بقادى الحاج أحمد - قتل في الضاحية الغربية

ضاع الدرب في المويه

عندما تصبح المدينة وضاحيتها مغسولة بالضوء كالنهار، تظهر وتبان المساحات المترامية الأطراف الخالية من العمران والشجيرات إلا القليل منها، تلك هي امدرمان وضاحيتها الغربية امدرمان الجديدة – امبدة - سابقا، في العقد السادس من القرن العشرين.

تتبع القصاص الأثر من شارع إلى شارع إلى أن خرج من البيوت في الضاحية الغربية في اتجاه فسحة اللاسلكى، إحياء امدرمان، السوق والبحر. اجتاز الأثر الفسحة في طريقه للسوق مارا بحي العرب. في السوق واجهه القصاص صعوبة كبيرة في تتبع الأثر ضاع منه أكثر من مرة، و أكثر من مرة عاد إلى نقطة حددها في حي العرب ليبدأ منها البحث و التعقب من جديد.

خرج الأثر من السوق في اتجاه البحر مارا بحي الملازمين. ضاع الأثر مرة أخرى عند البحر، هذه المرة - دخل الدرب المويه – ولم يخرج منها، لا عاد من حيث آتى، ولا ذهب إلى أي اتجاه آخر. ظل القصاص يضع في الاحتمالات؛ استقر به الرأي بأن الأثر عبر البحر إلى الضفة الأخرى. ذهب - كومر - البوليس بالقصاص إلى الضفة الأخرى، لم يخرج الأثر من الماء في النقطة المحا زيه لنقطة دخوله من الضفة الغربية، كذلك لم يخرج الأثر من الماء من أي نقطة أخرى، دخل الأثر الماء ولم يخرج، ضاع الدرب في المويه.

ليل فسحة اللاسلكي

بدأت الضاحية الغربية لام درمان، ببيوت قليلة، ثم أخذت في التوسع رويدا رويدا. فسحة كبيرة مترامية الأطراف تفصل بين الضاحية وامدرمان. عرفت باسم – فسحة اللاسلكي ، لا تشمل إلا الفراغ الطويل والعريض، وذلك العالي ذو الانور الحمراء التي تقول ليلا: أحترس! لا يسمح بالطيران المنخفض، هنالك ثلاثة مستويات من الارتفاع أمامك، على كل مستوى تؤشر لمبة حمراء؛ القائم في الجنوب ناحية المنطقة الصناعية هو برج الاتصالات. في الشمال من الفسحة توجد السلخانة وبالقرب منها ترقد الحفر التي تدفن فيها مخلفات الذبيح من دم وفرت وخلافه، الأرض المجاورة للسلخانة تحفر في شكل حفر منتظمة في صفوف، تشبه القبور، لكنها لا تستقبل إلا مخلفات الذبيح، ما عدا برج اللاسلكي ذاك العالي كالطود، والسلخانة بمبانيها وهناغرها الضخمة، وزرائب المواشي وحدائقها الخلفية، فان الفسحة خالية من العمران تماما، لذلك عندما يرخى الليل سدوله ويهبط الظلام، من وقت مبكر تنضم الرجل ويقل عابري ذلك الفضاء - راجلون أو على درجاتهم، إلا من اجل الشديد القوى وفى هذه الحالة يكون العبور جماعي، نادرا ما يكون فردى، أم السيارات فهي نادرة جدا، بحلول الظلام يحل معه أيضا انعدام الأمن في الفسحة، الليل لا يأتي وحده، يأتي بأبنائه معه؛ سكارى ورباطين - قاطعي الطرق.

النـــيــــــــل

الدنيا كانت صيف. تراجع ماء النهر وانحسر بسبب حرارة شمس الصيف الشديدة . قصرت المسافة بين الضفة الغربية في امدرمان والشرقية في مزارع شمبات. منذ الضحى ترى للشمس توهجا ولمعانا على صفحات الماء، كأنها تحط أشعتها هناك لترقص على صفحات الماء - رقصة النهار المشرق في يوم صيف.

عبد ربه كان في العقد السادس من العمر،مربوع القامة، قليل الكلام، نادر ما تجده في الشارع فهو أما في البيت أوفى المسجد أو مسافر.

عندما دخل عبد ربه الماء وخاض فيه قليلا، لم يواصل الخوض والسباحة حتى الضفة الأخرى، ولم يعود إلى اليابسة، واصل الخوض في اتجاه الشمال، متجها مع الأمواج نحو الشلالات، خاض وخاض في الماء، إلي أن وجد الشواطئ الرملية؛ عندها خرج من الماء، غسل هدموه وسيفه من الدماء، واستحمي، ورقد على الرمال، راح في نومه عميقة.

يا زول هيي ..

مسح القصاص الشاطئ الشرقي للنيل لم يجد للأثر مخرجا في منطقة شمبات. عاد مرة أخرى إلى الشاطئ الغربي في امدرمان، واخذ يمسحه أيضا، بدأ من كبرى امدرمان جنوبا، مارا بالموردة، الإذاعة،فالطابية حتى كبرى شمبات شمالا،القصاص يبحث ومعه أفراد البوليس عن صاحب الأثر بين الصيادين، والسماكة والمستحمين وغاسلي السيارات، لم يجدوه، طال بهم البحث والنهار كاد أن ينقسم، ولم يعثروا على الأثر ولا على صاحبه. توغل الكومر شمالا، وكلما فعل ابتعد عن الناس وانقطعت الرجل – انعدمت آثار الناس. من بعيد شافوا بياض، اقتربوا منه، كان البياض لهدوم مشروره بجوارها شخص نائم على الرمال.

أوقف البوليس الكومر بعيد، وبدأ القصاص يمسح الأرض بحثا عن أثر قدم الشخص الراقد، لم يجد اى اثر لقدم حديثة داخلة إلى الشاطئ من جهة اليابسة.

أقترب مع البوليس ببطء إلى أن وقفوا فوق الشخص النائم، لم يحس بهم النائم، شافوا السيف يلمع راقد جنبه، سحبوا السيف بالراحه بعيد.. كان النائم يهضرب ويهذى في نومه، مثل صاحب حمي الملاريا، الفرق بين الاثنين أن الأخير هذيانه تحت أشعة الشمس ، مذاع ومتلفز..

كان يقول كلمات مثل:

- الليلة مابخليك.
- الليلة يومك.
- يا بنت إل (...).
- هاكلى..هاكلى..
- أمسكي..امسكي.
- الليلية البنجيك مني منو؟

استعد البوليس بتعمير السلاح، ومع صوت تعمير البنادق،استعار الجاويش صوت مفجع بشع صائحا:

- يازول هيي .. قم راقد بتسوى شنو هنه؟

صحي النائم دفعة واحدة، قافزا إلى اعلي، يقايض في الهواء، كان يبحث عن السيف أم عن الغريم، لم يعطه البوليس الوقت الكافي، كبلوه والقوا به في صندوق الكومر، كانت رؤية القصاص لأثار قدمه والسيف وبقايا الدم على ملابسه، أصابع اتهام تشير إليه.

خيارات أبو شنب

كانت ضواحي مدن العاصمة الثلاثة في ذلك الوقت، كلها تشبه بعضها البعض تقريبا، في المساكن الطينية، والطابع الشعبي للمباني، وفى الفسحات التي تفصلها عن مدن؛ الخرطوم- بحري و امدرمان، وان اختلفت الفسحات في الحجم خلال النهار، ولكن في الليل كلها سواء، مثلها مثل حال انطفاء الأنوار.. تستوي الأشياء في الشبه.. يعم الظلام تمتلئ وتفيض منه الفراغات، ينتــشر زوار الليل في كل ناحية من النواحي.

تعرضت خدوم الداية ذات يوم لحادث، ظلت بسببه طريحة الفراش الأبيض في المستشفى لعدة أيام، ثم خرجت، دار الهمس في الحلة أن الحادث الذي تعرضت له خدوم لم يكن حادث عادى، بل كان اعتداء من مجموعة من المجرمين؛ تقول الرواية والعهدة على الراوي، عندما لم تتمكن خدوم من العودة للبيت قبل حلول الظلام ، وهى تعبر فسحة اللاسلكي، أو احد الفسحات الأخرى في العاصمة. قابلتها أو استدرجتها مجموعة من المجرمين. تقول الحكاوي انه عندما يقابل احد الرجال من ذوى الشنبات المفتولة وجهه لوجه مع الرباطين، إذا لم يكن يحمل مع الشنبات المفتول عكاز مضبب، يستطيع أن يعمله في الجماعة ضربا، لا يستطيع من المرور عديل كده.. رجاله وحمرة عين، وإذا لم يكن من أصحاب الذنود، ولم يسقط مضرجا بدمائه، لا يبقي إمامه إلا الخيار الأخير؛ يطلق ساقيه للريح، ويتوكل على الحي الدائم.

لم تمتلك خدوم اى من خيارات ابوشنب ، لذلك لم يكتفوا بالاعتداء الجسدي عليها، بل أرغموها على الرقص كما ولدتها أمها.. لم ينقذها من ذلك الوضع، إلا كومر البوليس ذو الجنازير الذي يجوب الإحياء و المناطق الخالية حولها ليلا، عندما سطعت أنوار الكومر كاشفه فجأة فروا جميعا وتشتتوا في الظلام كالوطاويط .. خدوم كانت أيضا تتلمس في الظلام، تبحث عن الهدوم، عن الستر.

الذبح غير المحسن ..

كانت خدوم في العقد الخامس من العمر،ذات وجه تحمله مقطبا دائما، لم تضيف له الشلوخ المطارق اى بعد جمالي، ظل وجهها كما هو بشكله السريالي، الذي لا يستطيع أمهر خبير تجميل أن يفعل معه شيء، سوى أن يقول:

- " له في خلقه شئون".

مع أنها معروفة ومشهورة في الحي، لكنها غير محبوبة من قبل الصغار والصغيرات خاصة، مع الوجه الصارى، كانت تحمل صوت مفجع بشع، كفرقعة سوط العنج تلهب به الصغار تنهير بسبب وبلا سبب، نجحت في توصل رسالة للصغار؛ بأنها لا تحبهم أبدا ، ومع ذلك هي أول من يستقبل المولود آو المولدة عندما يخرج أو تخرج للحياة لأول مرة، لعل ردت فعلهم الأولى هي السبب- إذا رافق ماء الرحم صوت مفجع كفرقعة سوط العنج، ليس لدي القادم/ة إلا مضاعفة البكاء والصراخ العالي .. ولعل عدم إنجابها للأطفال هو السبب أو لعل هناك سبب آخر.

كانت خدوم تقوم بعملها بنشاط ، ليس توليد الحمل، بل ذلك النشط المحظور - ختان البنات تمارسه في الحي والأحياء الأخرى والمدن الأخرى أيضا.

كانت خدوم وزوجها عبد ربه، يسكنان في بيت ناصة عند الشارع الكبير، كانت دائم تشاهد في الحلة وهى تخرج من بيت،أو تدخل في بيت حامله شنطتها تتقدمها صرامتها مع الصغار:

- ياولاد هوى أوعكم تضربوني بالكورة دى.
- أولاد ما عندكم أدب ولا احترام للكبار.
- ما مربين بس ولدوكوم.. وطلقوكم في الشوارع.

دائما لديه ما تأخذه على تصرفات الصغار.. كان في ذلك الزمان التجهم هو الوجه الذي يرتديه الجميع في الأماكن العامة، مضافا إليه التنهير- الزجر مع الصغار، لكن عند خدوم العياركان زايد ، عكس حنيه النساء المعهودة، هذا مع الصبية، أما مع الصبايا فالذبح غير المحسن عديل..

الدم يقطر..

بعد طول غياب عاد عبد ربه من تجارته هذه المرة، كثير من ناس الحي يقولوا انه بتاجر في الغرب، وناس تانيه بتقول انه بيذهب للصعيد عشان الزراعة والمتاجرة في منتجتها. لكن لأحد يعرف بالضبط ماذا يعمل عبد ربه، ولا إلى أين يسافر، دائما يتمتم بكلمات غير مسموعة حاملا السبحة في يده.

في اليوم الثالث لعودة عبد ربه، جاءه الخبر، عرف بفضيحة خدوم في الفسحة، في تلك الليل رقد ولم يقل شيء، في الصباح بعد أن طلعت الشمس، خرج وعاد و لم يكضب الشينه شال السيف، كانت خدوم راقدة في العنقريب الهباب، ومثل الذي ينجد في المرتبة، اعمل فيها السيف، وخرج شاهره والدم منه يقطر.

السيف المسلول

خرج من البيت، الدماء تلوث ثيابه و تقطر من السيف المسلول في يده، أول شخص قابله في الشارع أخذ بتلابيبه شاهرا السيف:

· الليلة البنجيك منى منو؟
· كررها وهو يهز السيف.
· الليلة البنجيك منى منو؟
· نظر إليه الرجل بثبات وقال:
· الله.. الله البنجينى منك.
· عرفتها.. أمشى.. يلا أمشى.

ترك الرجل وذهب كل في طريقه.

في داخل البيت كانت خدوم ترقد مضرجة بدمائها، بعد أن اعمل فيه السيف كيفما اتفق، ضربا و طعنا وتقطيعا، حتى صار جسدها المسجى على الأرض سابحا في بركة دماء.

ذهب في اتجاه شمس الصباح، ناحية السوق، وهو ذات الاتجاه الذي يؤدى إلي البحر.احضر الجيران الشرطة، التي أخذت الجثة للمشرحة، بمعاونة القصاص بدأ تتتبع الأثر المتجه شرقا نحو الصباح والإشراق.


بقادى الحاج احمد
مارس2008م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى