نجاتي صدقي - التجربة..

رآها تسير في بوليفار غامبيتا بباريس، وبرفقتها رجل سمين مترهل يكبرها بعشرين حولا على وجه التقريب، فظنها ابنته. . . ومما عزز فيه هذا الظن أن الرجل كان يسير إلى جانبها بخطوات آلية متئدة. . . في حين أن الفتاة كانت كتلة من النشاط والحيوية. . . وتسير وكأنها تقوم بحركات من الرقص الإيقاعي. . . وكان الهواء يعبث بشعرها الذهبي فيتطاير السنة هي أشبه بألسنة اللهيب. . . أما عيناها المتقدتان فكانتا لا تفتآن تتطلعان هنا وهناك.

ولما وقع نظرها عليه ابتسمت له، وظلت تتطلع فيه حتى صار خلفها، ثم أدارت رأسها نحوه ثلاث مرات. . . أما هو فقد آنسته عنايتها هذه به، فتتبع أثرها إلى أن ولجت مع الرجل فندقا صغيرا، ويبدوان الفتاة أحست أن الفتى قد اقتفى أثرها مستجيبا لندائها، فالتفتت إلى الوراء وهي تعبر عتبة الفندق وأومأت له برأسها، فأدرك بأن عليه أن ينتظر.

وبعد عشر دقائق نفرت الفتاة من الفندق، فاقترب منها الفتى، وصافحها كما لو أنه ربي وإياها. . . وصافحته هي كما لو انه عزيز على قلبها كان غائبا فأتى. . . وسارا جنبا إلى جنب. . . ثم بادرها الكلام بقوله:

أظن أنكما لستما من باريس؟

كلا، نحن من النورماندي.

ويلوح لي انه والدك. . . أليس كذلك؟

كلا إنه زوجي. . .

ماذا. . . زوجك؟. . . أنت فتاة يانعة يافعة وهو رجل يكبرك جدا، وسمين، ومترهل، وعديم الحيوية، فكيف قبلت به بعلا لك؟

كنت جاهلة ولم افقه معنى الزواج فوقعت في احبولة، وزوجت به. . . والآن أفقت إلى نفسي. . . فرأيت أنني في واد، وفتى أحلامي في واد آخر.

ولم أتيتما إلى باريس؟

لأنني أردت المجيء إلى مدينة النور هذه، مدينة اللهو والحب الاعمى، فطالما طالعت في الصحف الباريسية إعلانات وأخبارا مثيرة، فصممت على أن آتي إلى باريس بأية وسيلة كانت لأمتع نفسي بملاذها. . . ولأختبر آثامها ولوفي أيام قلائل!. . . فاختلقت المرض.

اعترت الفتى الدهشة من مسلك هذه الفتاة الجامحة. . . ففكر في أن يردعها عن غيها، ولكن الشيطان شدد عليه الوطأة، وزين له الإثم الذي هي تسعى إليه. . . فقال لها مبتسما: أبمأذونية أنت في هذه الساعة؟

قالت - أستحصلت على أذن من زوجي لمدة أربع ساعات لازور صديقة لي هنا، فالساعة الآن الخامسة، وعلي أن أعود إلى الفندق في تمام الساعة التاسعة مساء.

حملق الفتى في وجهها، وحملقت في وجهه، وشد على يدها وشدت على يده، فتأبط ذراعها وسارا في (بوليفار غامبيتا الطويل. . . ثم راح يسرد لها منهاجه لاستغلال هذه الساعات المعدودات على اكمل وجه، وقال - نذهب الآن إلى جامع باريس، فنأكل كبابا وبقلاوة، ثم نذهب إلى مقهى فنحتسي بعض المشروب، ثم نزور دار السينما. . . ثم نعرج على فندق لأخذ شيء ما. . . ثم نعود إلى فندقك في تمام الساعة التاسعة، أتوافقين؟

جدا. . . جدا. . . انه لمنهج ممتع.

يالها من أويقات عذبة سنقضيها معا في باريس.

هذا جل ما أتمناه. . . فأنت الطبيب الذي أسعى إليه. . .

أستمكثان طويلا في عاصمة النور؟. . .

ثلاثة أيام فقط.

شيء مؤسف حقا!

لماذا؟

أتسألين لماذا أيضا. . . انه ليشق علي أن أفارق هذا الجمال، وهذا الصبا، بمثل هذه السرعة.

أيهمك أمري بعد انقضاء هذه الأيام الثلاثة؟

احتار الفتى بما يجيب. . . أيقول لها انه لا يهتم بأمرها، فربما تعتبر ذلك إهانة لها وتنفر منه، أم يقول لها بأن أمرها يهمه جدا، فتعتبر ذلك إطراء، وترضى عليه؟. . . وبعد تردد قليل قال:

يهمني أمرك جدا يا عزيزتي. . . وثقي بأنني لن أنساك ما دمت على قيد الحياة، وسأراسلك دائما. بل سأبذل أقصى جهدي لكي أزورك في بلدك، كوني عند حسن ظنك بي. . .

وما إن سمعت الفتاة هذا الكلام حتى امتقع وجهها. وانطوت على نفسها، وهي تفكر في أمر غامض. . . وكان لسان حالها يقول:

هل ارتكاب الإثم في باريس يتطلب حبا؟. . . إنني لم آت إلى عاصمة اللهو والملذات لكي أجد لي زوجا ثانيا. . . إنني لا أود شخصا ليراسلني ويتتبعني من مكان إلى آخر. . . إنني تصورت اللذة الباريسية بمثابة كأس من الخمرة يحتسى على عجل، وينتهي الأمر أما وان هذه اللذة ستسبب لي متاعب ومراسلات ومطاردات فهذا ما لا أريده البتة.

ولما مرا بكنيسة في حيّ (مون مارتر) قالت الفتاة:

أتأذن لي بالدخول إلى الكنيسة قليلا؟. . .

فأنتفض الفتى، وقال - أتريدين الصلاة؟!.

قالت - اجل. . . لخمس دقائق فقط. . . انتظرني عند باب الكنيسة، كما انتظرتني عند باب الفندق.

مضت خمس دقائق، فصارت عشرا، وخمس عشرة. . . فانزعج الفتى ودخل الكنيسة فرأى في طرفها الأيمن جماعة من النسوة الضالات، والرجال الضالين، وأمامهم قسيس يتلو عليهم فقرات من الإصحاح الرابع لرسالة يعقوب فيقول:

(أيها الزناة والزواني!. . . أما تعلمون إن محبة العالم عداوة الله. . . قاوموا إبليس فيهرب منكم. . . اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم. . . نقُّوا أيديكم أيها الخطاة، وطهروا قلوبكم يا ذوي الرأيين، اكتئبوا ونوحوا وابكوا. . . ليتحول ضحككم إلى نواح، وفرحكم إلى غم. . . اتضعوا قدام الرب فيرفعكم).

أندس الفتى بين هذا الرهط من الناس باحثا عن فتاته، إلا انه لم ير لها أثرا. . . ثم أجال نظره في أرجاء الكنيسة، فلمح أن لها بابا اخر، فأشتبه بأن الفتاة أخطأت المخرج، فلحق بها. . . وإذ بلغ الباب وجده قسيسا يحاول إغلاقه فاستوقفه بلطف وقال له: عم مساء أيها الأب!

عم مساء يا بني.

أبانا. . . ألم تر فتاة خرجت من هذا الباب قبل دقائق معدودات. . . وهي تلبس قبعة قش واسعة الأطراف، مطوقة بشريط اخضر ينتهي بباقة صغيرة من الورد؟. . .

فأشاح القس بوجهه عن الفتى، وقطب حاجبيه. . . ثم قال:

أهذا أنت؟. . . اذهب في سبيلك يا بني. . . ولا تسخر نفسك لتجارب الشيطان. . . اجل. . . رايتها، واعترفت!. . . واغلق باب الكنيسة في وجهه. . .

نجاتي صدقي





مجلة الرسالة - العدد 690
بتاريخ: 23 - 09 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى