعت التغلب على روحي الخفية بواسطة حيلك السحرية) وفي رواية ' بقوله: (هل يوجد هناك من مشعوذ يستطيع أن يزيل ما أمام عيني من الشك).

وهذا النوع من الرجال كان ينتظر منه الإلمام باللغة اليونانية واللاتينية والاضطلاع الواسع على الآداب القديمة. وتظهر لك هذه الميزة جلياً في رواية هملت عندما يظهر الشبح، فيقول مارسيليوس مخاطباً هورايتو: (إنك متعلم ومطلع على الآداب، ولذا وجبت عليك مخاطبته يا هورايتو).

ويصحب ظهور الأشباح عادة تغيير في الأنوار، فنرى ريشارد الثالث بتغير في الأضواء قبل ظهور الشبح؛ وفي رواية يوليوس قيصر نرى نفس الظاهرة بجلاء ووضوح، فيرى بروتس تغيراً في ضوء الشمعة يسترعي انتباهه ويهتف قائلاً: (ما لهذه الشمعة قد شحب ضوؤها؟ من القادم؟).

وتظهر الأشباح بصورة عادية مرتدية نفس الملابس التي كان أصحابها يرتدونها قبل موتهم. ففي رواية هملت يظهر الشبح بنفس الأردية التي كان يرتديها الملك قبل وفاته، وهذا ما دعا هورايتو إلى الهتاف قائلاً: (إنه ليشبه والدك تمام الشبه مرتدياً نفس الملابس والأسلحة التي كان يرتديها قبل وفاته؛ وفي رواية مكبث يظهر شبح بانكو بنفس الحلة التي وجد فيها قبل وفاته لساعات قليلة.

ولهذه الأشباح طبائع غريبة وأخلاق شاذة، فهي لا تستطيع احتمال الأسئلة الكثيرة بل تهملها. وفي رواية هنري السادس نرى الشبح وقد ضاق ذرعاً بالأسئلة الكثيرة التي وجهت إليه فأجاب سائله بقوله: (اسأل ما بدا لك ولكني لا أجيب إلا عما أريد الإجابة عنه) ز

وكانت الأشباح تفضل الصمت على الشغب والضوضاء، ولذا نرى بروسبيرو يطلب الهدوء التام عند ظهور الأشباح. وتختلف هذه المخلوقات الغيبية عن سابقتها بكونها لا تستطيع الظهور مطلقاً إلا عند سدول الظلام، فلا يظهر الشبح في رواية هملت إلا بعد غروب الشمس؛ وعندما يشعر باقتراب النهار يفر مسرعاً إلى عالمه العلوي. فالنهار والضوء عدوان لدودان للأشباح.

قال جبسن في ختام بحثه عن الأشباح: (إن المهارة والمقدرة التي أظهرها شكسبير في تصوير الأشباح لما يؤكد لنا اعتقاده الجازم بها) وهذا الحكم الذي يصدره ناقد معروف كجبسن لجدير بالتفكير والبحث. نعم إن شكسبير لم يوفق في بحثه عن الأشباح وتصويرها كما وفق في الساحرات والجنيات؛ فخياله المبدع الذي رأيناه سابفاً لا نشاهده في الصورة الحالية؛ وقد يكون هذا النقص ناتجاً عن عدم اعتقاده بالأشباح؛ خصوصاً وأن الرجل لا يحسن ما لا يؤمن به ويعتقد فيه، فكان بحثه تعوزه المقدرة، وينقصه الخيال الواسع والفكر العميق.

العفاريت: كان من السائد على معتقدات الناس في ذلك العصر أن العفاريت هم من سلالة الآلهة القدامى. وما عفاريت شكسبير إلا صور مصغرة من آلهة الرومان واليونان والفلسفة الشمالية، فهم مصدر شقاء وينبوع آلام. نعم إن مقدرتهم لم تصل إلى تلك الدرجة من القوة التي وصلت إليها مقدرات الساحرات، ولكنهم رغماً عن ذلك كانت لهم القدرة الكافية على الاختفاء بالشكل الذي يريدون.

وفي رواية تايمون أثينا نرى وصفاً مسهباً لهذا النوع من العفاريت عندما يتكلم المهرج قائلاً: (إنها روح شريرة تظهر مرّة بشكل سيد من الأسياد، وأخرى بشكل محام بارع، وثالثة بشكل فيلسوف شهير).

وكانت في بعض الأحيان تتخذ لها وسيطاً من بني البشر، فيكون لهن من روحه مكاناً يقمن فيه، ويعامل هذا الرجل (المسكون) عادة أشد المعاملة وأقساها، فهو عرضة للشتائم وشتى أنواع العذاب والهوان. وفي رواية (مهزلة الأخطاء) نرى بنسن يخبر خليلته بأن زوجها وخادمه قد أصابهما مس من الجنون، وأن العفاريت قد اتخذت من روحيهما مسكناً مريحاً، فمن الواجب إذن القبض عليهما وإيداعهما حجرة مظلمة.

وفي حديث غرامي بين روزاليذ وعاشقها رولاندز في رواية (كما تريد نرى الفكرة نفسها واضحة جلية؛ فهي تقول له: (إن الحب جنون، وما العاشق إلا مجنون يجدر به أن يكون حبيس غرفة مظلمة لا يدخلها الضوء؛ ولكن المحب لا ينزل به هذا النوع من العقاب، لأن الحكام والقضاة قد كانوا في نفس الحالة يوماً ما، ولذا كان من الواجب مداواته بالنصيحة والمشورة).

يندر أن تجد عفريتاً من هذه العفاريت يظهر بشكله الحقيقي على مسرح شكسبير؛ ولا أذكر في رواياته كلها غير مرة واحدة تراءى العفريت فيها للنظارة، وهذه المرة تقع في رواية هنري السادس عندما تدخل العفاريت المسرح بعد إلحاف شديد من الساحر (لابوسيل)، فيقومون بأعمال كثيرة تعد في حكم المستغربة الشاذة، فيدخلون دون أن ينطقوا بأية كلمة، ومن ثم يلقون برؤوسهم إلى الأسفل، ثم يرفعونها مرة ثانية ويغادرون القاعة حيث لا رجعة بعد ذلك.

من هذه الأعمال الغريبة التي كان العفاريت يقومون بها نستنتج أن هذه المخلوقات تعد من أغرب أنواع المغيبات، وتختلف عن سائر الأنواع الأخرى باختفائها الدائم في الهواء؛ وقد ختم جبسن بحثه عن العفاريت بقوله: (إن شكسبير لم يهتم بهذه المخلوقات اهتمامه بالأنواع الأخرى المشابهة لها؛ وإن معاملته الشاذة لها لجديرة بالاستهزاء بدل الإجلال والتقدير) وهذا الحكم على درجة كبيرة من الصحة والصواب؛ فلا نجد هنالك إلا عدداً قليلاً من الأماكن التي يأتي ذكرها فيها؛ ولو فرضنا جدلاً أن شكسبير ذكرها في عدة أماكن لرأينا أن ذكره لها لا يتجاوز عدداً من الأسطر؛ ثم يتركها على ألا يعود إليها ثانية. ومن هذا يظهر جلياً أن شكسبير كان يحتقر هذا الاعتقاد في العفاريت فلم يولها جانباً من اهتمامه.

(يتبع)

خيري حماد

مجلة الرسالة - العدد 122
بتاريخ: 04 - 11 - 1935

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى