يس السر علي - الموءود

مدخل:
في هذا الزمان، كل ما مكث زمناً في قائمة المستحيلات أضحى ممكناً، وصار الأعوج مستقيماً، وتماهى العيب في الجائز، واهترأت حنجرة الحق.
ثم صاح القضاء: كوني، فكانت طينة البؤس شاعراً مثّالاً
إدريس جماع

النص:
منذ أن صرتُ أُشبه الآدميين، أصبحتُ أشعر بالعالم من حولي.. لكنَّه لا يأبه لي كثيراً، ولا حتى صاحب هذا السجن الضيق!. أعتقد أنني جزء من هذا الجسد الكبير.. أشعر به ويشعر بي.. يأتيني الطعام عبر حبل مجوف متصل بأحد جدران الغرفة.. أتصل به بطريقةٍ ما، فعندما يغضب أغضب.. يفرح فأركل أنا الجدار المقابل. أرى كل من يتحدث إليه وأسمعه؛ وكأنني أنظر إليه من خلف جدار شفاف.. أهمّ بالرد عليه؛ تمنعني الجدران فأركلها. لماذا أُوضع في مكان ضيق كهذا؟! لا أملك أي وسيلة للتعبير سوى الركل بأرجلي، فصوتي لا يمكن سماعه، هل يعلم هؤلاء أنني هنا بالداخل؟!
ينفرد جسمي الكبير مع جسد آخر.. أسمعه يقول: (اهدئي يا امرأة) وترد هي: (لا أقوى يا رجل). ما الفرق بين الرجل والمرأة؟! يتداعبان ويضحكان.. ينطفئ الضوء بالخارج، وأصبح أنا في ظلمتين.. يسكن كل شيء؛ حتى تلك التي تدور بالسقف.. يعلو الهمس والتنفس.. يلتصقان بشدَّة.. أرى في نهاية غرفتي الضيِّقة عصبة طويلة مستديرة، تقترب مني فتتسع فتحة النفق، وتبتعد لتنغلق.. لا بد أنني دخلت هذا العالم نتيجة اتحاد مثل هذا في يوم ما.. تضيق بي الغرفة وتتسع في حركة مضطربة.. يتداخل الجسدان حتى يَصعُب فرزهما.. يزدادُ التوتُّر واللهاث.. يتأوَّه بصوتٍ غليظ، وتتأوَّه بصوتٍ رقيق.. ثم ترتخي عضلات غرفتي لأتنفس الصعداء!. أشعر بأن الحرارة مرتفعة.
الآن لديّ يدان ورأس به عينان وأنف وأذنان، ورجلان هما أكبر أطرافي بينهما عضو ما، يشبه تلك العصبة المستديرة لكنه أصغر. كيف نبتت هذه الأشياء؟!. أريد عالماً أوسع لأركض برجلي.. لألوح بيدي.. أهناك غيري في غرفة كهذه؟! لأرى من يشبهني، أظن أن شكلي سيصبح مثل ذاك الرجل!. سأخرج في يوم ما.. أعيش الحياة كما ينبغي، سمعتها تقول: (إن بعض الناس طيبون)؛ أهم طيبون مثل ذاك الرجل؟. يجعلونها تضحك وتصرخ؟!، وتقول أيضاً: (إنهم يتبادلون الحب، ويتفقدون بعضهم، وهناك شمس تضيء عالمهم، وقمر يرسل شعاعه الفضي في ليالي سمرهم، وليلٌ ونهار، وثمرات ومأكولات طيبة، وملابس أيضاً!).. أنا متلهف لحياتهم تلك.
أنام معظم الوقت لتكبر أحلامي، لكن في هذا اليوم استيقظتُ مبكراً.. فالحبل الذي يصلني بالغرفة لم يمتلئ منذ أمس.. أرى سيدتي مستلقية على فراش أبيض، تتصل بها أسلاك موصولة بجهاز يصدر صافرات متتابعة.. يأتي شخص يرتدي الأبيض.. يتحسس صدرها بشيء معلق في أذنيه.. يُدوِّن شيئاً في مفكرته.. يتحدث مع شخص آخر.. ثم يدير هذا الأخير أزراراً مستديرة في الجهاز يمنة ويسرة، ويحقن تلك القربة المعلقة والموصولة مع منتصف يدها بسائل شفاف.. يضع يده على جبهتها.. يبحلق بعينيه نحو سقف الغرفة ثم يذهب.
استيقَظَتْ سيدتي.. تناولت بعض الماء.. تمنَّيتُ لو تستجيب لصاحب الزيّ الأبيض وتأكل شيئاً؛ فهي كلما فعلت ذلك أشبع أنا، لكنها لم تفعل، وقالت: (أريد إنزاله).. انقبَضَتْ عليّ جدران الغرفة.. فقد كانت تُحاول أن تجلس. فوجئ صاحب السماعة ورفض طلبها حتى قبل أن يفكر لثانية واحدة.. أخرج مذكرته وكتب عليها شيئاً. لحظات وكانت خارج ذاك المكان. وسمعتها تردد في نفسها ذات العبارة مرات ومرات، وفي كل مرة يزيد إصرارها وتنطقها بحرقة أكبر، وعندما يطفح كيل ضجرها تشتم أحدهم بعباراتٍ غريبة، ثم أخَذَتْها نوبةُ تفكير… كنتُ أنا أيضاً أفكر، فهذا هو الشيء الوحيد الذي لم تمنعني منه هذه الجدران الطرية.
طاقاتٌ جديدة بدأت تنبعث من صدري. سمعتهم يتحدثون عن الشوق، لكنهم بالتأكيد لا يعنون ما أشعر به تجاه هذه السيدة؛ إذ يمكنني الامتناع عن الأكل ليومين مقابل أن أرى وجهها؛ فهل يعنون ذلك؟. في هذه الأثناء قالت: (إنه الأصيل ولم تأتِ تلك الحمقاء بعد!)..
أحدهم طرق الباب.. تدخل سيِّدة نحيفة، يتدلّى من يمينها مربعٌ أسود.. تضَعَه على طاولة بالقربِ من السريرِ الذي تستلقي عليه سيدتي. سمعتهم ينادونها (داية).. تقترب من أذنيها.. تهمس: (سنقوم بذلك). شعرتُ أن الحديث يخصني.. أصغيتُ جيداً.. (سنخرجه حياً أو ميتاً).. ماذا فعلت أنا؟! هل لأنني أركل كثيراً؟! ألا أستحق أن أصبح مثلهم: حُراً؟!. لا أعرف ما هو الموت بالضبط، أظنه شعوراً قاسياً، عندما يحدث يمنع حدوث غيره ويفرض السكون على كل شيء.. وربما أن يتولى الآخرون أمرك؛ يعني أنك ميت بشكل أو بآخر.. حينما أخرج سأخبرهم بفعلتهم.
أنا قلقٌ جداً. فقدتُ رغبتي في الخروج شيئاً فشيئاً؛ فسبعة أشهر ليست كافية. بدأت أحلامي تتبخر؛ فعرفتُ أن العجز عن الحلم لهو إحساسٌ أقسى من الموت نفسه! أصابني أرقٌ شديد، لم أنَم مُذ سمعتُ ذلك الحديث. شعرتُ أنني لست محظوظاً. لَربما كان من الأفضل لو لم أركل تلك الجدران!
الشمسُ تزحف بعيداً وتنذر بالظلام. الغرفة بالخارج تتسع لأكثر من شخص واحد، عليها أشياء بأربع أرجل مربعة السطح، على إحداها الكثير من القطن وقطع القماش. تشمِّر السيدة الغريبة أكمام قميصها الضيق.. ترفع سيدتي رجليها وتحنيهما من عند الركبة مباعدةً بينهما؛ فبدا مجدداً ذاك الضوء في آخر الغرفة، لكن الفتحة أكبر الآن، وثابتة. كنت متلهَّفاً لتلك الأشياء التي سمعت عنها ولم أختبرها: أحلامي بالحب، اللهو، الأكل، الجري، الكلام، الشمس. بدأت السيدة الغريبة تضغط عليَّ من الخارج حيث أضع رأسي. تأخذ سيدتي نفساً عميقاً وتكتمه لِتَشتدَّ قبضةُ الجدران عليَّ وتدفعني نحو الضوء.. تزداد حرارة جسدي.. أنزلق نحو الفتحة التي بدأت تتسع كلما ضغطت أرجلي على الجدران لينساب باقي جسدي بسلاسة.. بدأتُ الانزلاق نحو الضوء؛ ذاك الشيء الأبيض الذي طالما تمنيت أن أراه! أحاول التشبث بأي شيء؛ كالغريق الذي يمسك بقشة (كما قالت سيدتي ذات ورطة!).. أصبح صراخها عالياً حتى أحسست بأوردتها ستنفجر. لامَس الهواءُ أرجلي ثم غَمَر كامل جسدي فأُغميَ علي.
الآن أصبحت جسداً لوحدي. كانت هيَ متعرِّقةً ولاهثةً، سيزول عنها الألم وستفرح حينما تراني. ثم وعيتُ شيئاً فشيئاً.. لن أزعجها بصراخي لأني أيضاً مرهق جداً.. لكن بطني فارغة وهذا يؤلمني، فصرختُ.. اندَهَشَتِ السيدةُ الغريبة.. واندهَشَتْ سيدتي! كأنهما لم تتوقعا أنني ما زلتُ حياً، وبدت حزينة ومحبطة؛ مثلي تماماً! تقول لي فطرتي أن الضحك يسحر الأمهات؛ لذلك حاولت الضحك لكن زاد صراخي، ولم أكن أتقن الضحك بعد.
أشعر بحنين إلى كرتين كبيرتين في أعلى صدرها، يدفعني إليهما إحساس بشهية مفرطة وجوع يومين. حملتني؛ فاقتربتُ من هدفي.. يجب أن تُقرِّبني أكثر حتى أمتصَّهما، وبدأتُ أفقد القدرة على الحركة، لكنها سارت بي، في تلك الليلة الشتوية، نحو منزلٍ مهجور، ليس به غرف، فقط أسوار كلها من الطين.
البردُ ألزم الناس مآويهم الدافئة. وضَعَتْني على الأرض وبدَأَتْ بالحَفْر. إحدى عينيها تتابع الحَفْر، والأخرى تتابع مُحيطَ المنزلِ الخالي. حينها، آخر أحلامي ودَّعني وصعد نحو السماء. الشوقُ إلى تلك الغرفة الضيِّقة يعتصر قلبي الآن: تذكرتُ الأمن والسلام، الهدوء، الطعام سهل الهضم، همَسَ لي خاطرٌ يائس: (الذكريات هي الكائن الوحيد الذي يستعيد حياته ذاتياً، ونشعر بها كما لو أنها تحدث الآن)!
إنها تتألم ومجهدة. ودَدْتُ لو أساعدها؛ لكنني جائع، ولا أستطيع حتى الصراخ؛ لأن فمي ملفوفٌ بذات القطعة التي تلُف بها جسدي. جعَلَتِ الحفرةَ بمقاسي تماماً، ثم أسقطتني. تألّمتُ؛ فأفزعها صوت ارتطامي. أهالت عليَّ التراب. امتلأ أنفي وفمي فاختَنَقْتُ. شعرتُ أن الكون يصرخ عنّي! مندَلَت التراب فوقي بأرجلها ليتساوى مع الأرض. وهبَّت ريحٌ غاضبة؛ ساعدتْها في تسوية التراب. نفضَت يديها، وتلثَّمَتْ بطرف ثوبها. استَطلَعَتِ الشارع، وهرَعَتْ نحو البيت تترنَّح من الإرهاق… حينها أدركتُ أن الجحيمَ تحت أقدام بعض الأمهات.



* قاص من السودان
(النص الفائز بجائزة مسابقة الطيب صالح للشباب في القصة القصيرة – 2015)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى