محمد يوب - التقاطعات السردية بين القديم والحديث

بالرغم مما يقال بأننا نعيش عصر الصورة الالكترونية واكتساح عالم الفضاء الرقمي؛ فإننا مازلنا نعيش زمن السرديات والمحكيات بمختلف أشكالها وأنواعها؛ لِمَا لها من دور كبير في البحث عن عوالم سردية جديدة تحاول القبض على المنفلت المتسارع في تحولاته داخل مجتمعاتنا؛ من خلال لملمة ما يتناسل في ساحة العلامات واللغات والأفكار والصراعات .
وتزداد السرديات متعة كلما عدنا إلى مسكوكاتنا التراثية للإطلاع عليها، وإزاحة التراب عن نسيجها الحكائي، وتقديمها في صينية من ذهب للقارئ العربي من أجل السفر في عوالمها الممكنة وغير الممكنة.

ومن بين النقاد الذين نظروا إلى التراث العربي عبر المرايا الارتدادية نذكر الدكتور إبراهيم الحجري، الذي سطع نجمه في مجال الكتابة الأدبية سواء من داخل بنية النص الأدبي (الإبداع) أومن خارجها(النقد)، وقد وقف مليا على النص التراثي العربي متمعنا في السرديات الرحلية وذلك في منجزه النقدي الأخير (النص التراثي العربي: دراسة مقومات السرد في الرحلة) وهو عبارة عن دراسة مفصلة للمدونة السردية في شقها الرحلي الذي تركه لنا العرب في الغرب الإسلامي وبالتحديد في الأندلس، مبينا غنى التراث العربي بمثل هذه السرديات بالرغم من الإهمال الذي طالها، و النهب التتاري والمغولي المغرض الذي دمر جزءا كبيرا منها، وحان الوقت للوقوف عليها لدراستها من منظور منهجي جديد يكشف عن جواهرها ومكنوناتها.
وقد أكد الدكتور الحجري أن هذه النصوص عابرة للأزمة دائمة الصلاحية لأنها نتيجة مجهودات ذهنية جبارة، تتصف بصفة الموسوعية والشمولية، تناولت مواضيع شتى منها التاريخي والشعري والفقهي والفلسفي، نقلها أصحابها أدبا بأن أضافوا إليها العمق التخييلي واللغة الأدبية السلسة التي ترقى بذائقة المتلقي مما جعلها خالدة وأبدية.
والخطاب الرحلي عبارة عن خطاب متخيل، يجمع في أحشائه العديد من أصناف القول، تستدمج بين الحديث والخبر، يصاغ بأسلوب سردي يتتبع فيه السارد الأحداث وينقلها من الواقع الواقعي إلى الواقع المتخيل، يقدم للقارئ المتعة الأدبية من جهة والحكمة والعبرة من جهة أخرى. وهو شهادة على العصر يعبر عن عادات وتقاليد الناس، ويكشف راهنهم السياسي وواقعهم الاجتماعي.
والسارد في الخطاب الرحلي هو الرحالة نفسه، لأنه صانع العالم الرحلي والفاعل فيه بشكل أساسي، يقدم منجزه الأدبي للقارئ لإشراكه فيه اندهاشا أو إعجابا أو حنينا... يورد فيه أخبارا مستفيضة حينا، مختصرة حينا آخر.
وما يجعل من التراث السردي العربي خالدا هو قدرة الأدباء تسجيل ما التقطته أعينهم، وسجلته أقلامهم على بياض الورقة بكل أمانة، اشتركت في كتابته جميع الحواس، عين الرائي، وأذن السامع، ومشاعر الأديب الشفيفة الرهيفة التي تختزل العالم بأدق الكلمات وأبلغ العبارت.
ولم تكن هذه الدراسة عابرة وإنما هي دراسة عميقة استند فيها الناقد إبراهيم الحجري على مصادر ومراجع التراث السردي الرحلي مستشهدا بأدلة قاطعة من أمهات الكتب الرحلية، معتمدا على منهجية دقيقة تناول فيها بنية الخبر الرحلي وبنية الفضاء الجغرافي والتبئير السردي ورؤية السارد...
ولعل هذه العناوين هي مكونات السرد الحداثي التي ينسج من خلالها الروائيون المعاصرون خيوط رواياتهم.
بمعنى أن مكونات السرد الرحلي القديم هي نفسها مكونات السرد الجديد، الفارق بينهما هو فارق في زمن الكتابة، أما سر جمالها ورونقها هو قدرتها على التقاط تفاصيل الحياة ومشاعر الناس وتداعي نفسياتهم، مما يبعتها على الحياة والخلود من خلال تعدد القراءات والتأويلات.
ويعتبر هذا المنجز النقدي الذي غامر به الناقد إبراهيم الحجري في الساحة الأدبية بمثابة جرس إنذار ينبه فيه الباحثين العرب إلى ضرورة العودة إلى التراث السردي الرحلي وقراءته قراءة جديدة تزيح عنه الغبار الذي علق به طيلة قرون طويلة، ودراسته دراسات أكاديمية جادة تستفيد منها الأجيال القادمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى